ألقى اليوم الجمعة المرشد الإيراني آية الله علي خامنئي خطبة الجمعة للمرة الأولى منذ 8 أعوام، وهي الخطبة الحادية عشرة له، بعد 10 خطب ألقاها طيلة السنوات الحادية والثلاثين الماضية تلك التي تقلد فيها منصب الولي الفقيه أو قيادة الثورة الإيرانية بدءا من العام 1989 بعد وفاة مؤسس الجمهورية الإسلامية والمرشد الأول للثورة آية الله روح الله الموسوي الخميني، ولئن استحوذت خطبة الجمعة في طهران على مكانة مهمة للغاية في تاريخ النظام الراهن إلا أن خطب الجمعة لخامنئي على ندرتها تنطوي على أهمية بالغة إذ اعتاد الرجل استخدام المنبر كصندوق بريد يرسل منه الرسائل إلى الداخل والخارج معا.
ولأن هذه الخطبة فرصة سانحة لا يمكن تفويتها لتحليل المشهد الإيرانى واستقرائه فى صورتيه الراهنة والمقبلة؛ فإن الاقتراب من العقلية الاستراتيجية لخامنئي ضرورة ملحة فى هذا الظرف الدقيق الذي تمر به الجمهورية الصعبة. وقبل الخوض فى تحليل الخطبة ومضمونها وما حملته من رسائل وما انطوت عليه من أفكار يجب الإشارة إلى أن أهميتها جوهريا تكمن فى عدد من العوامل المركزية:
أولا: لا تعد تلك الخطبة حدا فاصلا بين مرحلتين فحسب، بل تعتبر حدا فكريا وسياسيا بين توجهين، فى ظل اعتبار أن اغتيال قاسم سليماني حدث يمكن التأريخ به لما قبله ولما بعده، وفي ظل ترجيح أن يذهب خامنئي إلى المدى البعيد في تطبيق سياسته التوسعية في الإقليم تحت ذريعة الثأر لـ”دم الفريق”.
ثانيا: تكتسب خطب الجمعة لخامنئي مكانة مهمة فى تاريخ إيران المعاصر لدى أتباعه ووكلائه لجهة اقتفاء الأثر، ولدى أعدائه لجهة تحديد الاستراتيجيات المقبلة، ولدى الباحثين والمراقبين لجهة تحري وقع الأحداث الكبرى على صانع السياسات الخارجية للجمهورية الإسلامية.
ثالثا: كان الصف الأول للجمعة اليوم مشهدا نادرا لتحليل التحالفات الداخلية من حيث الشخصيات الحاضرة والغائبة، كما أعطى مؤشرا لا تخطئه عين على وضع الرئيس حسن روحاني في هذه التحالفات وتموضعه منها قبل أيام من الاستحقاق البرلماني، خاصة أن الرجل غادر الصلاة مبكرا؛ ما يعني اعتراضه على أمر ما، أو امتعاضه من شيء ما، ستسفر عنه الأيام المقبلة بجلاء.
إطلالة على التاريخ
تشير أغلب الوقائع التاريخية إلى أن علي خامنئي لم يصعد المنبر إلا بعد أحداث جسام في تاريخ إدارته لإيران. على سبيل المثال: خطب خامنئي الجمعة للمرة الأولى كولي فقيه في العام 1989 بعد انتخاب مجلس الخبراء له بمناسبة مضي أربعين يوما على وفاة الخميني وبالتحديد في النصف الثاني من شهر يوليو، وفي تلك الأثناء كان الرأي العام يشكك في جدارة خامنئي بالمنصب؛ لأنه ليس مرجعا ولم يحصل على مرتبة آية الله العظمى، وبالتالي حاول الدفاع عن نفسه وعن توليه السلطة أمام الرأي العام الداخلي.
بعد ذلك بنحو 8 سنوات عاد خامنئي وصعد المنبر في صيف العام 1998 بعد انتخاب محمد خاتمي رئيسا للبلاد، وفي هذا الظرف نشرت الصحف الإيرانية أن مجرد انتخاب خاتمي الإصلاحي بخطابه الفلسفي المنفتح على الغرب هو ثورة على الثورة، وعليه خرج خامنئي وأكد ثبات قيم الجمهورية الإسلامية وحاول في تلك الأثناء لملمة الكتل المحافظة والأكثر تشددا المؤيدة للنظام والتي استشعر بخبرته السياسية الطويلة أنها آخذة في التشرذم.
أما العام 1999 فقد شهد خطبتين لخامنئي، الأولى: ألقاها للدفاع عن نظامه بعد الإعلان عن سلسلة اغتيالات سياسية ثبت تورط شخصيات في وزارة الإطلاعات (المخابرات) فيها، وفي تلك الواقعة حاول المرشد أن يقول إن ثبوت تورط العناصر الحكومية في عمليات كهذه لا يعني بالضرورة تلوث سمعة النظام بالكامل، وفي الحقيقة لم تنطل تلك الكلمات وقتها على كثير من المراقبين الداخليين وعلى الرأي العام الذي انفجر في مظاهرات عارمة بدأت من جامعة طهران كالعادة يوم 8 يوليو 1999 وهو ما استتبع تدخلا عنيفا من قوات الأمن أدى إلى وقوع العديد من الضحايا بين مصاب وقتيل؛ لذلك كسر خامنئي عزلته عن المنبر وخطب الجمعة للمرة الثانية: لمحاولة تهدئة الرأي العام، وفي الحقيقة كانت تلك الموجة الثورية أول اختبار حقيقي لقدرة النظام الإيراني ـ تحت قيادة خامنئي ـ على البقاء على قيد الحياة سياسيا.
بعد عشرة أعوام بالتمام والكمال عاد خامنئي مرة أخرى إلى المنبر وتحديدا في صيف العام 2009 للحديث عن تداعيات الثورة الخضراء تلك التي اندلعت احتجاجا على ما قيل إنه “تزوير الانتخابات الرئاسية تلك التي فاز فيها محمود أحمدي نجاد”. ولكم انطوت تلك الانتفاضة على أهمية بالغة؛ لأن من قاداها هما رجلان من قلب النظام الثوري الإيراني ومن أقرب أتباع الخميني نفسه: مير حسين موسوي ومهدي كرّوبي.
بالتالي كان لزاما على خامنئي أن يخرج في تلك الخطبة مدافعا عن شرعية نجاد الذي انحنى وقبل يديه، ثم دفاعا عن نظامه بالكامل الذي واجه للمرة الأولى بعد 20 عاما من ولايته ثورة من داخله أدت تداعياتها إلى حدوث شرخ غائر في قلب الكتل المؤيدة لولاية الفقيه.
وكمنت أزمة خامنئي وقتها في أنه لم يكن يستطيع أن يصف كروبي وموسوي بالعمالة أو الخيانة؛ لأنهما لا يمكن التشكيك في ولائهما لروح الجمهورية الإسلامية التي أسسها الخميني، وعليه لجأ أولا: إلى قرار فرض الإقامة الجبرية عليهما، وثانيا: إلى دحض الأفكار الثورية التي تبنياها وأدت إلى انفجار لم يسبق له مثيل في أوساط الشبان المؤيدين أصلا لولاية الفقيه.
دلالات خطبة اليوم ورسائلها
تأخر خامنئي في الصعود إلى المنبر هذه المرة، ففي فجر الجمعة 3 يناير الراهن نفذ البنتاجون عملية اغتيال رجله القوي والمخلص وذراعه الطولى، قاسم سليماني. وبطبيعة الحال لم يكن من المنطقي أن يصعد الرجل إلى المنبر بعد ساعات من اغتيال سليماني؛ لأن وقع الكارثة لم يكن يسمح له باتخاذ القرار السياسي السليم ولا حتى الاستفادة من منبر الجمعة في إيصال الرسائل كما اعتاد على ذلك.
وحتى عندما قامت قوات الجو ـ فضاء التابعة للحرس الثوري بإطلاق الصواريخ على قاعدتي “عين الأسد” و”حرير” الأمريكيتين في العراق فجر الأربعاء 8 يناير لم يصعد خامنئي في الجمعة التالية. وأغلب التقدير أنه أراد الانتظار لاختبار الموقفين الداخلي والخارجي بعد فاجعة إسقاط الطائرة الأوكرانية، خاصة أن الواقعة كانت في الليلة نفسها لإطلاق الصواريخ وخصمت كثيرا من صورة النظام داخليا وخارجيا وعرضته لحرج بالغ ليس له نظير.
تمهل خامنئي للجمعة التالية وخرج اليوم وعبّر عن تلك الوقائع المتتالية بعبارة بالغة الدلالة، إذ قال: “أسبوعان مليئان بالأحداث الاستثنائية مرا علينا نستخلص منهما العبر”.
ولقد حاول خامنئي في خطبتي الجمعة اليوم التأكيد على أن اغتيال سليماني وإطلاق الصواريخ هما حدثين جللين يثبّتان دعائم النظام ويمكن البناء عليهما لاستكمال مسيرة الثورة الإيرانية، ويمكن أن نستقرئ ذلك من قوله: “هذان اليومان يعدان من أيام الله ومنعطفات التاريخ والصانعة للتاريخ وليسا من الأيام العادية”.
والواقع أن المرشد الإيراني استثمر الجمعة اليوم لإرسال رسائل متعددة الجهات في آن معا، وركز على أن العملية الإيرانية على القاعدتين الأمريكيتين “ليست ضربة عسكرية فقط بل ضربة لهيبة وسمعة أمريكا كقوة كبرى”. وقد ذهب خامنئي إلى هذا المذهب لاعتبارين أساسيين.
الأول: الرد على الذين يسفّهون من العملية ويقللون من جدواها خاصة أنها لم تسفر عن قتلى ردا على دم سليماني.
والثاني: القول إن إيران التي تجرأت على قصف قاعدة أمريكية علنا للمرة الأولى في التاريخ بعد واقعة بيرل هاربر 1941 قادرة على فعل ذلك مرات أخرى مع قوى أخرى. وهنا إشارة ذات دلالة إلى الدول العربية والأوروبية، خاصة أن بريطانيا أنشأت في إبريل 2018 قاعدة بحرية عسكرية قبالة سواحل البحرين على مرمى من الصواريخ الإيرانية بطبيعة الحال.
فاجعة سليماني وبيعة جديدة
الملاحظ في هذا الخطاب أنه أفرد مساحة كبيرة للحديث عن تداعيات فقد قاسم سليماني، وهو فقد يحظى بأهمية كبيرة لخامنئي على سبيل التحديد، إذ سيصعب على آية الله إيجاد بديل لسليماني أو تحضير من يقوم بمثل العمليات التي كان يقوم بها، خاصة أن سليماني اجتمعت فيه صفات نادرة من المنظور الخامنئي: الجدارة والطاعة التامة والقدرة على التحشيد والإيمان الكامل بولاية الفقيه، وهو ما يفسر لماذا أبقاه 21 عاما بالتمام والكمال في منصبه قائدا لفيلق القدس وهي سنوات لم يمنحها خامنئي لأحد غير سليماني قط.
للدلالة على ما سبق يمكن إعادة قراءة قول خامنئي في خطبة اليوم عن تلك الجزئية بالتحديد: “الشهيد قاسم سليماني كان من أقوى القادة وكان يفعل أمورا لا يستطيع قادة آخرون أن يفعلوها. على سبيل المثال: كانت هنالك منطقة محاصرة بالكامل إلا أن الشهيد سليماني دخلها بواسطة المروحية وكان هنالك شبان مقدامون ولم يكن لهم قائد ولكن وجود القائد سليماني بينهم بعث الحماس فيهم ليطردوا العدو الذي توارى من أمامهم”.
الحقيقة أن هذه العبارة لا تعبر فقط عن الأسى الذي خلفه رحيل سليماني، بقدر ما تعبر عن عدم ثقة خامنئي في القيادة الجديدة لفيلق القدس، والمؤكد في هذا الصدد أن اللواء إسماعيل قآاني ليس على مستوى سليماني ولا حتى قريب من مستواه، وهنا تكمن إحدى مشاكل النظام الإيراني الهيكلية، إذ لا يجهز البدائل والكوادر؛ لتركيزه على أهل الثقة وليس أهل الكفاءة والجدارة. قآاني من أهل الثقة؟ الإجابة: نعم. من أهل الكفاءة: الإجابة قالها ضمنا علي خامنئي اليوم.
استغرق خامنئي الخطبيتين للحديث عن كل الأمور العالقة ومنها قضية خفض إيران التزاماتها إزاء خطة العمل الشاملة المشتركة “الاتفاق النووي”، و”حادثة الطائرة الأوكرانية”، ومسألة “الآلية الأوروبية لفض النزاع في الاتفاق النووي”، و”الانتخابات البرلمانية” المقبلة، وحاول استغلال الحشود التي حضرت الخطبة لاستخلاص بيعة جديدة من الحاضرين بأهليته لحكم البلاد، واستمرار سياساته التصعيدية ضد الخارج والداخل على حد سواء.
خاتمة
مجمل القول إن خامنئي لم يكن ليصعد المنبر اليوم إلا لو أنه استشعر يقينا مرور نظامه بأزمات متلاحقة ومتتالية لم يسبق لها مثيل في الأربعين عام الماضية، ففي أسبوعين فقط: اغتيال رجله المقرب وذراعه اليمني في الإقليم، وحادثة إسقاط الطائرة الأوكرانية، والمواجهة المتصاعدة مع واشنطن في العراق، والاصطفاف الأوروبي الكامل مع الولايات المتحدة الأمريكية، والتكتل الإقليمي ضد إيران وعزلها تماما عن محيطها. بعبارة أبسط وأكثر اختصارا، وجد خامنئي نظامه في وسط عاصفة مثالية يعرف أن قاربه المتداعي لن ينجو منها إلا بمعجزة أسطورية كتلك التي سمع عنها من الأقدمين أو قرأها في شاهنامة الفردوسي.