بعد مرور عامين على انتهاء حرب كاراباخ الثانية، أصبح مقترح إنشاء “الممر الطوراني” والمعروف بـ”ممر زانجيزور” على قائمة أعمال حلف الناتو، في حين تراه إيران ممرا تخريبيا لاستراتيجية موقعها الجغرافي ومحاولة غربية لعزلها الدولي؛ لهذا السبب تزيد من وسائل تدخلاتها في أذربيجان وتضايق جاراتها التركية، لمنع إكمال المشروع.
ومشروع ممر زانجيزور الغربي صاغه الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، وهو يشير إلى مقاطعة سيونيك ــ بمركز كابان ــ جنوبي جمهورية أرمينيا، والتي تمتد على طول حدود أرمينيا مع إيران.
وقد أدى تخوف إيران من المشروع إلى اتهامها تركيا وأذربيجان بالتورط في الحرب من أجل التغطية على مخطط إنشاء الممر الحدودي الشمالي، وكان مبررها هو أن أذربيجان كانت لديها إرادة مستقلة لتحرير كاراباخ خلال الـ26 عاما الماضية (1994 – 2020) حتى إنها اتخذت إجراءات محدودة وتدريجية على الرغم من معارضة أمريكا وبريطانيا وفرنسا لأي عملية عسكرية.
مع ذلك لم تنفعل على استمرار أنشطة مجموعة مينسك الخاصة بحل نزاع إقليم ناجورنو كاراباخ أو وقف الدعاية المعادية لإيران، بل لم ترد بالسلب على مقترح إيران في تحرير الأراضي المحتلة من هذا البلد.
وفق هذا المنظور، يبدو أن التغييرات النموذجية في نظرة الممثلين للتطورات في أوراسيا، حولت كاراباخ منذ عام 2020 لتصبح شكلًا للمصالحة وأداة لتعزيز رغبات حلف الناتو الجيوسياسية في الشرق، والتي ينصب تركيزها على إنشاء ممر يضرب المصالح الأساسية لإيران وروسيا والصين في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى ــ البؤرة الجغرافية المتمركزة في قلب العالم ــ لأنهما المنطقتان الوحيدتان اللتان تشتركان فيهما هذه البلدان الثلاثة.
تركيا هى الأخرى دعمت التحركات العسكرية لأذربيجان في الحدود الشمالية الغربية لإيران، لتجد بدائل للتفوق على موازين القوى مقابل هزائمها في الحدود الشمالية السورية والتي كانت إيران سببًا فيها.
الاندفاع الإيراني الحذر
تعتبر إيران والصين وروسيا الأعداء الرئيسيين لحلف الناتو، وتحالفهم يعني تشكيل نظام إقليمي جديد ضد الغرب. لهذا من المفترض أن يزيل “الممر الطوراني للناتو” الحدود بين إيران وأرمينيا بتسليم مقاطعة سيونيك إلى جمهورية أذربيجان بأي شكل ولو بذريعة أنها ممر عبور؛ لأن من خلاله سيتمكنون من توجيه طعنات عميقة تزعزع أمن واستقرار مصالح الدول الثلاث في المنطقة لذلك اعتبرت إيران تلك الخطوة تهديدا فعليا لأمنها القومي.
حتى إن إيران رأت في ارتكاز باكو على المادة التاسعة من اتفاقية وقف إطلاق النار المبرمة 9 نوفمبر 2020، افتقار إلى الصلاحية القانونية؛ والسبب هو تعارضها مع المادة السادسة من الاتفاقيات الست التي دعت صراحة إلى إنشاء ممر لاتشين الجبلي بعرض 5 كيلومترات بين كاراباخ وأرمينيا.
في حين اقتُرِح في المادة التاسعة والعاشرة إعادة فتح وإنشاء خطوط نقل اقتصادية -لم يتم تحديد موقعها إلى الآن ــ ومن الممكن أن يكون هذا الطريق بديلًا لجنوب أرمينيا من ناحية مقاطعة قازاخ في شمال أذربيجان الواصلة بطريق يربط بين أرمينيا وجمهورية نخجوان.
تعول إيران على حجتها نتيجة اعتقادها أن خطوط النقل الاقتصادية لن تخضع سيادتها لحكم باكو المطلق وإنما لحكم الدول المضيفة، خاصة وأن تمثيل ممر لاتشين بممر زانجيزور وما يرافقه من ابتزاز نفسي وإعلامي واسع وضغوط سياسية وعسكرية من جانب باكو إلى يريفان يعد انتهاكا قانونيا آخر.
أما حقيقة وجود صله بين النظام القانوني لممر لاتشين مع كاراباخ والذي يتمحور حول منح الحكم الذاتي لكاراباخ ــ وافقت عليه أذربيجان سابقا في قمة لشبونة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا 1996 ــ غير صحيح، فقد تغير موقف باكو الآن، ورفض الرئيس الأذربيجاني منح أي حقوق قانونية لكاراباخ، زيادة على ذلك، تركيزه على مسألة غلق الحدود بين إيران وبين أرمينيا عبر إنشاء “الممر الطوراني للناتو”.
التداعيات الجيوسياسية للممر الحدودي
أصبح مشروع إنشاء “الممر الطوراني” مسألة تهدد التغير الجيوسياسي لحدود إيران مع أرمينيا، وهذا يفسر السبب وراء الهجوم الإيراني على الموقف الأذربيجاني المدعوم من تركيا التي تعمل على حفظ مصالحها التجارية والاقتصادية، إلى جانب انحيازها لأرمينيا، ونشرها قوات وأسلحة ثقيلة على حدودها مع أذربيجان وأرمينيا، في خضم تلك الوتيرة القلقة، حصرت إيران مخاطر إنشاء الممر الحدودي على أربع مستويات تثير حذرها وترقبها على النحو الآتي:
أولًا: ممرات العبور والنقل
في إطار الممر الطوراني الحدودي ستقوم أنقرة بإنشاء “ممر اللازورد” من تركيا إلى القوقاز وأسيا الوسطى وأفغانستان وصولًا إلى ميناء جوادر بباكستان في مقابل إضعاف وتهميش ممرات العبور الأربعة: (الحزام والطريق، ممر الشمال – الجنوب، الممر الواصل بين الخليج العربي إلى البحر الأسود، ممر إيكو الشرقي – الغربي”.
ولأن أفغانستان كانت ضمن الأهداف التركية أصرت الأخيرة مع أذربيجان على عضوية مراقب لأفغانستان باللغتين الدرية والبشتو في مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية.
ما يزيد خطر الممر هو الدعم الأمريكي وحلف الناتو له، نظرًا لكونه وسيلة فعالة لإفشال المشروع الصيني ــ الروسي في تطوير خطوط السكك الحديدية والتي تربط روسيا بأوكرانيا وبيلاروسيا وبولندا وبين الدول الواقعة على طول الحزام والطريق وبين قارتي أسيا وأوروبا.
ولعل هذا أحد الأسباب التي أزعجت أمريكا ودفعتها إلى استفزاز روسيا وتوريطها في حرب بالإنابة مع أوكرانيا هذا من ناحية، من ناحية أخرى منع إيران من استغلال مشروع الممر الشمالي ــ الجنوبي عبر الموانئ الجنوبية لها في الخليج العربي وخليج عُمان؛ لتصبح أقرب ممر عبور لدول أسيا الوسطى إلى المحيط الهندي والمياه الدولية.
ثانيًا: مجال الطاقة
من المقرر أن ينقل الممر الحدودي الجديد الغاز من أوزباكستان وكازاخستان وتركمانستان إلى باكو عبر بحر قزوين بما في ذلك ربطها مع خطوط أنابيب نقل الغاز من جنوب القوقاز وتاناب وتاب معًا إلى باكو، أي إعادة تفعيل مشروع نابوكو ولكن بصورة جديدة.
بذلك لن يكون لأوروبا حاجة جادة للغاز الروسي عبر خطوط نورد ستريم الاستراتيجية وخطوط إيران، ما سيضعف القدرات الجيوسياسية لروسيا وإيران في مجال الطاقة، فضلًا عن مواجهة الصين لمشاكل توفير مصادر الطاقة التي تحتاجها من أسيا الوسطى ولاسيما من دولة تركمانستان؛ لهذا يسعى مؤيدو المشروع إلى إقرار النظام القانوني لبحر قزوين في البرلمان الإيراني، ليُسمح من خلاله ببناء أنابيب للطاقة في قاع بحر قزوين.
ثالثًا: الجانب العرقي
سيخلق الممر الطوراني موجة عرقية واسعة قائمة على الترويج للبانتركيزم ضد القومية الأذرية والتركمانية في إيران ومناطق الأويغور في الصين والمناطق التتارية في روسيا بالاعتماد على الفكر الأيدولوجي القومي للبانتركيزم التي تقوم على اتحاد جميع الأشخاص المنحدرين من أصل تركي أو من يتحدثون التركية، في أمة واحدة وتحت جناح حكومة واحدة ومستقلة في مناطق الأذريين والتركمان والتتار والأويغور.
رابعًا: توسيع الناتو
مع تزايد رغبة الناتو في توسيع منطقة نفوذه إلى الشرق، جعل من منطقة القوقاز وأسيا الوسطى مرمى جديدا لأهدافه؛ ليتمكن من خلاله من الوصول إلى حدود شينجيانغ الصينية وتطويق الحدود الشمالية لإيران وجنوبي روسيا، وغربي الصين، علاوة على أنه فرصة لتعزيز نشاط منظمة مجلس تعاون الدول الناطقة بالتركية وإنشاء ما يسمى بالناتو التركي لتكون امتدادا غير مباشر لأذرع الناتو في وسط أسيا.
خاتمة
جملة ما أعلاه، أن هنالك حراكا غربيا لتقويض إيران وتهميش لطبيعة وسياسة وأمنية وجيوسياسية موقعها الجغرافي لردعها عن أي ممارسات قد تكون حائلًا بين مصالحه في الشرق علاوة على زيادة فاعلية العقوبات التي تحاول إيران جاهدة الالتفاف حولها بكسب صداقة روسيا والصين لتكونا منقذتين لها من أمريكا وأوروبا، ولعل هذا أيضًا تهديد بالعزل الدولي إذا ما استمرت في توسيع مشروعها النووي ومحاولات التوسع الإقليمي ولعب أدوار على المستوى الدولي.