عملت إيران منذ إحلال الجمهورية الإسلامية محل الشاهنشاهية على أن يكون لها في منطقة الشرق الأوسط نفوذًا يقوم على تجاوز حدود الدولة القومية، خاصة وأن النظام الجديد بعد عام 1979 اعتمد على ضرورة عدم الارتهان إلى بعض القوى العالمية التي بات من المستحيل الوثوق بها على نحو كامل، لذلك بدأت الدولة الجديدة التي تتسم بتنوعها الديني والمذهبي والعرقي على الانخراط في مسار يصطدم باستمرار مع المصالح المشتركة للمنطقة، وهو المسار الذي فرض على إيران ودول المنطقة أن تدفع ثمنه.
كيانات طائفية
ويبدو أن المسار الذي انطلق بالفعل بات لا يهدد إيران وحدها، بل إن تأثيره يهدد المنطقة بأسرها، بما يتسبب في إشعال حرائق جديدة، خاصة وأن دول الشرق الأوسط – عبر خياراتها المحدودة – دأبت على التضحية بإمكاناتها الهائلة وبطاقاتها الديمغرافية والثقافية والعسكرية والتجارية، وهو واقع لا بد أن يُخضع لعملية تفكيك نقدي جذرية تكشف بنيته وأسبابه ومسؤولياته.
وتشير التقديرات إلى أن إيران إذا ذُكرت في بعض الأحيان، يتبادر إلى الذهن صورة كيان، قد يتشابه في مقومات بقائه مع إسرائيل، إذا تذرعت بالأمن القائم على الخوف والتهديدات المستمرة، ولا يتردد في إشعال الحرائق في المنطقة بحجة حماية نفسه، وذلك بأن لجأت إلى إنشاء كيانات طائفية محدودة في عدة دول عربية، من باب تدشين قوى ناعمة تابعة لها، واتهام منتقديها بالطائفية على نحو يشبه توظيف إسرائيل لخطاب “معاداة السامية”، بل ويذهب البعض أبعد من ذلك، حين يعمد إلى توظيف هذه الطائفية ذاتها بصورة أداتية، من أجل بناء قوى وكيلة في الجغرافيا التي تمتد إليها يده.
وتستند تلك الاستراتيجية على هدف جيوسياسي يقوم على الاحتماء بوكلاء يمكنهم “إبقاء الأزمات خارج حدود إيران كي لا تصل إليها”، ويستند ذلك التقدير على تباهي إيراني بالسيطرة على بعض العواصم العربية كـ صنعاء، بغداد، دمشق، وبيروت، فضلًا عن انتهاز الفرص المتمثلة في توظيف الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان، والصراع الأرميني-الأذربيجاني، بل وحتى القضية الفلسطينية – مع احتساب ما جرى في سوريا وما تكبده الفلسطينيون هناك من معاناة – كأدوات في خدمة أوهامه السياسية.
خسارة الرصيد المعنوي
وقد تسببت تلك الصياغة السياسية في إهدار كبير للرصيد المعنوي الذي كان يتمتع به حزب الله لدى الشعوب المسلمة، والذي كان يعمل على خدمة مصالحه الضيقة داخل حدود لبنان، وعملت إيران على تمهيد الطريق لمصيره الحالي، علاوة على إرسال تنظيم داعش إلى الساحة السورية ليدخل في صدام مع قوى المقاومة وقادتها، ومن ثم إشعال نيران الضغط والإرهاب في الساحة العراقية – السورية بقوات بالوكالة مثل الحشد الشعبي، وبدلًا من العمل على تعظيم الإمكانات الواسعة لجغرافيا ثرية بتنوعها العرقي والمذهبي والديني، جرى الارتهان إلى القومية الفارسية والطائفية الشيعية؛ وهو ما حال دون الوصول، لا إلى حلول تخدم دول المنطقة الأخرى فحسب، بل حتى إلى تحقيق أهداف حل باسم إيران نفسها.
وقد تسببت شهية إيران المفتوحة لبسط سيطرتها على المنطقة في تمزيق كل منطقة تدخلها وفق النمط الذي تريده القوى الغربية، من خلال عملية تنتهي بخضوع شعوب المنطقة وبُناها التاريخية، وأحيانًا يمكن القول إن هذا الاندفاع المحموم يتناقضن كليا مع تطلعات شعوب الشرق الأوسط وقيمه الإسلامية، حيث تتسبب إيران بوكلائها في تعريض حياة الناس للخطر ويدوسون على مقاصد الشريعة، ويتقدمون بتكتيكات جلادي الأمس أنفسهم، إلى حد التحول إلى “شيطان أكبر” جديد، ومع ذلك، لا يرى هذا المشروع أنه يدفع حتى شعبه إلى هاوية بعيدة عن البصيرة والعدل والاتزان.
تحتاج إيران إلى تخفيف حدّة عدائها الممتد منذ 36 عاما مع الولايات المتحدة، من أجل تحويل تمددها الاستراتيجي، الذي حققته بفضل ثورات الربيع العربي، إلى صيغة مستدامة، خاصة بعدما أدركت الولايات المتحدة الأمريكية لعبة إيران القائمة على عسكرة منطقة الشرق الأوسط.
وتشير تقديرات إيران لتبرير دعمها لوكلاء لها في الإقليم إلى أنها لا تتمدد بالقوة العسكرية أو الاحتلال، بل تسارع إلى نجدة المظلومين في العراق وسوريا ولبنان واليمن وأن إيران لا تتوسع بالدبابات والمدفعية، ولا تشن الحروب، بل إنها محبوبة بطبيعة الحال عندما يتعلق الأمر بمساعدة العراقيين أو السوريين أو اللبنانيين المضطهدين.
يزيد على ذلك أن إيران ترى أن روسيا تتجه نحو المياة الدافئة، وتعيد الانخراط في الشرق الأوسط، والولايات المتحدة تعطي الأولوية لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، والصين تسعى إلى تعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، وهو ما يدفعها إلى زيادة تموضعها في نفس المنطقة التي تشهد تناميًا وسعيًا حثيثًا إلى تعزيز النفوذ فيها من أجل ثرواتها، وذلك بعد أحداث الربيع العربي الذي بات و كأنه فتح الباب أمام الكشف عن الوجه الأخر لقوى استعمارية في المنطقة.
خاتمة
في النهاية يمكن القول إن ما حدث مؤخرًا قبيل الحرب الإسرائيلية على إيران من تعمد إضعاف نفوذ وكلاء إيران في المنطقة بعد السابع من أكتوبر، عبر توجيه ضربات عسكرية قاصمة، أسفرت عن تحييد الفصائل الفلسطينية، أولًا ثم اغتيال رموز حزب الله في لبنان، وطرح ورقة حصر السلاح بيد الدولة، وهو ما يضعف نفوذ حزب الله، فضلًا عن توجيه ضربات للعمق اليمني الذي تسيطر عليه الميليشيات الحوثية، وانتهاء بتوجيه ضربات في العمق الإيراني، يكشف عن رسالة لإيران بضرورة مراجعة استراتيجيتها فيما يتعلق ببناء شبكات الوكلاء الذين تتخذهم كمصدات، أو لصنع جغرافيا عسكرية تبعد شبح الحرب عن الجغرافيا الإيرانية، ورسالة بان تلك الاستراتيجية لم تفلح في اتقاء إيران لأي عملية عسكرية ضد الجغرافيا الإيرانية الداخلية.
وقد عزز العقوبات الاقتصادية عزلة إيران مع محيطها الإقليمي والعالمي جراء سياساتها في المنطقة، وزاد في إمعان تلك العزلة دفاع إيران المستميت عن وكلائها “الضعفاء” في المنطقة، فباتت إيران في حالة انكفاء ذاتي لا إرادي، وهو ما ظهر عدم وجود أي دعم عربي أو عالمي لإيران خلال حربها مع إسرائيل، وإذا كانت إيران، التي لم تحصد سوى بيانات إدانة وتوقيعات مشتركة دون أي دعم فعلي، فإن ذلك يعد رسالة بضرورة استيعاب هذا الدرس بالقدر الكافي.
ـــــــــــــــ
تحليل مترجم من مركز perspektif التركي بعنوان “İran Neden Yalnız?” (بالعربية: لماذا باتت إيران معزولة؟) للكاتب بهادر قربان أوغلون بتاريخ 27 يونيو 2025.
