منعطف جديد اتجهت إليه نظريات التصعيد السياسية بين كل من طهران وتل أبيب، على ساحة صراع مغايرة تمامًا للساحة الدولية التي يبدو أن الخلاف لم ينحصر فيها بين القوى الدولية على البرنامج النووي الإيراني، والتصعيد الذي أدى إلى انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي، وما لحقه من تبعات وإجراءات اتخذتها إسرائيل وأمريكا فيما بعد لمواجهة المد الإيراني على الأصعدة كافة بداية من الصعيد العالمي، مرورًا بالصعيد الإقليمي، وانتهاء بالصعيد العربي مؤخرًا.
غزة.. ساحة صراع إقليمي
على ما يبدو فإن الأراضي الفلسطينية المحتلة وبالتحديد قطاع غزة المحاصر كان قبلة طهران لتوجيه أنظار العالم إليها على أنها حامي حمى العرب، ومفوضة من قبل أحد الأطراف العربية لمواجهة قوة كبيرة تتمثل في القوة العسكرية الإسرائيلية، مع وضع العلاقة القوية بين كل من طهران وحركة المقاومة الإسلامية حماس وحركة الجهاد الفلسطيني في الاعتبار، كحركات تابعة تبعية مباشرة لإيران تدريبًا وتسليحًا وتمويلًا وتبني كامل لتلابيب القضية التي يدافع عنها أطراف المقاومة في قطاع غزة.
مع بداية الغارات الإسرائيلية التي شنتها مقاتلات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة السبت الماضي، ردًا ما يعرف بـ«البالونات الحارقة» التي أطلقها شباب تابعين لحركة المقاومة الإسلامية حماس على الأراضي الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي والّتي أدت إلى إشعال الحرائق، أعلنت حماس أنها سترد بكل ما أوتيت من قوة على تلك التحركات الإسرائيلية في قطاع غزة، وأن مؤتمر «البارود الرطب» الذي عقد في غزة برعاية إيرانية في فندق «كمودور»، سيكون كلمة السر لذلك التحرك، فضلًا عن مشاركة طهران رسميًا ممثلة في قائد فيلق القدس قاسم سليماني في ذلك المؤتمر رسميًا بكلمة يلقيها باللغة العربية على مسامع قيادات حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
الآلة الدعائية الإسرائيلية
وبالرغم من أنه تم التشويش على كلمة قاسم سليماني ولم تكتمل ولم يتمكن قائلها من الحصول على انتشاء الحاضرين، إلا أن الإعلان عن مشاركة قاسم سليماني بالتحديد تمثل تحركا قويا من إيران وغزة في مواجهة إسرائيل، رغم ما هو متوقع مما ستطلقه الآلات الدعائية الإسرائيلية بأن حماس الابنة غير الشرعية لطهران، وأن الطرفين راعيا الإرهاب في المنطقة، وأن إيران تدرب عناصر القسام وغيرها من الدعاوى التي تلق صدى واسعا في الأوساط العربية والإقليمية دائمًا، وهو ما سيشجع أطرافًا أخرى على غض الطرف عن القضية الفلسطينية طالما أن الأطراف العربية بعيدة كل البعد عن حل الأزمة سلميًا بدلًا من تدخل إيران الدائم والمزعج للبعض أحيانًا، والتي تستدعيها حماس بصفة دائمة فيما يتعلق بالحركة وأمورها.
الأمر الآخر يتمثل فيما أعلنته الصحافة الإسرائيلية من أنباء في صحيفة جيروزاليم بوست قائلة «استيقظوا يا أهالي غزة.. كلمة سليماني هي جرس يقظتكم قبل أن يتحول قطاع غزة إلى طهران ثانية»، فيما قالت صحيفة هآرتس إن هذه الكلمة مؤشر على تحسن العلاقات بين قادة حماس وإيران، فيما قال موقع «والا» إن هذه الكلمة مؤشر أيضا على الدعم المالي والعسكري الإيراني لحماس والجهاد الإسلامي لتأجيج الاضطرابات في جنوبي إسرائيل.
فيما قالت صحيفة يديعوت أحرونوت أن دولة عربية كبرى تسببت في إفشال هذا المؤتمر بعد أن أمرت قيادات حماس بعدم الحضور، فيما حضر عدد من قيادات الصف الثاني لحركة حماس وحركة الجهاد الفلسطيني كان أبرزهم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين جميل مزهر، وخالد البطش القيادي في حركة الجهاد الإسلامي، والقيادي في حركة حماس إسماعيل رضوان، فيما غاب قيادات حماس كافة وعلى رأسهم المقربين من طهران وأبرزهم يحي السنوار وصالح العاروري ومحمود الزهار.
الدعاية الإيرانية
وكما تحركت الآلة الدعائية الإسرائيلية بعد علمها بمؤتمر «البارود الرطب» شنت المواقع الإيرانية حملة شرسة على الصحافة الإسرائيلية وعلى كل قيادات حكومة الاحتلال الإسرائيلي مؤكدة أن ذلك المؤتمر كان له صدى واسعا لدى الكيان الصهيوني وأربك كثيرًا من الحسابات الإسرائيلية تجاه كلا من القضية الفلسطينية والإيرانية على حد سواء.
فذهب موقع «العالم» إلى أن كلمة سليماني كانت بمثابة «الصاروخ» الذي أطلقه قائد فيلق القدس من غزة إلى إسرائيل، وأن كلمته تلك كشفت مدى الهلع الذي أصاب الأوساط الصهيونية بكل ما لهذه الكلمة من معنى، وأن «مجرد نشر خبر عن نقل كلمة لقائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني في قطاع غزة جعل الكيان الصهيوني يرتبك من أوله لآخره، فما بالكم لو حضر عند حدود الأراضي المحتلة».
عدد من المثقفين والمحللين الفلسطينيين رجح أن مؤتمر «كمودور» مثٌل محاولة لتقويض القضية الفلسطينية بعد كلمة العميد غلام حسين غيب برو، نائب القائد العام للحرس الثوري الإيراني، التي ألقاها في المؤتمر، حيث رأوا أن التدخلات الإيرانية من قبل الحرس الثوري في غزة تضر بالقضية الفلسطينية ولا تفضي إلا لتعميق الانقسام واستمراره.
كذلك تشير التقديرات من خلال ما جاء بالمؤتمر إلى أن إيران تحاول استقطاب بعض العناصر في غزة مستغلة الوضع الاقتصادي المتردي لتحقيق أجندات معينة، ما يجعل من قطاع غزة بؤرة على صفيح ساخن ويزيد من احتمالية الصراع العسكري من جديد ويضر بالقضية برمتها وبمحاولات التهدئة التي تتم برعاية مصرية من وقت لآخر لتجنب الصدام العسكري غير المتكافئ، خاصة أن إسرائيل تلوح من وقت لآخر باستخدام القوة العسكرية لمواجهة أي تحرك من قبل حركة المقاومة الإسلامية حماس تجاه الأراضي الفلسطينية.
خاتمة
جملة القول أن المحصلة النهائية لهذا الوضع يمثل طهران في دور الدولة التي تحاول كسب أسواق وأراضٍ لها في كل المناطق التي تعج بصراعات ترتبط ارتباطًا قويًا بالملف الإيراني، لتظل لاعبًا قويا في المنطقة بالرغم من محاولات التحجيم التي تلاقيها من وقت لآخر من جميع الأصعدة العربية والعالمية، خاصة أنها تلجأ دائمًا للدفع بنفسها على أنها الممول والمدافع الشرس عن القضية الفلسطينية، في الوقت الذي تلتف فيه على القضية الفلسطينية نفسها لتظهر أمام القوى العربية والإقليمية وتجذب متعاطفين معها على حساب قضية أخرى.