أعلن الرئيس الأمريكي في 8 مايو 2018 انسحاب بلاده من الاتفاق الذي وقعته 6 دول كبرى مع إيران، والذي يقضي في جوهره بتأخير برنامج طهران النووي خمسة عشر عاماً، مقابل إنهاء تدريجي للعقوبات المفروضة عليها، وأعلنت الولايات المتحدة عن استراتيجية جديدة تجاه إيران أهم ما ورد فيها التزام واشنطن بحرمان النظام الإيراني من جميع المسارات التي تؤدي لامتلاكه سلاحاً نوويا – بعد انتهاء خطة العمل الشاملة المشتركة التي كفلها الاتفاق النووي – ورفض ما تضمنه الاتفاق باسقاط القيود التقنية المفروضة على الأنشطة النووية بعد عشر سنوات، أي رفض ما استهدفه الاتفاق من تأجيل امتلاك إيران للسلاح النووي، والانتقال إلى اتخاذ كل الوسائل والضغوط للحيلولة دون امتلاك إيران للسلاح النووي بصورة نهائية، وهو ما يختلف تماماً مع استراتيجية الإدارة الأمريكية السابقة، ومعها الموقف الأوروبي، لتنتقل المواجهة إلى مستوى آخر قاعدته الأساسية منع إيران من امتلاك السلاح النووي، ومحاصرة برنامجها النووي وقدراتها النووية بصورة شاملة.
وتفرعت الاستراتيجية لتتناول ليس فقط الممارسات الإيرانية مع الإقليم وضرورة قطع أذرعها في العديد من دول المنطقة إلي الحديث عن ضرورة محاصرة نفوذ الحرس الثوري الإيراني داخلياً، ووقف برامجها لتطوير المنظومات الصاروخية الباليستية.
أولا: أبعاد المواجهة بين أمريكا وإيران
المواجهة الأمريكية ـ الايرانية إذن أصبحت مواجهة شاملة تستهدف خنق الاقتصاد الايراني من خلال برنامج عقوبات شاملة ومحاولة التزام دول العالم بالتوافق معها لإرغام إيران على المطالب الأمريكية والتهديد بتوجيه ضربات عسكرية إذا لم تلتزم إيران بالشروط الأمريكية فيما يتعلق بالبرنامج النووي والبرنامج الصاروخي والتدخلات في دول المنطقة.
انتقلت المنطقة، خاصة منطقة الخليج العربي، إلي مستوى من التوتر غير مسبوق، أيدت خلالها معظم دول المنطقة الاستراتيجية الأمريكية خاصة وقف التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية لبعض دولها، عبر تبني الأنشطة الهدامة للميليشيات المرتبطة بها، في كل من اليمن وسوريا ولبنان والعراق والبحرين.
الأمر الذي يثير عدداً من الأسئلة التي سوف نسعى للاجابة عنها، والتي من بينها إلي أي مدى يمكن أن يذهب الموقف الأمريكي تجاه إيران؟ وهل يمكن أن تحدث مواجهة عسكرية بين الطرفين؟ وما تأثير مجمل الاستراتيجية والتحركات الأمريكية على الأمن والاستقرار في الخليج العربي؟ وما هي تداعيات ذلك كله على الأوضاع في العراق واليمن وسوريا؟
الثابت أن إدارة الرئيس ترامب مقتنعة تماماً بضرورة تحجيم القدرات الإيرانية النووية والعسكرية وأن ذلك هدفا استراتيجيا لها، وأن لديها الاستعداد للذهاب إلى آخر المدى لتحقيق ذلك، وإذا كان من الواضح التأثير الإسرائيلي ـ نسبياً – على الموقف الأمريكي بهذا الخصوص، إلا أن هذا التوجه الأمريكي يحقق في الكثير من جوانبه مصالح أمريكية مباشرة وغير مباشرة تتعلق بالتجاوب مع مخاوف دول المنطقة من الممارسات الإيرانية ومحاولتها تقويض الأمن في دول الجوار، وهو ما ينعكس إيجابياً على العلاقات الاقتصادية الاستثمارية والتجارية الثنائية، ويفتح الباب لتعاون عسكري أوسع له انعكاساته الإيجابية على الطرفين، كما أن محاصرة القدرات الإيرانية العسكرية والاقتصادية سوف تؤدي إلي تحجيم الدور الإيراني ليس فقط في الخليج والمشرق العربي ولكن كذلك في دوائر ترى واشنطن أنها تمس مصالحها بصورة كبيرة خاصة أفغانستان والممرات الملاحية الاستراتيجية في الدوائر المحيطة بالمنطقة، فضلاً عن مسعى طهران لنسج تحالفات مع كل من روسيا والصين لا تتفق مع المصالح الأمريكية والاستراتيجية التي تنتهجها الإدارة الأمريكية الحالية في صراعها مع الدولتين.
ثانيا: اتجاهات الموقف الأمريكي إزاء إيران
الموقف الأمريكي على هذا النحو يتجه إلى ممارسة أكبر قدر من الضغوط على إيران لإرغامها على قبول الاستراتيجية الخاصة ببرنامجها النووي والصاروخي بالدرجة الأولى، والمراهنة على أن تؤدي الصعوبات المتوقعة للعقوبات الاقتصادية إلي دعم قطاعات شعبية تطالب بالتغيير داخل إيران، ولكن هل يمكن أن تؤدي هذه المواجهات إلى عمليات عسكرية مباشرة؟
تشير مراجعة المواقف الإيرانية على مدى السنوات الماضية إلى أن النظام الإيراني لا يسعى إلى هذه المواجهة التي لا تهدد القدرات النووية والعسكرية ولكنها تهدد النظام السياسي الحالي ذاته، خاصة مع دخول العقوبات الاقتصادية مرحلة التنفيذ وإعلان شركات دولية متعددة إيقاف برامجها الاستثمارية في إيران.
ففي التقدير أن النظام الإيراني سوف يسعى إلي تهدئة المواجهة، وتقديم تنازلات تبقى على البرنامج النووي كما ورد في الاتفاق السابق ولكن دون سقف زمني، يتحرر بعده من الضغوط والشروط على أمل أن يمكن تطويره مستقبلاً بدلاً من أن يخسره كاملاً، ولا شك أن ما أعلنه أحد كبار القادة في الحرس الثوري الإيراني بأن إيران ترى أن برنامجها للصواريخ الباليستية لا يحتاج ـ حاليًا – لمزيد من التطوير يعتبر تنازلاً كبيراً على هذا المستوى، ومحاولة لتخفيف الضغوط خاصة وأن هناك قرارين لمجلس الأمن يحظران تطوير هذا البرنامج، كما أن الموقف الأمريكي والأوروبي يلتقيان بخصوصه.
ثالثا: احتمالات الخيار العسكري
الخيار العسكري إذن مستبعد في المرحلة الحالية رغم الضغوط الإسرائيلية، ولا يمكن الاعتقاد أن إيران يمكن أن تغامر بممارسات يمكن أن ترجح في تنفيذ هذا الخيار، وسوف تبقى تهديداتها بإغلاق مضيق هرمز جوفاء، ولن تقوم بأي إجراء بهذا الخصوص، ومن ناحية أخرى فإنه بمقياس القوة الشاملة مع التركيز على القدرات العسكرية فإن التوازن العسكري بين إيران ودول الخليج العربية ليس في صالح إيران رغم ما يُثار حول قدراتها الصاروخية، كما أن الحضور العسكري الأمريكي والغربي داخل الخليج وفي الدوائر القريبة منه يُرجح استبعاد أي مغامرة عسكرية بين الطرفين، وأن سياسة الردع العسكري الأمريكي سوف تحافظ على تحقيق ذلك بصورة كبيرة.
وهكذا، يشير الوضع الحالي إلى العلاقات بين طهران وواشنطن دخلت مرحلة يمكن تسميتها بمرحلة “إحراق أوراق الضغط” وتأثير كل طرف لدى الطرف الآخر ومحاولة إرغام واشنطن لطهران للتجاوب مع مطالبها، وإن كان من الضروري لفهم ذلك الإشارة للاعتبارات التالية:
ـ إذا لم يكن من المرجح أن تحدث مواجهة عسكرية شاملة بين الولايات المتحدة وإيران حالياً إلا أن ذلك لا يمنع من احتمال توجيه ضربات لأهداف منتقاة عسكرية ونووية يمكن أن تشارك فيها إسرائيل إذا زاد التعنت الإيراني واستأنفت طهران برنامجها النووي وتجاوز سقف التخصيب اقتراباً من السلاح النووي، وهو احتمال ضعيف ولا يتصور أن تذهب إليه إيران.
ـ أن ميادين النفوذ الإيراني في المنطقة خاصة العراق وسوريا واليمن ولبنان سوف تكون مجالاً للتأثر والتأثير فيما يتعلق بتطور المواجهة الإيرانية الأمريكية، وإن اختلفت طبيعة قتال كل ميدان منها عن الآخر فيما يتعلق بالحصار والمقاطعة الاقتصادية الأمريكية لإيران والتي تستهدف تجفيف الإيرادات والموارد الإيرانية لزيادة انهيار العملة وشل قدرة النظام في توفير الاحتياجات الإساسية للمواطنين الإيرانيين، فإن أهم تداعيات ذلك سوف تكون خفض المساعدات المالية والعسكرية للميليشيات المرتبطة بإيران في تلك الدول من دون التخلي عنها أو دفعها للاستسلام، فهي بمثابة أوراق ضغط يمكن أن تستثمر كعناصر مساومة في إطار المواجهة الشاملة بين إيران وأمريكا، وقد يكون دفعها للتجاوب مع بعض الصيغ الخاصة بحلول سياسية خياراً مقبولاً مرحلياً للمحافظة عليها وتثبيت النفوذ الإيراني.
ـ ليس من المتوقع أن يشارك العراق في عمليات المقاطعة والحصار الاقتصادي على إيران، خاصة بالنظر للتركيبة السياسية والمذهبية للقوى السياسية المؤثرة في العراق وكذلك بالنظر لمعادلات وتوازنات القوى فيما بينها، بل إن العراق يمكن أن يكون أحد نوافذ إيرن لكسر المقاطعة والعقوبات الاقتصادية أو التهرب منها، ويؤكد ذلك أن البيانات والمؤشرات الدالة على حجم الوجود الاقتصادي الإيراني في العراق وحجم وطبيعة التبادل تكشف عن حجم الاعتماد التجاري بينهما، وميل الميزان التجاري لصالح إيران بصورة كبيرة، فضلاً عن امتلاك الشركات والبنوك الإيرانية فروعاً ضخمة لها في العراق سواء في المحافظات الوسطى أو الجنوبية أو منطقة كردستان، وهناك تعاون عراقي ـ إيراني في مجال استخراج النفط وتبادل المشتقات النفطية العراقية مقابل النفط الخام الإيراني، وإن كان هذا التعاون الثنائي بين البلدين لن يرتب اختراقاً كبيراً لمنظومة العقوبات وذلك قياساً بما يجري في فترة العقوبات التي سبقت توقيع الاتفاق النووي
رابعا: الوجود الإيراني في سوريا
وفيما يتعلق بالوجود الإيراني في سوريا، فإنه من المتوقع أن يؤدي تجدد المقاطعة الأمريكية لإيران إلي تقليص المساعدات الاقتصادية الايرانية المباشرة للحكومة السورية، وسوف يحد هذا الأمر من قدرة إيران على المشاركة في الجهود المستقبلية لإعادة إعمار سوريا، خاصة في المناطق التي تتمتع فيها طهران بنفوذ على الأرض والمناطق التي قررت الدول الكبرى ألا يتم بها عمليات إعمار نظراً للحضور الإيراني بها وهو ما سوف يترك تداعيات سلبية على الحضور الإيراني بصفة عامة في سوريا.
ويُشار في هذا السياق إلى أن طهران تُعد الداعم الأول للنظام في الجانب الاقتصادي، ويقوم النظام بتوجيه هذا الدعم بشكل أساسي لخدمة اقتصاد الحرب، كما يُشار إلى أهمية سوريا الاقتصادية لإيران، إذ إن إيران تقدم دعم للنظام وتأخذ ضمانات سيادية مقابل هذا الدعم بهدف السيطرة على بعض مفاصل الاقتصاد السوري، ويأتي ذلك في ضوء رغبتها في فتح خيارات سياسية للمستقبل والاستفادة من تجربة الثمانينيات عندما قدمت نفطاً إلي الحكومة السورية، وبقيت أزمة الديون عالقة إلي نهاية التسعينيات واستخدمتها إيران كورقة تفاوضية خلال عقد التسعينيات عندما تحسنت العلاقة بين دمشق وكل من دول الخليج والغرب.
وعلى المستوى العسكري، من المرجح أن تكون سوريا الميدان المباشر للمواجهات الإسرائيلية ـ الإيرانية خلال الفترة المقبلة، وهو ما يحدث بصورة جزئية حالياً من المتوقع أن يوفر الموقف الأمريكي في مجمله غطاء لأية مغامرات عسكرية إسرائيلية مقبلة ضد إيران أو حلفائها على الساحة السورية، وسيتصاعد التصعيد الإسرائيلي ضد الأهداف الإيرانية في سوريا خلال الفترة القادمة، كما أنه من المرجح ألا تحدث مواجهات عسكرية مفتوحة بين الطرفين الإيراني والإسرائيلي، وفي التقدير أن تقتصر على ضربات جوية لمواقع إيرانية على امتداد سوريا، خاصة في المنطقة التي تمتد بين العاصمة دمشق وحدود الجولان المحتل، حيث تعتبر إسرائيل أن تلك المنطقة يجب أن تكون منطقة عازلة لا تتواجد فيها قوات إيرانية أو حلفائها.
خامسا: العامل اليمني ودعم إيران للحوثيين
من المتوقع أن تحافظ إيران على دعمها للحوثيين في المرحلة الأولى كورقة ضغط لتستمر في الحوار مع دول المنطقة وبما يدفع ذلك الحوثيين إلى التشدد ورفض التجاوب مع جهود الحل السياسي، إلا أن مواصلة إطلاق الصواريخ الباليستية يمكن أن يدفع واشنطن إلى اعتبار ذلك تهديداً مباشراً للاستقرار والمصالح الأمريكية ومبرراً لإجراءات حادة مع إيران.
الأمر الذي يحسم وجهة نظر بعض المصادر الغربية والأمريكية حول ترجيح أن توازن إيران بين مواصلة موقفها على هذا النحو أو توفير مبررات إضافية لمزيد من العداء غير المحسوب مع أمريكا وبالتالي يدفع ذلك إلى أن يكون اليمن مجالاً لإثبات حسن سلوك النظام الإيراني والتجاوب مع جهود الوساطة المبذولة حالياً إذا أدركت إيران مخاطر دورها على هذا المستوى.
ولا تزال المعطيات الحالية تشير إلى العكس من ذلك، حيث لاتزال إيران تقدم دعمها للميليشيات الحوثية لمساعدتها على الصمود أمام عملية تحرير الحديدة فقد أكدت مصادر يمنية ضلوع إيران في تدريب 500 حوثي بالتنسيق مع قوات الحشد الشعبي في بغداد خلال الستة أشهر الماضية بعد أن يتم تهريبهم عبر سوريا أو لبنان وصولاً إلى العراق ضمن استراتيجية إيرانية تربط بين الميليشيات التابعة لها في كل الدول العربية، وبالتالي فإن التطوارت في اليمن سوف تبقى مجال الاختبار الرئيس لطبيعة التوجهات الإيرانية ومدى ما تشهده سياساتها من تشدد أو مرونة.
سادسا: الدور الإيراني في لبنان
لبنانيا، من الواضح حرص كل الأطراف على عدم تأثر الأوضاع هناك بهذه التداعيات واستيعاب التوترات المرتبطة بها وعدم الدخول في مواجهات عسكرية على الأراضي اللبنانية والمحافظة على معادلة التوازن التي تحكم العملية السياسية حالياً والتي تحافظ على حجم الاستقرار الحالي، وتحصين لبنان بقدر الإمكان من التداعيات السلبية لهذه التطورات.
وبصفة عامة، يمكن القول إن الاستراتيجية الأمريكية المرتكزة على العقوبات الاقتصادية، ومحاصرة البرنامج النووي الإيراني والحيلولة دون امتلاك طهران للسلاح النووي ووقف التدخلات الإيرانية في دول المنطقة؛ لتحجيم الدور والنفوذ الإيراني في المنطقة تحمل في طياتها الكثير من عناصر التوتر وتهديد الاستقرار في المنطقة إذا تصاعدت المواجهة.
الأرجح أن الأهداف الرئيسية لهذه الاستراتيجية على مستوياتها المختلفة لن تتحقق بصورة كاملة خاصة عملية تصفير الصادرات البترولية أو التخلص من البرنامج النووي الإيراني ووقف التدخلات الإيرانية والنفوذ الإيراني في دول المنطقة.
صحيح أن كل ذلك سوف يشهد تغييراً كبيراً وتراجعات إيرانية لكن على الجانب الآخر من المتوقع أن تكون هذه الاستراتيجية تتبنى سقفاً أعلى لكنه يكون قابلاً للتفاوض والتجاوب نسبياً إذا ما قدمت طهران تنازلات بخصوصها، خاصة إلغاء السقف الزمني للتخصيب ووقف تطوير برامج الصواريخ الباليستية ومراجعة تدخلاتها في بعض دول المنطقة.
خاتمة
تزيد مجمل هذه التطورات بما تحمله من تداعيات عسكرية واقتصادية وسياسية من مظاهر التوتر في المنطقة ولكنها لن تهدد الاستقرار والأمن فيها بصورة كبيرة بالنظر إلى معطيات الواقع الحالي، وفي ظل تماسك الموقف الخليجي وحجم المساندة الدولية للموقف الأمريكي لقبول نوع من المرونة يسمح بتطويع الموقف الإيراني، وكما قال الرئيس الأمريكي مؤخراً، أنه بعد إعلان الاستراتيجية الأمريكية الأخيرة فإن رسائل إيران أصبحت أكثر تأدباً وأنه ينتظر تجاوباً إيرانياً، فإن ذلك يشير إلى أن الإدارة الأمريكية ستواصل الضغط على إيران على أمل تطويع موقفها وإيجاد صيغة جديدة لاتفاق نووي وسياسي يستوعب المطالب الأمريكية.
ـــــــ
(*) نقلا عن مجلة “آراء حول الخليج العربي”.