تلقت إيران في بداية 2020 وفي نهايتها ضربتين أصابتاها في كبريائها الفارسي، ففي مطلع السنة أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية على اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني، وفي نهاية نوفمبر تم اغتيال الدكتور محسن فخري زاده المسؤول الأول عن البرنامج النووي الإيراني دون أن يعلن أي طرف مسؤوليته عن العملية، وإن كانت أصابع الاتهام قد وجهتها إيران إلى إسرائيل.
فبغض النظر عن من هي الجهة التي وقفت وراء اغتيال زادة فإن الخبرات التاريخية على المدى الزمني القريب تشير إلى أن إيران لا تمتلك خيارات كثيرة للرد على هذا الاغتيال بدليل تجربة الانتقام لقاسم سليماني التي اقتصرت على بضعة صواريخ ضربت قاعدتين أمريكيتين فارغتين في العراق؛ لأنها تعرف أن أي رد فعل في الوقت الراهن سيكون أكبر من قدرتها على التحمل.
”
هنا تحديدا يكمن مأزق الكبرياء الفارسي وضعف إيران وعدم قدرتها على إعادة الاعتبار لنفسها، والذي يفرض عليها أن ترد بالمثل على الأقل، وهنا يطرح التساؤل عن إمكانية تنفيذ إيران اغتيالات لقادة عسكريين وسياسيين أمريكيين وإسرائيليين.
“
بالعودة إلى تاريخ الاغتيالات بين هذه الأطراف المتصارعة فإنها ليست المرة الثانية التي تغتال فيها شخصيات إيرانية مهمة، فقد سبق أن اغتيل العديد من العلماء النوويين الإيرانيين قبل عشر سنوات (بين 2010 و2012) وهم: مسعود محمدي، مجيد شهرياري، داريوش رضايي نجاد، مصطفى أحمدي روشن، فريدون عباسي دواني. والقاسم المشترك بين هذه العمليات أنها ارتبطت بالبرنامج النووي الإيراني، ولم يعلن أن طرف مسؤوليته المباشرة عنها.
على الجهة المقابلة لإيران تاريخ حافل بالاغتيالات، فهذا الأسلوب الذي تدينه طهران هددت وقامت به في العديد من المرات أبرزها كان تلك الفتوى التي أطلقها الخميني نفسه ورصد مكافأة مالية لمن يقتل الكاتب سلمان رشدي، هذه الفتوى لم يتراجع عنها المرشد الحالي وكل ما حصل هو عدم تنفيذها، أما الشخصيات السياسية المعارضة فكانت ولازالت هدفا للاستخبارات الإيرانية، وأول ضحاياها زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني عبد الرحمن قاسملو مع مساعده عبدالله آذر اللذين اغتيلا في فيينا عام 1989. ثم كاظم رجوي، شقيق زعيم منظمة مجاهدي خلق مسعود رجوي الذي اغتيل في سويسرا عام 1990.
وفي السنة التالية اغتيل في باريس شاهبور بختيار آخر رئيس وزراء إيراني في عهد الشاه محمد رضا بهلوي. وأيضا حسين ماضي، الأمين العام للجبهة العربية لتحرير الأحواز، في العاصمة العراقية بغداد.
”
في 1992 استهدف عملاء إيران الأمين العام للحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني صادق شرفكندي، مع مساعديه الثلاثة فتاح عبدولي وهمايون أردلان ونوري دهكري. بمطعم في برلين، وفي السنة التالية اغتيل ممثل المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية في إيطاليا محمد حسين نقدي.
“
وفي سنة 1996 أغتيلت في مدينية اسطنبول القيادية في حركة مجاهدي خلق زهراء رجبي. وقد تراجع مسلسل الاغتيالات في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ولكنه عاد مجددا في السنوات الأخيرة حيث اغتيل زعيم حركة “جيش النصر” البلوشية، عبد الرؤوف ريغي، في مدينة كويتا، غربي باكستان في العام 2014، وكان أبرز ضحاياه أيضا “أحمد مولى أبو ناهض” رئيس حركة النضال لتحرير الأحواز الذي اغتيل في سنة 2018 في مدينة لاهاي الهولندية، وقبلها بسنة اغتيل في اسطنبول “سعيد كريميان” وهو مالك قناة “جي إي أم تي في” (GEM TV).
وفي سبتمبر 2018 استهدف قصف صاروخي إيراني، اجتماعاً لأركان الحزب الديمقراطي الكردستاني الايراني المعارض في مدينة كويسنجق وسط إقليم كردستان العراق، وأدى إلى إصابة أبرز قيادات الحزب السياسية والعسكرية ومقتلهم.
“
آخر العمليات في هذا الإطار والتي لم ترتق إلى القتل ولكن الراجح أنه سيكون مصير الرئيس السابق لـ“حركة النضال العربي لتحرير الأحواز” حبيب فرج الله كعب، المعروف باسم حبيب أسيود – المحكوم عليه بالإعدام غيابيا – والذي تتضارب الروايات بين اختطافه أو تسليمه خلال وجوده في تركيا في نهاية أكتوبر الماضي.
“
يكشف هذا التاريخ من عمليات الاغتيال التي نفذها الطرفان أولويات كل منهما من جهة والخطوط الحمراء التي لا يجب تجاوزها من جهة أخرى، فبينما تركز الولايات المتحدة وإسرائيل على القادة العسكريين والعلماء المعنيين بتطوير البرنامج النووي الإيراني والذين يشكلون خطرا عليها وتقوم باغتيالهم، تركز إيران في المقابل على عمليات الاغتيال التي تقوم بها في العديد من الدول الأوروبية منذ ثلاثة عقود بحق المعارضين الإيرانيين ومن أبناء القوميات غير الفارسية.
جملة ما أعلاه أن إيران تدرك أن ردود الفعل الأوروبية والغربية عموما لن تؤثر عليها بشكل كبير جدا بدليل الخبرات السابقة، ولكنها في الوقت نفسه لا تخاطر باستهداف أي من القادة العسكريين والسياسيين الإسرائيليين والأمريكيين لأنها تدرك أن ردود الفعل ستكون أكبر من قدرتها على التحمل، وفي ظل الظروف الحالية يبدو أن لعبة الاغتيالات ستحافظ على هذه القواعد.