حفل تاريخ إيران السياسي بالكثير من الحروب والمعارك التي خاضتها الأنظمة السياسية المتعاقبة ضد شعوب أخرى، سواء كانت مجاورة لإيران أو غير مجاورة لها، وإن كانت الحروب سمة المجتمعات البشرية؛ إلا أن المجتمع الإيراني باتت فكرة الحرب بالنسبة له وكأنها فكرة منسجمة مع وجدانه قبل أن تكون منسجمة مع فكر السلطة التي تسعى للتوسع جغرافيًا وسياسيًا، إما لرغبة الحكام أو خضوعًا لنظريات فلسفية ترى أن الحرب وسيلة للارتزاق والغنيمة والأمن من جهة، وتوسع في رقعة الجغرافيا من جهة أخرى.
نظرة تاريخية
تدل وقائع التاريخ السياسي والعسكري لإيران على أن تاريخها على اختلاف عهوده وأشكاله حفل بالأحداث العسكرية التي جعلت منه مجتمعًا حربيًا بامتياز، وعلى هذا الأساس خضع الشعب الإيراني للكثير من الآراء التي تبرر فكرة الحرب والتوسع الخارجي على حساب الغير.
عليه باتت إيران رقعة ساخنة تقتات على الحرب على مر عصورها القديمة، وما يشجع على تبرير تلك النظرة ما ذكره ول ديورانت في موسوعته “قصة الحضارة” حول أن المواطن الفارسي قديمًا كانت لديه عادات محددة تميزه عن غيره من الشعوب الحضارية الأخرى وأبرزها حبه للحرب والصيد على حساب تعليم الكتابة والتدوين والزراعة، وبعض الأمور التي تميزت بها حضارات شرقية أخرى.
وبالرغم من وجود حضارات تعتمد على التدوين والكتابة وتستوجب انتشار التعليم والاهتمام به، وحضارات زراعية اعتمدت على الزراعة وتوفير المحاصيل اللازمة، إلا أن الشعب الفارسي قديمًا كان يعتبر تلك الأشياء صفات غير محمودة، إذ يذهب ول ديورانت إلى نقطة مفادها أن “الكتابة والتدوين لدى الفرس كانت تعتبر من الأشياء غير المحمودة التي لا يجدر بالرجل أن يصرف فيها شيئًا من وقته. وأن وقت الرجل عليه أن يقضيه بأكمله في الحرب والصيد”.
بالتالي كانت الحرب وممارسة العنف هي السمة الغالبة على شخصية الإنسان الفارسي.
وقد حفل تاريخ إيران القديم بالكثير من الحروب، بدأت مع حروب قبائل العيلاميين والميديين على شعب بابل “العراق” في فترة حكم الملك نبوخذ نصر الأول، والذي هزم قبائل العيلاميين التي كانت مسيطرة على بلاده منذ عام 1155 ق.م، والتي اعتادت على التوحش في حروبها، حتى إن تلك القبائل العسكرية تعمدت الإمعان في إذلال أهالي بابل بنقل تمثال إلههم القومي “مردوخ” من بابل.
وبعد تلك الفترة بـ500 عام، ظهر الملك قورش الكبير، الذي يعد أبرز الأباطرة الإيرانيين، والذي اتسم عهده بالتحركات العسكرية التوسعية، فأسس أكبر إمبراطورية في التاريخ في ذلك الوقت، وتمكن في حروبه من احتلال الممالك المجاورة لأراضي إيران وأبرزها ما كان يعرف وقتها بممالك “ليديا” وهي مناطق ضمن الأراضي التركية حاليًا، وكذلك سيطر على قبائل الميديين، واحتل بابل “العراق” في عام 539 ق.م.
وتلى ذلك بالطبع تسلسلًا من الأحداث السياسية جعلت من القادة العسكريين ملوكًا على إيران مرورًا بالقاجاريين وانتهاءً بالبهلويين، ورغم تغير النظام السياسي من الملكية البهلوية للجمهورية الإسلامية في عام 1979، وترأس الدولة رجال الدين، إلا أن فكرة الحرب مازالت راسخة في ذهن الطبقة الحالية من آيات الله الذين يحكمون البلاد.
فلسفة الحرب
هناك أفكار فلسفية كانت سندًا ومستندًا أقام عليها آية الله الموسوي الخميني فكرته عن ضرورة الحرب، وإن كان الفيلسوف اليوناني أرسطو الذي عاش بين القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد صاحب الأثر البارز في فكر الخميني عن الحرب، فقد استند الخميني على فلسفة أرسطو التي تعتبر الحرب وسيلة للارتزاق والكسب، إذ قال أرسطو “إن فكرة الحرب هي فكرة قضى الطمع والطموح البشري بمشروعيتها”.
أقام الخميني نسقه السياسي على تلك الفكرة الفلسفية الأرسطية، وعمد إلى أن تكون تلك الرؤية إحدى دعائم فلسفته السياسية حين وضع رؤيته حول الاستعداد للحرب وغلفها بإطار ديني من خلال التركيز على الاستعداد للحرب في وقت السلم، انطلاقًا من الآية الكريمة: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم”.
أما مقتضيات تلك الحرب بالنسبة للخميني نفسه ــ وذكرها في كتابه “الحكومة الإسلامية” وهو الكتاب الذي وضع فيه نظريته حول “ولاية الفقيه” ــ فتقوم على “ضرورة شرعية بوجوب عدم ترك الحكومات الأخرى وشأنها، حتى لا تتمادى في غيها بما يعطل مصالح الإسلام، وبالتالي تتحول تلك الحكومات إلى حكومات مشركة يستوجب معها خوض الحرب لإزالة آثار الشرك”.
كانت هذه هي الأفكار التي غلف بها وبرر حربه على الخارج، لكن هناك حرب أخرى يخوضها النظام الإيراني مع الداخل، خاصة وأن ذلك الداخل لا يحمل تجانسًا اجتماعيًا بين مكوناته في ظل تعدد أعراق الأمة الإيرانية بين الفرس والكرد والعرب والسنة والبلوش وغيرها من الأعراق التي ترفض التجانس فيما بينها.
الحرب توحد الإيرانيين
بالتالي أدرك الملوك الإيرانيون والحاكم على مرور الزمان أنه ليس من الطبيعي أن الشعوب المتعددة الألسن والعادات والأخلاق تظل في حالة وحدة أو انسجام كامل على مدار تاريخها، خاصة وأن تركيبتها ترفض ذلك التجانس، وهو ما يستوجب اعتماد الحكام الإيرانيين على استخدام القوة والعنف لإحداث نوع من الترابط المصطنع في الداخل، خوفًا من انهيار الإمبراطورية الإيرانية قبل أي مواجهة عسكرية مع الخارج.
وقد تحدث الفيلسوف الإيطالي رالف بارتن بيري عن بعض الهواجس التي تخلق نوعًا من القلق الدائم لدى الإنسان وتحفزه للانقضاض على الآخر، ومن ثم يكون هناك تفعيل وتنشيط دائم لفكرة المواجهة والحرب بشكل دائم في المجتمعات الإنسانية.
بيري عبر عن ذلك في كتابه “إنسانية الإنسان” بتأكيده على أن “هناك بعض المجتمعات يكون الإنسان فيها متحفزًا طوال الوقت لأنه يرى أنه يواجه خطرًا يهدد حياته، ووقتها لا يستطيع أن يختار إلا من بين الوسائل الواقية للذات، وكذلك عندما يكون الصراع من أجل الوجود صعبًا وقاسيًا فإن مجال الاختيار ينحصر أولًا في المأكل والمشرب والمأوى، وعندما يكون العدو حاضرًا ينحصر بكامل سلاحه وقد ثار دم القتال في الإنسان فلا خيار أمامه إلا في أسلوب توجيه الضربات وتلقيها”.
وإذا طبقنا هذا الأمر على المجتمع الإيراني يتضح أنه مع التسلسل الدائم لفكرة توجيه نظر المواطن الفارسي للحرب وتركه للكتابة والزراعة ووسائل الحضارة، يدلل على تحفزه الدائم للمواجهة بسبب ما يشعر به من أخطار تواجهه من الداخل ومن الخارج، وبالتالي تكشف المعادلة حينها عن انحصار البحث في البدائل لتتجه إلى ضرورة توفير المأكل والمشرب أولًا ثم التحفيز الدائم لمواجهة العدو سواء كان العدو الداخلي أو الخارجي.
على هذا الأساس يعيش الشعب الإيراني حالة توجس مستمر، توجس على الصعيد المحلي وتوجس على الصعيد الخارجي والعالمي، ففي الداخل يوجد توجس من القوميات المختلفة والتي تنافس السلطة السياسية والدينية وتوجس من الخارج من أخطار خارجية حقيقية حينًا ووهمية حينًا آخر وهو التوجس الذي خلق انغلاقا وانكفاءً ذاتيها على قيم ومفاهيم بالية شرعت بمقتضاها فكرة الحرب على كل من يخالف سياسات الأنظمة المتعاقبة.
خاتمة
قد يتعجب المتمعن في تركيبة النظام الإيراني والمجتمع بشكل عام، حول ارتباط فكرة الحرب أو المواجهة الدائمة مع الداخل والخارج، غير أن هناك نظريات سياسية إيرانية حملت أفكارًا تجعل من فكرة الحرب أمرًا مشروعًا ونوعًا من الكسب المادي والتوسع الجغرافي، وهو ما يتجانس مع شهية الإيراني التواق دائمًا للسيطرة والتغلب، وبالتالي انسحب ذلك على مشروعية تشكيل فيلق القدس المسؤول عن دعم الوكلاء التابعين لإيران في عدد من المناطق لتوسيع النفوذ الإيراني الفكري والسياسي.
من ناحية أخرى ارتبطت مسألة شرعنة الحرب مع شخصية الإيراني الذي تربى على الحرب والصيد منذ قديم الأزل، وكذلك بحث المفكرون الإيرانيون عن ما يؤيد تلك الشرعية في الفلسفات القديمة، كما عند أرسطو وغيره، علاوة على تغليف تلك المشروعية بإطار ديني يمكن الحكومة من إقناع الشعب بأن الحرب آداة للحفاظ على الوجود، وبالتالي انسجم ذلك مع ذهن المواطن الإيراني الذي بات يشعر دائمًا أن هناك أعين تترصد له للانقضاض عليه.