لقد وصلت أوروبا إلى نهايتها، هذه عبارة باتت تتردد في الآونة الأخيرة بشكل أكبر وأكثر تذبذباً مما مضى في وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث، ويشير كل مركز أبحاث ومفكر إلى جانب معين من هذه النهاية، بدءاً من التخلف عن الصين وأمريكا في تقنيات الجيل القادم، وصولاً إلى مسألة الحرب مع أوكرانيا والطاعة العمياء لأمريكا.
الأوروبيون أنفسهم، ورغم إدراكهم لهذا الوضع، يتخبطون في محاولات لإحياء أنفسهم. ومن أبعاد “نهاية أوروبا” هذه في وسائل الإعلام، تلك العلاقة المثيرة للسخرية التي نشأت بين أوروبا وأمريكا بعد عودة ترامب للسلطة. تتناول مجلة “فورين أفيرز” (Foreign Affairs) في نص تحليلي مفصل شرح هذه العلاقة، وتوضح نهاية أوروبا في سياق علاقتها بالولايات المتحدة.
انحناء رأس أوروبا أمام ترامب
منذ اليوم الذي عاد فيه ترامب إلى السلطة، وجدت أوروبا نفسها مخيرة بين تشكيل نوع من التعاون أو الانحناء أمام ترامب، ففضلت حني رؤوسها، فعندما تولى دونالد ترامب زمام الرئاسة الأمريكية مرة أخرى في يناير 2025، وجدت أوروبا نفسها أمام مفترق طرق. جاء ترامب بمطالب ثقيلة ومجحفة لزيادة الميزانية العسكرية لأوروبا، وتهديد صادرات القارة بتعريفات جمركية جديدة وواسعة، وتحدي القيم الأوروبية القديمة مثل الديمقراطية وسيادة القانون.
لقد كان بإمكان قادة أوروبا تبني نهج المواجهة والوقوف جماعياً ضده، أو اختيار المسار الأقل خطورة والاستسلام لمطالب ترامب. من وارسو إلى وستمنستر، ومن ريجا إلى روما، اختاروا الطريق الثاني.
إن الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه، وحتى الدول غير الأعضاء مثل بريطانيا، وبدلاً من الإصرار على التفاوض مع الولايات المتحدة كشريك مساوٍ أو التمسك بالاستقلال الإستراتيجي الذي كانوا يتشدقون به، حنوا رؤوسهم فوراً وبصوت واحد أمام واشنطن واتخذوا موقفاً يتسم بالاستسلام التام.
إن وضع أوروبا وهي تضع يدها تحت مقصلة ترامب مثير للشفقة لدرجة أن “فورين أفيرز” تكتب أن الكثيرين في أوروبا يرون في هذا الانحناء الطريقة الصحيحة للتعامل مع أمريكا، فمن وجهة نظر الكثيرين في أوروبا، كان هذا خياراً عقلانياً. ويجادل المعتدلون المؤيدون لسياسة المهادنة بأن البدائل، مثل مقاومة مطالب ترامب الدفاعية، أو اللجوء إلى الانتقام التجاري على الطريقة الصينية، أو الاحتجاج العلني على ميوله الاستبدادية، كان من شأنها أن تعرض مصالح أوروبا للخطر. على سبيل المثال، كان من الممكن أن تتخلى الولايات المتحدة عن أوكرانيا، أو يعلن ترامب إنهاء الدعم الأمريكي للناتو ويسحب جزءاً كبيراً من قواته العسكرية من القارة الأوروبية. بل كان من الممكن أن تندلع حرب تجارية شاملة على جانبي المحيط الأطلسي.
إن علامة الاستفهام المهمة هي: لماذا وصل حال أوروبا إلى هذا الوضع؟
الشعبوية اليمينية
إن سبب هذا القدر من الرضوخ لترامب، بالإضافة إلى مستوى الاعتماد الكبير على بلاده، هو حالة يمكن تسميتها بـ”غياب الطموح”، إذ إن الميول الخطيرة لليمين الشعبوي في هذه القارة قد دمرت أفق وجود أوروبا موحدة وقوية، بل وقد تقضي على حياة هذه القارة ككيان سياسي.
يمكن إرجاع فشل أوروبا في تنظيم دفاعها المستقل أكثر من أي شيء آخر إلى غياب الطموح، وهي معضلة مرتبطة بشكل مباشر بالحماس القومي الذي اجتاح القارة العجوز في السنوات الخمس الماضية.
وتزامناً مع تزايد قوة الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة، أدت أجندتها إلى إبطاء مشروع التكامل الأوروبي، ففي الماضي، كانت هذه الأحزاب تطالب بالخروج الكامل من الاتحاد الأوروبي، ولكن بعد خروج بريطانيا في عام 2020، والذي يُنظر إليه الآن على نطاق واسع كفشل سياسي، تبنت هذه الأحزاب أجندة مختلفة وأكثر خطورة: التقويض التدريجي للاتحاد الأوروبي من الداخل وخنق أي جهد أوروبي عابر للحدود الوطنية.
وتكمن السخرية المريرة في أنه، ولأن قوى اليمين المتطرف جعلت إنشاء مبادرة دفاعية قوية داخل الاتحاد الأوروبي أمراً مستحيلاً، شعر القادة الأوروبيون أنه لا خيار أمامهم سوى الاعتماد على رجل قوي في أمريكا. ومع ذلك، من المستبعد أن يدفع اليمين المتطرف نفسه التكلفة السياسية لهذا الرضوخ.
المخربون البيض وسياسة الطعن في الظهر
إن الوضع المثير للسخرية الآخر في أوروبا يتعلق بالحالة الاقتصادية للقارة، فبقدر ما هي هذه القارة عاجزة دفاعياً وعسكرياً، فقد كانت تتمتع سابقاً بوضع تفاوضي جيد اقتصادياً، ولكن حتى في مواجهة تنمر ترامب، وبسبب قيام القادة الأوروبيين بـ”حفر الحفر” لبعضهم البعض (الطعن في الظهر) وعجزهم عن رسم أفق تعاون أوروبي مشترك، لم يتمكنوا من وضع ورقة اللعب هذه على الطاولة.
كما أن استسلام أوروبا لمطالب ترامب التجارية هو أكثر تدميراً للذات حتى من الحالة السابقة، فعلى الأقل في المجال الدفاعي، لم تكن العلاقات بين ضفتي الأطلسي يوماً علاقة شريكين متساويين، ولكن إذا كان الأوروبيون “خفيفي الوزن” في المجال العسكري، فهم يفتخرون بكونهم “عمالقة” في المجال الاقتصادي.
إن الحجم الهائل للسوق الموحدة للاتحاد الأوروبي ومركزية سياسات التجارة الدولية في المفوضية الأوروبية كان يعني أنه عندما بدأ ترامب حربه التجارية ضد العالم، كان الاتحاد الأوروبي في وضع جيد تقريباً مثل الصين للتفاوض بصلابة، لكن القادة الأوروبيين بدلاً من العمل الجماعي (أو حتى التهديد به)، أمضوا أشهراً في الجدال وتقويض بعضهم البعض، وهذا مثال آخر على كيف قام اللاعبون من اليمين المتطرف، الذين يزدادون قوة يوماً بعد يوم، بإضعاف الاتحاد الأوروبي.
لقد أصبح وضع التردد وعجز الأوروبيين عن اتخاذ القرار مضحكاً لدرجة أنه، بحسب “فورين أفيرز”، لم يعد للمفاوضات بين الحكومات معنى، وباتت الشركات الأوروبية تلاحق مصالحها بشكل مباشر ومستقل.
وكان مستوى عدم الاتحاد في أوروبا عميقاً لدرجة أنه في أواخر الربيع وأوائل الصيف، توصلت الشركات إلى نتيجة مفادها أنه ربما يكون من الأفضل لها التفاوض بمفردها. فشركات صناعة السيارات الألمانية مثل فولكس فاجن، ومرسيدس بنز، وبي إم دبليو أجرت مفاوضات موازية ومستقلة مع إدارة ترامب بشأن الرسوم الجمركية على السيارات.
قادة أوروبا منافقون سياسيون
تتهم “فورين أفيرز” القادة السياسيين الأوروبيين بالنفاق وازدواجية المعايير، وتكتب المجلة أن الأوروبيين الذين كانوا يوماً ما يقلبون العالم رأساً على عقب بسبب انتهاكات الحرية، لم ينبسوا ببنت شفة أمام حكم ترامب المنفلت وشبه الاستبدادي.
لذلك فإن الشكل الأكثر عرياً لرضوخ الأوروبيين أمام ترامب كان حول القيم الديمقراطية، تمثل حين صعد ترامب طوال عام 2025 من هجماته على الصحافة الحرة، وأعلن الحرب على المؤسسات الحكومية المستقلة، وقوض سيادة القانون عبر ممارسة الضغط السياسي على القضاة للانحياز إليه.
وقد نقل هذه المعركة إلى الأراضي الأوروبية أيضاً: جي دي فانس، نائب الرئيس، وكريستي نوم، وزيرة الأمن الداخلي الأمريكي، وتدخلا علناً في انتخابات دول مثل ألمانيا وبولندا ورومانيا أو انحازا لأحد الأطراف.
إن القادة الأوروبيين لم يكتفوا بالصمت تجاه انتهاك الحرية في أمريكا نفسها، بل صمتوا حتى أمام انتهاك الحرية في أوروبا وتدخل الأمريكيين في شؤون دول الاتحاد. إن تقاعسهم ونفاقهم القائم على الصفقات شديد لدرجة أنهم همشوا حتى الشكوى القانونية ضد منصة الشريك السابق لترامب، أي “ماسك”، لكيلا يثيروا غضب الأمريكيين.
لكن قادة الاتحاد الأوروبي، بدلاً من رفض مثل هذه التدخلات العدائية في الانتخابات، التزموا الصمت في الغالب؛ ربما على أمل الحفاظ على التعاون في مجالات أخرى. يمكن رؤية هذا “النهج القائم على الصفقات” بوضوح في قضية تحقيقات المفوضية الأوروبية بشأن نشر المعلومات المضللة على شبكة التواصل الاجتماعي “إكس”، وهي المنصة المملوكة بشكل أساسي لإيلون ماسك، الحليف السابق لترامب.
ولقد كان لدى بروكسل في البداية اتهامات ثقيلة ضد إكس، بما في ذلك أن هذه المنصة عززت الروايات المؤيدة للكرملين وحلت فرق مراقبة نزاهة الانتخابات التابعة لها قبل انتخابات الاتحاد الأوروبي، لكن هذه التحقيقات تباطأت بمرور الوقت وتم تهميشها، ومُنحت “إكس” مهلاً متكررة للامتثال للقوانين، وأظهرت بروكسل أنها تفضل “الحوار” على “العقوبات”.
ــــــــــــــــــــــــ
مقالة مترجمة للكاتب الإيراني مهدي حسني، بعنوان: “المنافقون السياسيون والراكعون أمام أمريكا” (بالفارسية: ریاکاران سیاسی و تعظیمکنندگان در برابر آمریکا) من صحيفة “وطن امروز” الأصولية (بالعربية: الوطن اليوم)، منشورة في العدد الورقي للصحيفة يوم ۲۴ آذر ۱۴۰۴ هـ. ش. الموافق 15 ديسمبر 2025م.
