في زيارة هى الأولى من نوعها لرئيس إيراني منذ شهر سبتمبر بالعام 2010، قام الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي” بزيارة رسمية استغرقت يومين للعاصمة السورية دمشق يومي الأربعاء والخميس 3ــ4 مايو 2023، برفقة وفد وزاري ودبلوماسي لمناقشة سبل تعزيز العلاقات السياسية، وتوسيع التعاون الاقتصادي مع الرئيس السوري بشار الأسد. هذه الزيارة تتزامن مع التشابك الإسرائيلي والأمريكي ضد الميليشيات الإيرانية في سوريا، لردع توغل النفوذ الإيراني هناك.
مع ذلك لاقت الزيارة ترحيبًا حافلًا في الأوساط السياسية الإيرانية المحافظة، واعتبرته نجاحًا للإدارة السياسية، ودحضًا لمساعي عزلها إقليميًا ودوليًا، بل ورأت فيها رسائل مهمة لاستمرار سياسة حُسن الجوار التي تنتهجُها حكومة رئيسي المحافظة، وتأكيدًا على استمرار دعمها لسوريا حكومةً وشعبًا.
تخوض سوريا منذ نحو 12 عاما حربًا داخلية وأزمة خانقة نجم عنها مقتل ما لا يقل عن 700 ألف وتشريد 11 مليون وعلى إثر ذلك تكبدت الأمة السورية خسائر تقدر بحوالي 650 مليار دولار، وفق التقديرات الإيرانية الرسمية.
وبما أن مستشاري إيران العسكريين الموجودين على الأرض في ميدان المعارك السورية لم يتوانوا عن دعم حكومة الرئيس بشار الأسد خلال سنوات الحربها تلك التي اعتبرتها إيران حربًا على الإرهاب، تسعى طهران اليوم إلى توطيد أواصر التعاون مع دمشق لتشمل كل المجالات.
دوافع الزيارة الرسمية
يمكن القول إن زيارة إبراهيم رئيسي الأخيرة، تحمل طابعا استراتيجيا على نحو كامل ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها زيارة رمزية وذلك لانعكساتها الإقليمية والدولية من جهة، وفرصة استثمار اقتصادي وجيوبولتيكي في ظل التقارب العربي والعودة المشروطة لسوريا إلى الجامعة العربية من جهةٍ أخرى.
لهذا السبب ركزت الزيارة على تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري كأحد مخارج الأزمة الاقتصادية وتدهور العملة في إيران، وهو ما أكده المرشد الأعلى الإيراني “علي خامنئي” عندما وصف اقتصاد البلاد بـ”المعوج وغير المتوازن”، ودعا إلى تعزيز التعاون مع دول الجوار، وحتى الأوروبية لتحسين أوضاع إيران الاقتصادية.
لا شك أن سوريا كانت الخيار الأمثل لإيران، خاصة وأن الأخيرة كانت داعمًا رئيسًا طوال فترة العقوبات الموجهة ضد النظام السوري، الأمر الذي ساهم في تقوية العلاقات، وتوطيد نفوذ المليشيات الإيرانية على الأراضي السورية؛ برغم التحذيرات الإسرائيلية والأمريكية.
من أجل هذا فرضت إيران نفسها بقوة كمساهم في مرحلة إعادة إعمار سوريا، لتُكلل مسيرة دعمها في بقاء حكومة بشار الأسد كجزء أصيل من مستقبل أي تسوية سياسية في البلاد، ولتكون المانح الأول والرئيس لأفضل الفرص الاستثمارية والتجارية للمستثمرين السوريين في مجالات عدة، تبدأ بالعقارات ولا تنتهي عند الاتصالات والبنى التحتية وغيرها من المجالات ذات الصلة.
في وقت سابق أكد الرئيس السوري “بشار الاسد” خلال استقباله وزير الطرق والتنمية العمرانية الإيراني “مهرداد بذرباش” ذلك الذي ترأس عن طهران اجتماع اللجنة الاقتصادية المشتركة بين إيران وسوريا قبل أسبوع، على ضرورة رفع مستوى التعاون الاقتصادي والسياسي بما يليق بين البلدين.
فيما رأى الخبير السياسي الإيراني لشؤون الشرق الأوسط “حسن هاني زاده” في تصريحٍ له لموقع “راهبرد معاصر” الإيراني أن سيطرة حكومة بشار الأسد على التطورات الداخلية في سوريا، وقدرتها على التأثير على أحداث المنطقة والعالم، جعلت الدول التي لعبت دورًا مدمرًا في الأزمة السورية، بل وقدمت مساعدات مالية قدّرت بحوالي 80 مليار دولار للجماعات الإرهابية، تتوصل إلى استنتاج مفاده أنه من الأفضل تمهيد الطريق لعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية.
الرسائل المهمة للزيارة
بعد استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران، وما مهدته من انفراجات دبلوماسية على المستوى الإقليمي، تأتي هذه الزيارة غير المسبوقة لـ”إبراهيم رئيسي” إلى دمشق عقب الزيارة الأولى لوزير الخارجية السعودي “فيصل بن فرحان” إلى دمشق الشهر الماضي، وكذلك زيارة وزير الخارجية السوري “فيصل المقداد” إلى المملكة العربية السعودية. ويبدو أن هذه الرحلة حملت ثلاث رسائل رئيسة ومحورية وهى كالآتي:
أولًا: إضعاف الادعاءات التحريضية للتيارات المعارضة لإيران خلال الأيام والاشهر الأخيرة، بأنها لم تعد تمتلك نفوذها السابق في سوريا، خاصة أن بعض التيارات السياسية والإعلامية المعادية على المستوى الإقليمي والدولي للنظام الإيراني، لمحت مرارًا وتكرارًا إلى تراجع الثقل الاستراتيجي لإيران في سوريا، كما طرحت سيناريوهات مختلفة تقول إن هذا البلد (أي إيران) وسط الوجود النشط لروسيا وتصاعد الهجمات غير الشرعية لإسرائيل ضد الثكنات الإيرانية على الأراضي السورية فقدت نفوذها هناك. ولهذا، جاءت زيارة رئيسي إلى دمشق لتنفي صحة تلك الأقوال، وتُؤكد أن سوريا لا تزال تقبع في عمق إيران الاستراتيجي.
ثانيًا: تأكيد دخول سوريا مرحلة جديدة من الاستقرار بعدما نجحت الحكومة السورية بعد سنوات طويلة من القتال العنيف مع الجماعات الرافضة للنظام والتنظيمات الإرهابية والمتطرفة وداعميها السياسيين والماليين، في تثبيت أواصر حكمها للبلاد. بالإضافة إلى تعزيز عمليات خفض التصعيد في إطار عودة العلاقات السورية مع الدول العربية، أي إن دمشق تعود من جديد إلى فضاء التطبيع والمعادلات الدولية والإقليمية؛ ما سيؤول إلى تحقيق الاستقرار للنظام السياسي السوري في المجالات السياسية والدبلوماسية والأمنية. وفي الوقت نفسه ستوفر الظروف المواتية تسهيل وتسريع عملية إعادة إعمار سوريا برعاية إيرانية.
ثالثًا: تأتي الزيارة كتهديد صريح لمصالح إسرائيل في المنطقة، وذلك بعد عملية التطبيع الإيراني ــ السعودي من ناحية، ووجود الرئيس الإيراني في سوريا المحاذية مع الحدود الإسرائيلية جنوب هضبة الجولان المحتل من ناحية أخرى، أيضًا تحمل رسالة قوة لسياسات إيران الخارجية، وتشجيعًا لجبهة المقاومة، وبالأخص بعدما نأت عدد من الدول العربية عن “اتفاقيات إبراهام”، واتجهت نحو الالتفاف العربي في وجه التهديدات الإسرائيلية. كما يُتوقع أن تُضيق زيارة “رئيسي” الخناق على القوات الأمريكية الموجودة في شرقي سوريا، في مقابل تزايد نشاط محور المقاومة المدعوم من إيران.
خاتمة
جملة ما أعلاه، أن إيران قررت انتهاج سياسة القوة الناعمة والقادرة على التأثير داخليًا لتحقيق مزيد من النفوذ الاستراتيجي والمادي والعسكري، خاصة وأنها تيقنت بعد صلحها مع السعودية أن توسيع علاقاتها مع سوريا وهى على أعتاب إنهاء تعليق عضويتها في الجامعة العربية، سيكون أحد ممهدات الانفراج من العزلة الإقليمية والدولية معًا، كما سيُحقق لها مكاسب اقتصادية لحلحلة الأزمة الاقتصادية الراهنة، وزيادة شعبية الحكومة المحافظة بعد إخفاقها في كسب الرضا الشعبي.