شهدت العلاقات بين إيران ومصر، خلال العقود الماضية، مسارًا حافلًا بالتقلبات والتحولات، فالبلدان، اللذان يُعدّان من أعرق الحضارات في العالم، عرفا في مراحل من تاريخهما المعاصر علاقات سياسية وثقافية وثيقة، غير أنّ هذه العلاقات دخلت بعد الثورة الإسلامية في إيران مرحلة من الجمود والبرود استمرت لسنوات طويلة.
العلاقات وثيقة بين الشعبين
على هذا النحو فإن هذا التباعد السياسي لم يؤدِّ يومًا إلى انقطاع كامل في الروابط الثقافية والذهنية بين الشعبين، إذ ظلّت إيران ومصر حاضرتين في الذاكرة التاريخية لكل منهما، كما استمرّ النظر إليهما بوصفهما فاعلين أساسيين في المعادلات الإقليمية.
من هنا، فإن احتمال مواجهة البلدين في كأس العالم لكرة القدم لا يُنظر إليه بوصفه حدثًا رياضيًا صرفًا، بل يتم التعامل معه كواقعة ذات حمولة رمزية واجتماعية تستقطب اهتمام الرأي العام.
اقرأ أيضا:
وعلى امتداد عقود، تشكّلت الصورة المتبادلة بين إيران ومصر، ليس على أساس التواصل الشعبي المباشر، بقدر ما تأثرت بالتطورات السياسية والإعلامية والإقليمية؛ لذلك، تكتسب كل فرصة تتيح مواجهة غير سياسية وشاملة بين الشعبين أهمية خاصة.
وفي الواقع توفّر كرة القدم، بوصفها رياضة جماهيرية وعابرة للحدود، مثل هذا الإطار، وبالتالي فإن وقوع إيران ومصر في مجموعة واحدة بكأس العالم يمكن أن يشكّل مناسبة لإعادة قراءة هذه العلاقات على مستوى الرأي العام، وهو مستوى قد يعمل أحيانًا بمعزل عن العلاقات الرسمية بين الحكومات، ويخلّف آثارًا أعمق وأكثر ديمومة في الوعي الجمعي.
الرأي العام في مصر وإيران
تُعدّ بطولة كأس العالم لكرة القدم من بين الأحداث القليلة التي تستطيع إشراك ملايين الأشخاص في تجربة جماعية واحدة وفي التوقيت نفسه.
وفي مثل هذا الإطار، يكتسب وقوع إيران ومصر في مجموعة واحدة معنى يتجاوز كونه مجرد نتيجة قرعة، ليغدو موضوعًا للنقاش والتحليل والتفاعل الاجتماعي في كلا البلدين.
وتؤدي كرة القدم على هذا المستوى دورًا إعلاميًا واسع النطاق، إذ تستنهض المشاعر الوطنية، والاعتزاز الجماعي، والتصورات الذهنية عن الآخر.
فالرأي العام في إيران ومصر، أثناء متابعة هذه المباراة، لا ينشغل بالنتيجة الرياضية فحسب، بل يكون ــ من حيث لا يشعر ــ بصدد إعادة تعريف نظرته إلى الطرف المقابل، وهي نظرة غالبًا ما تتشكّل تحت تأثير السرديات الإعلامية والذاكرة التاريخية.
وبفضل اتساع جمهورها والتغطية الإعلامية الكثيفة التي تحظى بها، توفّر بطولة كأس العالم أرضية مناسبة لتشكيل أو تعزيز السرديات الوطنية.
وفي مثل هذا المناخ، تتحول كل مباراة إلى حدث رمزي قابل لاكتساب دلالات تتجاوز حدود المستطيل الأخضر.
وبالنسبة لإيران ومصر، فإن وجودهما في مجموعة واحدة يعني تركيز أنظار الرأي العام في البلدين على بعضهما البعض في الوقت ذاته، وهو تركيز قد يترافق مع الفضول، والمقارنة، بل وحتى نوع من التعاطف المتبادل.
كما تتيح هذه الحالة فرصًا أوسع لنشوء حوارات غير رسمية في الفضاءين الإعلامي والرقمي، بما يشملهما من تبادل للآراء، والمزاح، والتحليلات، والانفعالات الجماعية.
الانعكاسات الاجتماعية في إيران ومصر
في إيران، من شأن مواجهة منتخب مصر أن تستقطب اهتمامًا واسعًا من الرأي العام، فبالنسبة لكثير من المتابعين الإيرانيين، تمثّل مصر رمزًا مهمًا من رموز العالم العربي وتاريخ المنطقة، ما يضفي على مواجهتها في محفل عالمي إحساسًا خاصًا بالأهمية والفضول.
وقد تسهم هذه المباراة في تعزيز الشعور بالهوية الوطنية والتماسك الاجتماعي بين الجماهير، ففي مثل هذه اللحظات، تتحول كرة القدم إلى عامل يولّد الفرح الجماعي، ويغذّي الحوار الاجتماعي، بل وقد يساهم مؤقتًا في تخفيف حدة الانقسامات اليومية.
اقرأ أيضا:
أما في المجتمع المصري، فغالبًا ما يُعرَف اسم إيران من زاوية سياسية أو إخبارية، ويمكن لمباراة كرة قدم أن تعدّل هذا التصور جزئيًا، عبر تقديم إيران بوصفها مجتمعًا حيًا يضم شعبًا متحمسًا وفاعلًا على الساحة العالمية.
ومثل هذه المواجهة، وإن كانت عابرة، فهي قادرة على تهذيب الصور النمطية الذهنية وخلق نوع من المعرفة غير المباشرة الأكثر إنسانية بين الشعبين، إذ إن مشاهدة صور المشجعين، وردود الأفعال على الأهداف، ومشاعر الحزن أو الفرح المتبادلة، يمكن أن تعزز إحساسًا بالتقارب الثقافي، وهو إحساس نادرًا ما يجد مجالًا للتعبير عنه في الأطر السياسية الرسمية.
دور الإعلام والتأثيرات الممتدة لما بعد النتيجة
تلعب وسائل الإعلام في إيران ومصر دورًا حاسمًا في توجيه الرأي العام حيال هذا الحدث، فاختيار العناوين، وطبيعة التحليلات، واللغة المستخدمة، يمكن أن يدفع المناخ النفسي للمجتمع نحو تنافس صحي وحماسة إيجابية، أو على العكس، من الممكن أن يعمّق المسافات الذهنية ويزيد منسوب الحساسية.
تمتلك وسائل الإعلام، عبر إبراز الجوانب الثقافية والتاريخية والإنسانية لهذه المواجهة، القدرة على تقديم كرة القدم كلغة مشتركة بين الشعوب.
وإذا ما ركّز الخطاب الإعلامي على قيم الثقافة، والاحترام المتبادل، وأهمية الرياضة بوصفها لغة عالمية جامعة، فإن هذه المباراة يمكن أن تترك أثرًا يتجاوز تسعين دقيقة من اللعب.
خاتمة
في المحصلة، فإن وقوع إيران ومصر في مجموعة واحدة بكأس العالم، بصرف النظر عن النتيجة النهائية، يُعدّ حدثًا اجتماعيًا وثقافيًا ستبقى انعكاساته حاضرة في وعي ومشاعر شعبي البلدين، إذ تستطيع كرة القدم، ولو لبرهة قصيرة، أن تشكّل جسرًا بين الرأي العام الإيراني والمصري، أينعم هو جسر مؤقت لكنه كاشف عن مدى قدرة الرياضة على التأثير في الذاكرة التاريخية، والمشاعر الجماعية، ونظرة الشعوب إلى بعضها البعض.