تشهد العلاقة بين إيران وإسرائيل في المرحلة الراهنة تصعيدا نوعيا في رسائل الردع المتبادلة، لم يعد يقتصر على حرب الظل أو العمليات غير المنسوبة، بل انتقل التصعيد بين الجانبين إلى مستوى أعلى من المواجهة العلنية المحسوبة، ولعل هذا التحول يعكس تغيرا في إدراك الطرفين لقواعد الاشتباك، حيث تسعى كل من طهران وتل أبيب إلى تثبيت معادلة ردع جديدة تقوم على إيصال رسائل قوة مباشرة دون الانزلاق، نظريا، إلى حرب شاملة، مع معرفة الطرفين بأن جولة ثانية من الحرب باتت حتمية نظرا لإخفاق إسرائيل في تحقيق كل أهدافها من حملتها الأولى ذات الإثني عشر يوما في يونيو 2025، لذلك تقول التقارير الإسرائيلية إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سيحاول إقناع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتوجيه ضربة ضد إيران في زيارته إلى البيت الأبيض نهاية ديسمبر 2025م.
رسائل الردع ومظاهره
فإيران، من جهتها، باتت أكثر ميلا لإظهار قدرتها على الرد المباشر، ليس فقط عبر وكلائها الإقليميين، بل من أراضيها أو بأدوات منسوبة بوضوح إليها، في محاولة لتكريس صورة الدولة القادرة على الردع المتبادل وليس مجرد لاعب يعمل في الظل، في المقابل، ترى إسرائيل أن ترك هذه الرسائل دون رد حاسم قد يؤدي إلى تآكل مصداقية ردعها، خصوصا في ظل تصاعد القدرات الصاروخية الإيرانية واتساع نفوذ محور المقاومة.
اقرأ أيضا:
ويمكن قراءة التقارير التي تحدثت عن مناورات صاروخية إيرانية في عدة مدن، وهي: طهران وأصفهان ومشهد وخرم آباد ومهاباد، يوم الإثنين 22 ديسمبر 2025م، في هذا الإطار حتى مع علم طهران أن مثل تلك الإجراءات قد تؤدي إلى قيام إسرائيل بخطأ حسابي مفاده قيامها بتوجيه ضربة استباقية ضد إيران خشية من تلقيها ضربة استباقية حفاظا منها على المبادأة والمبادرة الإستراتيجية.
على هذا النحو، فإن الحديث عن حتمية الحرب يظل مؤكدا، لكن يبقى بيد كل طرف من الطرفين تحديد الزمان اللازم لاتخاذ قرار الحرب مع استبعاد كامل لأن تقوم إيران بأي عملية استباقية ضد إسرائيل، وبالنسبة للأخيرة فإن احتمالات توجيهها ضربة عسكرية لإيران باتت أعلى من أي وقت مضى خلال العقدين الماضيين.
عوامل الحرب بين إيران وإسرائيل
إن الحرب الشاملة بين إيران وإسرائيل لا تزال تصطدم باعتبارات إستراتيجية وجغرافية عميقة لدى الطرفين، في مقدمتها الكلفة الباهظة وغير القابلة للاحتواء، إذ تدرك إسرائيل أن أي مواجهة مفتوحة لن تكون محدودة جغرافيا، بل ستتوسع لتشمل جبهات متعددة من لبنان إلى سوريا وربما العراق واليمن، وما حدث في حرب الأيام الإثني عشر حيث لم يتدخل حزب الله، لم يعد سيناريو يمكن القياس عليه، مع ارتفاع احتمالات تدخل أطراف غير إيرانية في أي عملية عسكرية جديدة بين إيران وإسرائيل.
ويعني ما سبق استنزافا عسكريا واقتصاديا طويل الأمد، فضلا عن تهديد غير مسبوق للجبهة الداخلية في تل أبيب، أما إيران، فرغم خطابها التصعيدي، فهي واعية بأن الحرب المباشرة قد تستدعي تدخلا أمريكيا أوسع، وتعرض بنيتها التحتية العسكرية والاقتصادية لضربات قاسية في لحظة تعاني فيها أصلا من ضغوط داخلية واقتصادية معقدة.
اقرأ أيضا:
ومع ذلك فإن العوامل التي قد تؤدي إلى تأجيل هذا السيناريو ترتبط، في جوهرها، بمنطق الردع العقلاني أو الرد التخيلي، فكل طرف يحاول اختبار حدود الطرف الآخر دون تجاوز الخطوط التي قد تفرض عليه ردا لا يمكن التحكم في تداعياته، كما تلعب الضغوط الدولية، وخصوصا الأمريكية والأوروبية، دورا مهما في كبح جماح التصعيد، إذ لا تزال القوى الكبرى ترى في اندلاع حرب إيرانية ــ إسرائيلية تهديدا مباشرا لاستقرار الشرق الأوسط والنظام الدولي، خاصة في ظل هشاشة أسواق الطاقة وتعدد بؤر التوتر العالمية.
يضاف إلى ذلك وجود قنوات اتصال غير مباشرة، سواء عبر وسطاء إقليميين أو عبر واشنطن، تتيح تمرير رسائل التهدئة والتحذير في اللحظات الحرجة، حتى وإن لم تكن معلنة أو مؤسسية.
اقرأ أيضا:
في المقابل، فإن تسريع الانزلاق نحو الحرب يبقى احتمالا قائما بشدة، خصوصا إذا ما حدث خطأ في الحسابات أو وقع حادث أمني كبير يتجاوز القدرة على الاحتواء السياسي، فاستهداف شخصية عسكرية رفيعة، أو سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين، أو إصابة مصالح أمريكية بشكل مباشر، قد يدفع الأطراف إلى ردود فعل متسارعة تخرج عن منطق الضبط الحالي. كما أن تطور الملف النووي الإيراني يظل عاملا حاسما، إذ ترى إسرائيل أن وصول إيران إلى عتبة نووية متقدمة، حتى دون امتلاك سلاح فعلي، يشكل تهديدا وجوديا قد يبرر ضربة استباقية، وهو ما تعتبره طهران إعلان حرب صريحا يستوجب ردا واسع النطاق.
التأثيرات الإقليمية والدولية
على مستوى التأثيرات الإقليمية، فإن استمرار هذا التصعيد يهدد بتقويض ما تبقى من توازن هش في الشرق الأوسط، إذ إن المواجهة المحتملة لن تظل محصورة بين دولتين، بل ستعيد تنشيط شبكة الصراعات بالوكالة، وتفتح المجال أمام انهيار جبهات هادئة نسبيا، مثل جنوبي لبنان أو بعض الساحات العراقية، كما أن استهداف البنى التحتية الحيوية، خصوصا المرتبطة بالطاقة والملاحة البحرية، قد يؤدي إلى اضطرابات اقتصادية تتجاوز الإقليم لتطول الاقتصاد العالمي، ما يرفع منسوب القلق الدولي ويدفع نحو تدخلات غير مباشرة قد تزيد المشهد تعقيدا.
اقرأ أيضا:
على صعيد الأمن الدولي، يمثل التصعيد الإيراني – الإسرائيلي اختبارا جديدا لقدرة النظام الدولي على إدارة الأزمات الكبرى، فاندلاع صراع مفتوح قد يؤدي إلى ارتفاع حاد في أسعار النفط، وتهديد سلاسل الإمداد العالمية، وتفاقم الأزمات الإنسانية، في وقت يعاني فيه العالم أصلًا من إرهاق إستراتيجي نتيجة أزمات متلاحقة، كما أن انخراط قوى كبرى، سواء عبر الدعم العسكري أو السياسي، قد يحول الصراع إلى ساحة تنافس دولي أوسع، يعيد إلى الأذهان أنماط الحرب الباردة ولكن بأدوات أكثر فوضوية.
في هذا السياق، تبرز الأدوات الدبلوماسية والإستراتيجية كخيار لا غنى عنه لتفادي الأسوأ، وتظل إدارة الأزمات عبر قنوات اتصال غير مباشرة، وتفعيل دور الوسطاء الإقليميين المقبولين من الطرفين، وتعزيز الأطر الدولية لخفض التصعيد، أدوات ضرورية، مثل الوساطة المصرية النزيهة بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية من جهة وبينها وبين أمريكا من جهة أخرى.
اقرأ أيضا:
ويمكن قراءة ذلك من خلال الاتصال الهاتفي الذي تم بين وزيري خارجية مصر وإيران عصر الثلاثاء 23 ديسمبر 2025م، والذي تم الإعلان عنه من طرف واحد، وهو الطرف الإيراني، إذ نشر فحوى الاتصال وزير الخارجية الإيرانية عباس عراقجي من خلال قناته الرسمية على تليجرام، فيما لم تنشره الخارجية المصرية على صفحتها الرسمية في فيسبوك مثل كل مرة، كما أن الدفع نحو ترتيبات أمنية إقليمية طويلة المدى، تعالج جذور انعدام الثقة بدل الاكتفاء بإدارة أعراضها، قد يشكل مسارا بطيئا لكنه أقل كلفة من منطق المواجهة المفتوحة.
خاتمة
عليه يمكن القول إن التصعيد الحالي يعكس توازنا دقيقا بين الردع التخيلي والانفجار الشامل، وهناك قاعدة تقال في طهران، وهي “أن الأمة الإيرانية خلقت لتحارب”، وبالتالي فالحرب تعتبر قدرا محتوما على دولة مثل إيران، وكلما طال أمد هذا التوتر دون أطر واضحة للضبط والاحتواء، ازدادت احتمالات أن يتحول خطأ صغير أو قرار متسرع إلى شرارة تشعل صراعا إقليميا واسعا، ستكون كلفته أكبر بكثير من أي مكاسب إستراتيجية محتملة.
اقرأ أيضا: