في ظل الحرب الدائرة بين إيران وإسرائيل، ومع تصاعد تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه طهران، يذهب غالبية المحللين إلى أن إيران باتت محاصرة بين فكي كماشة وهما: الاستنزاف الإسرائيلي والتهديد الأمريكي بالهجوم المباشر.
وبالرغم من التعتيم الإعلامي المتعمد على الخسائر الإسرائيلية، تسعى طهران عبر إعلامها المحلي، إلى نقل صورة مغايرة لشعبها، مؤكدة على قوتها وثباتها في المواجهة، بهدف كبح تأثير الحرب النفسية وعدم دفع الجماهير للضغط على النظام.
يرى كثير من المحللين أن إسرائيل والإدارة الأمريكية تسعيان إلى تغيير شامل في النظام الإيراني، إما بإسقاطه كليًا أو بإرغامه على تغيير سلوكه والخضوع الكامل لشروطه. ورغم أن صانع القرار الإيراني يسلك طريقًا مصيريًا لا عودة فيه، يغفل كثيرون عن الطبيعة العقائدية الأيديولوجية لنظام “ولاية الفقيه”، الذي لا يقاتل من أجل السلطة فقط، بل يتحرك وفق أهداف عقائدية ذات طابع فدائي، يصعب معها قبول الهزيمة أو الخضوع.
بعد انتصار الثورة الإسلامية عام 1979 بقيادة الإمام الخميني، وُضعت خطة استراتيجية طويلة الأمد من خمس مراحل، تمتد كل مرحلة منها لعقدٍ من الزمن، بهدف تصدير الثورة إلى دول الجوار وتوحيد الأمة الإسلامية وفق منظور ثوري عقائدي. ظهرت هذه الخطة في وثائق وخطابات تُعرف بـ”الخطة الإيرانية الخمسينية”، وتقوم على ما يُسمى بـ”الكفاح الثقافي”.
إلا أن هذه الخطة لا تقتصر على الطموحات السياسية، بل تنبع من تركيبة معقدة تجمع بين البعد العقائدي الشيعي والنزعة القومية الفارسية، ضمن محاولة لإعادة صياغة دور إيران كقوة مهيمنة في العالم الإسلامي.
الجدير بالإشارة أن الجمهورية الإسلامية لا تتحرك فقط من منطلق ديني، بل ثمة تيار واضح داخل نظام آيات الله، خاصة في مؤسسات كالحرس الثوري وبعض الدوائر الفكرية، يرى أن إيران ليست مجرد دولة إسلامية، بل وريثة حضارة فارسية عريقة.
وهذا التيار يربط بين زواج الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب من “شهربانو” – ابنة يزدجرد الثالث آخر ملوك الساسانيين، وفق الرواية الشيعية – وبين امتزاج الإسلام الشيعي بالإرث الفارسي الملكي، ليُنتج ما يُعرف بـ”التشيع الإمبراطوري”، أو النسخة الإيرانية من الإسلام، التي تزعم أهليتها لقيادة الأمة. بناءً عليه، يطرح النظام الإيراني نفسه كمركز شرعي وتاريخي لقيادة العالم الإسلامي، ويُوظف التشيع كسلاح فكري سياسي لحماية هذه القيادة وتثبيتها.
اختارت الجمهورية الإسلامية التشيع الاثني عشري كإطار أيديولوجي لمشروعها الثوري، ليس فقط لأسباب دينية، بل لأنه نشأ كحركة سياسية تعارض الخلافة القائمة، وتؤمن بأحقية علي بن أبي طالب وذريته بالحكم. هذه النشأة السياسية للتشيع منحت هذا التيار قابلية للتمدد في أوقات الانقسام والتصدع داخل الأمة.
كما أن ارتباط نسل الإمام الحسين بن علي – وفق الرواية الشيعية – بالدم الساساني الفارسي، شكل نقطة رمزية جوهرية توظف لإبراز امتزاج “الدم المقدس” العلوي بالدم الملكي الفارسي، بما يعزز مشروعية القيادة الإيرانية من وجهة نظرها، على المستويين الديني والحضاري.
نحن إذا أمام نظام هو نتاج تراكمي لحضارات عالمية قديمة (الكيانية، الميدية، الأخمينية، الساسانية…) جمعت بين الروح الدينية (كالزرادشتية) والعقلية الإمبراطورية، ومع دخول الإسلام إيران في القرن السابع الهجري، سعت الدولة الإيرانية لدمج الدين بالإمبراطورية، لتكسب شرعية مزدوجة.
وخلال العصور المختلفة من الطاهريين إلى البويهيين والسامانيين فالصفويين والبهلويين، ظل لرجال الدين دور متباين بين التأثير أو الانسحاب أو التحالف المرحلي، حتى بدأ هذا الدور يتعاظم خلال فترة محمد رضا شاه البهلوي، تزامنا مع تزايد التهديدات الغربية لتقسيم إيران.
من هنا برز الخطاب الجديد للطبقة الدينية وهو: “لن تنجو إيران ولا فارس التاريخية إلا إذا قادها المذهب الشيعي، فالإسلام هو الحصن، ورجال الدين هم أوصياء الأمة”.
رغم أن نظام “آيات الله” ظهر في أعقاب تراجع الدعم الأمريكي لشاه إيران المعزول محمد رضا بهلوي بدءا من العام 1977م،، إلا أن القول إنه “صناعة أمريكية” بالكامل أو ثورة شعبية مستقلة هو تبسيط مخل.
فقد استغل الخميني هامش الحرية في فرنسا، وفجوة الموقف الأمريكي تجاه الشاه، إلى جانب قدراته في توظيف الدين والشارع، ليصعد إلى الحكم، وقد ظنت الإدارة الأمريكية آنذاك أن الخميني سيكون مجرد واجهة عابرة أو أداة ضغط، لكنه فجر المفاجأة بتأسيس نظام ثيوقراطي معاد للغرب بالكامل.
وهكذا تحولت إيران التي استُخدمت كحليف أمريكي في السابق إلى عدو مباشر، واليوم تقف في مواجهة مفتوحة معها، بسبب رفضها وقف برنامجها النووي والصاروخي. وكما وظفت مبدأ “التقية” الشيعية للمراوغة والتفاوض حتى تستكمل أبحاثها النووية، ثم قامت أمريكا بخدعها بالتفاوض السلمي، ودعمت إسرائيل لتنفيذ ضربة عسكرية نوعية تستهدف كيان النظام.
من المبكر الجزم بمصير النظام الإيراني، في أعقاب الحرب الإسرائيلية على إيران بدءا من فجر الجمعة 13 يونيو 2025م، خصوصًا وأن طهران نجحت في تصدير أيديولوجيتها إلى موالين خارج حدودها، ضمن شبكة من التابعين العقائديين.
ورغم الضربات المتتالية التي تلقاها وكلاؤها في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وخسائرها التي تكبدتها في الحرب الراهنة، غير أن كثيرًا من هذه الجماعات لا يزال قابلًا لإعادة التوظيف عند الحاجة، مع إمكانية إعادة لملمة الثغرات الأمنية داخليًا.
أما الرهان على اغتيال المرشد أو كبار قادة النظام كوسيلة لإسقاط الدولة، فيعكس قصورًا في فهم طبيعة النظام الإيراني وبنيته الصلبة. ويؤكد ذلك إعلان طهران عن خطة طوارئ محكمة، تتضمن وجود عشرة بدلاء جاهزين لكل منصب قيادي حساس (كمنصب المرشد الأعلى أو قائد الحرس الثوري) لضمان استمرارية القرار ومنع حدوث أي فراغ قد يربك إدارة الدولة.
وفوق كل ما تقدم يمكن القول إن إسرائيل تكبدت خسائر لوجستية وعسكرية وأمنية واقتصادية وبشرية غير معلنة بالكامل، وهذا ما دفع الولايات المتحدة إلى التهديد المباشر في محاولة لردع طهران ومنع تفوقها الذي قد يُعد هزيمة مدوية لإسرائيل وواشنطن معًا.
وقد تلجأ إيران في حال شعرت بأن نظامها بات مهددًا بالسقوط، إلى استخدام أسلحتها الإستراتيجية أو تفعيل أوراقها المؤجلة، كتهديد خطوط إمداد الطاقة بإغلاق مضيق هرمز، أو اتخاذ خطوات نووية تصعيدية.
ومع ذلك، لا يمكن الجزم بمن ستكون له الغلبة، في ظل تحولات إقليمية تجاوزت الحسابات السياسية التقليدية. والمرجح أن يطول أمد المواجهة، حتى تُحسم المعادلة إما بصدام حاسم أو بانهيار أحد الأطراف.