يخطئ من يتصور أن بإمكانه قراءة مستقبل إيران السياسي أو التنبؤ باسم المرشد الثالث، فإيران كما عودتنا دائما بلد المفاجآت والمتناقضات، ومن فرط غرابتها تجعل الباحثين والمتخصصين والمراقبين في حالة حيرة حول الأسماء أو الأحداث أو المآلات التي يمكن أن تنتهي إليها الأمور.
مَن كان يعرف محمد خاتمي أو أحمدي نجاد أو حسن روحاني قبل توليهم السلطة التنفيذية الأرفع في طهران؟! ومن كان يتوقع أن يصبح رجل دين لم يحصل بعد على درجة الإمامة العظمى مثل علي خامنئي قائدا للثورة بعد رحيل الخميني؟! ومن كان يظن أن عددا من رجال الصف الأول في الثورة الإسلامية سيحكم عليهم بتحديد إقامتهم أو إقصائهم من الحياة العامة مثل: آية الله حسين منتظري ومهدي كروبي ومير حسين موسوي؟!
“
هذه هي إيران التي يستعصي فهمها على أخص المتخصصين، مهما بلغت معارفه عنها وعن تاريخها وسياستها وثقافة أهلها وتراتبية الحكم والدولة فيها.
“
ولأن التكهن باسم المرشد المقبل أمرا عسيرا؛ فإن هذه الأسطر تحاول الاقتراب بالوصف والشرح والتحليل والترجيح والاستبعاد من عدد من الأسماء المحتملة والأقرب بحكم الظروف الداخلية وتفاعلات طهران في بيئتيها المحلية والإقليمية، ويمكن أن تشكل تلك الظروف مجتمعة حالة تجعل من أي من الأسماء الخمسة مرشدًا ثالثًا لإيران وقائدًا لثورتها الإسلامية التي تحكم البلاد بنظرية “ولاية الفقيه” منذ مطلع العام 1979.
صادق لاريجاني.. الحسيب المدعوم من الحرس الثوري
لا يعد رجل الدين المازندراني، صادق لاريجاني، شخصًا عاديًا في السياسة الإيرانية الراهنة، ففضلا عن جلوسه على قمة السلطة القضائية في طهران سابقا وحلوله رئيسا لمجمع تشخيص مصلحة النظام خلفا للراحل آية الله محمود هاشمي شاهرودي الذي توفي في ديسمبر 2018؛ إلا إنه يتمتع كذلك بعدد من المقومات التي تمكنه من تولي منصب المرشدية العليا، وعلى رأسها مكانته الدينية لدي آيات الله في حوزة قم.
فضلا عن ذلك فإن للاريجاني حسب ونسب رفيعين إذ يعد الابن الأوفى لآية الله هاشمي آملي، رجل الدين الإيراني الشهير، وشقيق علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى السابق وأحد المرشحين المحتملين للرئاسة في صيف 2021، وشقيق محمد جواد لاريجاني الفيلسوف والمُنَظِّر المعروف ومستشار المرشد الحالي للشؤون الدولية ورئيس جمعية حقوق الإنسان الإيرانية، وشقيق باقر لاريجاني عميد جامعة طهران للعلوم الطبية.
“
إضافة إلى ما سبق يتمتع صادق لاريجاني بدعم من مؤسسة الحرس الثوري النافذة في إيران، خاصة مع نشر عدد من وسائل الإعلام في نهاية العام 2016 أخبار مفادها أنه استقبل عددا من كبار قادة الحرس الثوري الإيراني وأعلنوا خلالها تأييده ودعمه مرشدا خلفاً لعلي خامنئي، وذلك بحسب تقرير تلفزيوني بثته محطة “دور تي في” الإيرانية.
“
الأمر المهم في السيرة الذاتية لصادق لاريجاني والذي يمكنه من تولي منصب المرشد عضويته في مجلس خبراء القيادة، ومجلس صيانة الدستور، وبالتالى فإنه يتمتع بالخلفية العلمية والنسب الأسري والظهير السياسي والخبرة السياسية والفقهية والقانونية لتولي المنصب حال شغوره.
حسن روحانى.. قِبلة آمال الإصلاحيين
صعد حجة الإسلام (لقب يوازي درجة الدكتوراه) الشيخ حسن روحاني إلى قمة السلطة التنفيذية في طهران منتصف العام 2013 ما يعني أنه يقف على بعد أشهر بسيطة من نهاية مدته الرئاسية الثانية، التي تنتهي في صيف العام 2021، والتي لم ينجز فيها من برنامجه الانتخابي إلا الانفتاح على أوروبا، من خلال التوصل إلى الاتفاق النووي في الفترة الرئاسية الأولى، وتوقيع عدد من المشاريع التجارية والاقتصادية مع الرباعي الأوروبى: ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وإنجلترا.
لكن مع صعود الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب إلى المكتب البيضاوي في واشنطن يناير 2017 وإعلانه إلغاء الاتفاق النووي في مايو من العام نفسه فضلا عن عدم تنفيذ الأوروبيين أي من المشاريع التجارية؛ فإن ذلك يعني في المحصلة النهائية أن روحاني لم ينجز أي من وعوده لناخبيه في برنامجه الذي صعد به إلى الرئاسة مرتين متتاليتين.
وبالرغم من ذلك فإن احتمالية إخفاق روحاني في الظفر بمنصب المرشد تبقى قائمة؛ نظرا لاجتماع عدم رضا قطاعات من المجتمع الإيراني على نتائج فترتتيه الرئاسيتين، فضلا عن متطلبات مواجهة واشنطن لدى السياسة العليا في طهران، وبالتالى من المحتمل خروج روحاني من بورصة المنصب حتى مع الإقرار بأنه بمثابة الأمل الوحيد للتيار الإصلاحي في تولي منصب المرشد.
أحمد جنتى.. 93 عاما وما يزال في قلب السلطة
في نهار الرابع والعشرين من مايو عام 2016 حسم آية الله أحمد جنتي منصب رئيس مجلس خبراء القيادة في إيران، وبذلك أبقى على خيارات بقائه في دوائر السلطة العليا بالجمهورية الإسلامية.
ويعد جنتي أحد رجال الدين المقربين من المرشد الحالي علي خامنئي ومن رجال الحوزة الذين يؤيدون مبدأ ولاية الفقيه الذي أرساه مؤسسة الجمهورية روح الله الخمينى، ولذلك فإن خامنئي لو كان له أن يوصي بمرشد بعده لأوصي لأحمد جنتي، وهو أمر يلقى ترحيبا من جانب الحرس الثوري أيضا؛ لكونه فضلا عن كل ما سبق، من أشد معارضي التيار الإصلاحي وبذلك يتقاطع جنتي وخامنئي والحرس الثوري في نقطة ضرورة تسييد التيار المحافظ على مفاصل الحكم في البلاد.
ويستند جنتي كذلك على تاريخ طويل من العمل السياسي والدولي، فإلى جانب كونه أحد أبرز معارضي الشاه وأحد مساعدي الخميني في أعمال الثورة التي أطاحت بالأسرة البهلوية المازندرانية يناير 1979، تولى منصب قاضي محكمة الانقلاب (انقلاب بالفارسية تعني: الثورة) التي شكلها الخميني.
“
وقد قضت تلك المحكمة بإعدام الكثير من المعارضين لمبدأ الولاية المطلقة، ومن بين الذين صدر حكم بإعدامهم كان ابن جنتي نفسه، الذي اتهم بالانتماء إلى جماعة “مجاهدي خلق” المصنفة إيرانيا باعتبارها منظمة إرهابية.
“
ولد جنتي بالعام 1927 بمحافظة أصفهان وسط إيران، أي إنه يبلغ من العمر نحو 93 عاما، وربما تكون سنه المتقدمة هي نقطة ضعفه لجهة انتقاد الخصوم حال الجلوس للاقتراع على تسمية المرشد الثالث بعد رحيل أو عجز المرشد الحالي علي خامنئي.
إبراهيم رئيسي.. من السلطة الرضوية للسلطة القضائية
قبل أن يصدر علي خامنئي يوم الاثنين الموافق السابع من مارس بالعام 2016 قرارا بتعيين حجة الإسلام إبراهيم رئيسي سادناً للعتبة الرضوية وهي مرقد الإمام الثامن علي بن موسى الرضا في مدينة مشهد، عاصمة محافظة خراسان رضوي، الواقعة شمال شرقي إيران، كان رئيسي يشغل منصب المدعي العام الإيراني ومدير مكتب التحقيقات العام، والمدعي الرئيس بالمحكمة الخاصة برجال الدين، لكنه ومع كل ذلك لم يكن معروفا لدى أغلب المراقبين المتابعين لتطورات الشؤون الإيرانية، اللهم إلا في أضيق نطاق.
“
بعد ثلاث سنوات بالتمام والكمال، وفي السابع من مارس بالعام 2019 أصدر المرشد الأعلى علي خامنئي مرسوما بتعيينه رئيسا للسلطة القضائية ويبدو أن خامنئي قد طلب من رئيسي مشروعا لتطوير المنظومة القضائية في البلاد، وعندما قدم له هذا المشروع الذي جاء تحت عنوان “وثيقة تحقيق التغيير في السلطة القضائية” أصدر قراره.
“
من وقتها حظي رئيسي بقدر كبير من الأضواء المصلتة على تحركاته السياسية وبدأ في الظهور كمصدر من مصادر الإعلام توضع تصريحاته وصوره في صدور الصحف الصباحية الطهرانية، كونه رئيسا لإحدى السلطات الثلاث، خاصة أنه يتمتع بعدد من المميزات النسبية التي تجعله يجلس متفوقا على كل أقرانه المرشدين المحتملين للجمهورية الإسلامية وهي كونه مرشح أصغر سنا (قرابة 59 عاما) من كل المرشدين المحتملين ذوي الحظوظ الوفيرة.
لكن المعضلتين اللتين تواجهان طريق رئيسي نحو قمة السلطة في إيران، هما، أولا: كونه لم يحصل بعدُ على درجة آية الله اللازمة للمنصب، وثانيا: المعارضة العنيفة المحتملة من التيارات السياسية الإصلاحية والمدنية نظرا لكونه واحدا من أعضاء ما يعرف بـ”لجنة الموت” والتي تنسب إليها التيارات السياسية ـ من بينها الحركة الخضراء ـ مسؤولية قمع المعارضين السياسيين المدنيين في العام 1988، تلك التي أنهت الوجود اليساري في الحياة السياسية الإيرانية تقريبا.
حسن الخميني.. الحنين لحلول الحفيد محل الجد
مات أحمد الخميني نجل مؤسس الجمهورية في يوم السابع عشر من مارس بالعام 1995 تاركا وراءه نجله، حسن، الذي ولد قبل نجاح الثورة الإسلامية بأزيد قليلا من 6 أعوام وتحديدا في الثالث من ديسمبر من العام 1972، وبعد نجاح الثورة ظهر حسن طفلا يجلس على فخذ جده ويلهو حوله وهو الذي تتلمذ على يديه ودان له بالطاعة كبار رجال النظام حاليا.
المؤكد في السيرة الذاتية لحسن الخميني أن المرشد الحالي علي خامنئي وقيادات الحرس الثوري لا يرضون عن انخراطه في الحياة السياسية ويفضلون بقاءه صامتا؛ لاعتبارات متعددة من بينها أنه قريب إلى تيار الشبان المعارض لعدم تداول السلطة في البلاد والذين يريدون شابا حيويا يصعد إلى منصب المرشد.
“
يعيد حسن إلى الأذهان الحنين إلى كاريزما جده آية الله الخميني لدى قطاعات كثيرة من المجتمع.
“
ومن المتوقع حال صعد إلى السلطة ـ في تصور الحرس الثوري ـ أن يعيد عصر الاستحواذ على السلطات السياسية والاقتصادية والدينية وبالتالي يحرم الحرس الثوري من مكتسباته تلك التي حققها في السنوات الخمسة عشرة الأخيرة وسيطرته على نحو ثلث اقتصاد البلاد، والتي تمكنه من تمويل حملاته العسكرية خارج الحدود الجغرافية لإيران.
وللدلالة على ذلك فقد ترشح حسن إلى مجلس خبراء القيادة في دورته قبل الأخيرة، إلا أن مجلس صيانة الدستور، الذي يجيز المرشحين لخوض الانتخابات، رفض أهليته من الأساس، وبالتالى حُرم من العضوية المهمة في أحد أكثر المجالس السياسية الإيرانية نفاذا وقربا من الدوائر العليا لصنع القرار.
ونظرا للاعتبارات السابقة إلى جانب كونه لم يحصل بعد على درجة آية الله فإن حظوظه في الوصول إلى منصب المرشد يعد أحد الأمور المستبعدة بالنظر إلى تعقيدات العلاقات بين السلطات الإيرانية الراهنة.
ــــــــــــ
مادة تنشر بالتزامن مع “رياليست” الروسية، طبقا لبروتوكول تعاون مشترك مع “المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية ـ أفايب”.