في الغرف المغلقة لصنع القرار بالدوائر السياسية العليا في طهران، ثمة اسم تتجه له الأنظار عند حدوث الوقائع الكبرى المرتبطة ارتباطا مباشرا بمعادلات القوى والنفوذ في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومنها واقعة عدول وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف عن استقالته المدوية تلك التي أعلنها ليلة الخامس والعشرين من فبراير الماضي. وهو الذي كان محمّلا برسالة دقيقة وبالغة الحساسية من المرشد الأعلى علي خامنئي، إلى ظريف، مفادها أنه يتوجب على الوزير المستقيل العودة إلى منصبه في الصباح الباكر.
الجنرال وحيد حقانيان
هذا الاسم هو الجنرال “وحيد حقانيان” القائد العسكري والسياسى المخضرم، النائب التنفيذي للمرشد ومساعده للشؤون الخاصة، والذي عرف عنه لسنوات عدة بأنه ظل خامنئي وذلك لقربه الشديد منه، فهو يقف خلفه في مختلف المناسبات ويرافقه في كل اللقاءات والاجتماعات الحساسة؛ لذلك وسمته الصحف ووكالات الأنباء بـ”الجنرال الذي لا يفارق ظل المرشد”.
وحيد حقانيان رقم 2 على يسار الصورة يوم 25 فبراير الماضي، لدى استقبال المرشد علي خامنئي، الرئيس السوري بشار الأسد في طهران.
ويتداول السياسيون في طهران أن وزير الخارجية المستقيل محمد جواد ظريف عاد إلى ممارسة مهامه بعد يوم وليلتين من استقالته على منصة “إنستجرام” للتواصل الاجتماعي، ليس بسبب الرسالة التي بعثها له حسن روحاني؛ وإنما بعد لقائه مع “وحيد حقانيان”، وهو الرجل الذي من شأنه تغيير معادلات السياسة في إيران بين عشية وضحاها، وقد نجح في إقناعه بالتنازل عن فكرة التشبث بالاستقالة والعودة إلى منصبه.
على ما يبدو فإن “سردار وحيد حقانيان”، كما يطلق عليه في طهران، توجه عشية يوم 26 من فبراير 2019 إلى منزل وزير الخارجية محمد جواد ظريف ونقل له التوجيهات المباشرة الصادرة عن بيت القيادة (يعرف بيت القيادة بأنه مجلس يتكون من محمد علي جعفري قائد الحرس الثوري ومجتبى خامنئي نجل المرشد والمخول من جانب والده بإدارة أكثر الملفات السياسية دقة في البلاد). وقد حمل حقانيان إلى ظريف توجيه خامنئي بالعودة إلى منصبه كي يفوّت الفرصة على “أعداء الجمهورية الإسلامية في تل أبيب وواشنطن” خاصة أن وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو غرّد بهذا الخصوص.
في الأشهر الماضية، نشرت عدد من وسائل الإعلام الإيرانية أنه تم حبس وحيد حقانيان على خلفية صراع داخلي محتدم في مكتب المرشد الأعلى، وتحديدا مع علي أصغر حجازي، المستشار في مؤسسة المرشد، لكن بالذهاب إلى أرشيف المرشد الأعلى ذاته وُجِدَ وحيد حقانيان في كل الصور والفعاليات التي نشرها الموقع الرسمي للقيادة العليا في إيران، ومنها على سبيل المثال، استقبال خامنئي مسؤولي وباحثي لجنة تنمية العلوم الادراكية، في يناير الماضي، وآخرها، استقبال المرشد الأعلى للرئيس السوري بشار الأسد يوم 25 فبراير الماضي، وهو اليوم الذي أعلن في مسائه جواد ظريف استقالته الشهيرة.
هذا الأمر كان غريبا، إذ كيف يتم تداول أنباء عن اعتقاله في العام الماضي ثم يظهر بعد ذلك في كل المناسبات خلف المرشد وبجواره؟!
وحيد حقانيان في جلسة استقبال خامنئي مسؤولي وباحثي لجنة تنمية العلوم الادراكية في يناير الماضي أقصى يسار الصورة.
بسؤال المصادر الخاصة في العاصمة الإيرانية اتضح أن الرجل لم يتم حبسه إلا يوم واحد وفقط، لاتهام شقيقه بسرقة أموال تتعلق بمجتبي خامنئي، غير أن المرشد عندما علم بالأمر أصدر توجيهاته بإعادة حقانيان إلى منصبه كي لا يؤخذ بذنب أخيه، خاصة أن أخاه هرب بالأموال إلى العاصمة التركية أنقرة، ولم يعد في مقدور حقانيان الضغط على أخيه لإعادة الأموال المسروقة.
من هو وحيد حقانيان؟
ولد وحيد حقانيان في العام ١٩٦٢ فى جنوب غربي إيران، في منطقة “16 متري أميري”، لأسرة دينية من رجال الدين، والده الشيخ حسين خوانساري والذى ظل إمامًا لمسجد لولاگر حتى نهاية الستينيات، ودرس في المدرسة العلمية لآية الله العظمى، مجتبي طهراني (أبريل 1933 ـ 1 يناير 2013) وتلقى هناك علوم جامع المقدمات، وهو أحد المراجع التى تدرس فى الحوزات العلمية الشيعية ويشتمل على 15 كتابًا فى الصرف والنحو العربي والأخلاق والآداب الإسلامية وغيرها، وتوفى الشيخ حسين خوانساري والده عام ٢٠٠١.
وفي أثناء المظاهرات الثورية على عهد الشاه، محمد رضا بهلوي، اعتُقِل لأول مرة عام ١٩٧٨ هو ومجموعة من الشبان في أثناء استماعهم إلى الرسائل التي كانت تذاع فى غربي طهران لآية الله الخميني بواسطة إحدى محطات الراديو، ولصغر سنه أفرج عنه بعد أسبوع من اعتقاله، بيد أن هذه التجربة العويصة التي عاشها شكلت فارقًا قويٌا وتغيرًا جذريًا فى حياته، فبعد انتصار الثورة الإسلامية وفى عام ١٩٧٩ عمل مع لجان الثورة الإسلامية تحت قيادة آية الله إرفانى فى غربي طهران.
وأخيرًا بعد حصوله على شهادة الدبلوم من المدرسة الثانوية “فراهاني” عام ١٩٨٥ انضم للحرس الثوري، وكان من القلة الذين تولوا منصبًا مباشرا في مؤسسة الحرس الثوري من دون أن يكون له أي خلفية عسكرية، ففى عام ١٩٨٦ عُين قائدا لدوريات الأمن التابعة للحرس الثوري فى طهران والمعروفة باسم “فوج ثار الله”.
وحيد حقانيان في منتصف الصورة بين نجاد وخامنئي
كانت قيادة “فوج ثارالله” في خلال تلك السنوات قريبة من قصر سعد آباد بطهران، والواقع فى حامية “الإمام علي” العسكرية، المثير للدهشة أن وحيد حقانيان كان من ضمن هؤلاء الأشخاص الذين عرفوا بأنهم تابعين لحامية الإمام علي، رغم أنه قد طرأ على تلك الحامية عدة تغيرات بين فيالق الحرس الثوري لكن وحيد ظل في الخدمة بها آنذاك.
في تلك الأثناء أوكلت إليه القيادة العسكرية للحرس الثوري عددا من المهام الخطيرة والمهمة فى العاصمة طهران، لكن ذلك لم يشغله عن ساحات القتال، وفي عام ١٩٨٩ تعرض لإصابة بالغة فى البطن والقدم في أثناء عمليات “بيت المقدس 3″، والتي لا تزال آثارها واضحة خلال سيره إلى الآن.
بنهاية العمليات، عزم وحيد حقانيان على إكمال دراسته، والتحق بشعبة الاقتصاد بجامعة طهران، وبعد تأسيس فيلق القدس التابع للحرس الثوري، انضم له وشغل منصب نائب قائد الفرقة الموجهة لدول الكتلة الشرقية.
فى عام ١٩٩٣ فى ذروة حرب البلقان بين مسلمي البوسنة والهرسك وصربيا، أمر فريدون فيردي نجاد المشهور بـ”حاج نعيم”، والذي كان قائد فيلق القدس آنذاك، بإرسال وحيد حقانيان إلى البوسنة، إلا أن وحيد امتنع بسبب ميلاد طفله الثالث، وأرسل برقية لإيكال الأمر لغيره، لكن “فيردي” كان مدركًا لمهارة وحنكة وحيد العسكرية وتخصصه فى دول أوروبا الشرقية.
عقب صلاة الجماعة في مصلى حامية الإمام علي العسكرية، التقى فيردي بحقانيان، وأخبره بحماسة أن “القائد الذي يرفض تنفيذ أوامر رؤسائه لا تقبل صلاته، ويؤخذ عمله مناهضًا للرسالة الموكولة له، بجانب أنه نموذج سلبي لغيره”، وعلى إثر ذلك قدم وحيد استقالته لرئيس مكتب المرشد الأعلى، الذي كان حجة الإسلام محمدي گلپایگاني، ثم قائد حماية المرشد الأعلى والمساعد السياسى لمكتب التفتيش الخاص للمرشد علي خامنئي.
حقانيان في منتصف الصورة بين روحاني وخامنئي.
وتسببت الاستقالة التي تقدم بها حقانيان في مزيد من الخلاف بينه وبين فيردي بعد أن اشتكاه حقانيان على خلفية استقالته التي تقدم به، معتبرًا أن زوجته من أهله وهى الأولى بالمعروف وبصحبته، خاصة أنها كانت قد أنجبت طفلا للتو وتحتاج إلى مزيد من الرعاية.
عقب ذلك انتهى الصدام بين كل من الجانبين حينما أعلن مكتب التفتيش للمرشد الأعلى انتصاره لشكوى وحيد، وعلى على إثر ذلك انقطع فيردي نجاد عن الخدمة آنذاك، وانقلبت الموازين وشهدت تلك الفترة فى حياة نجاد، تغيرًا عجيبًا، إذ أصبح إصلاحيا، وبفضل دعم محمد خاتمي له، تولى رئاسة وكالة الأنباء الإيرانية ثم أصبح سفيرًا لإيران فى الصين، أما حقانيان فمن أجل حماية منصبه فقد التحق بالخدمه فى مكتب المرشد الأعلى حتى عام ٢٠٠١، واستمر بالعمل مع أصغر مير حجازي في مكتب حماية المرشد المرشد الأعلى.
ولقد لعب وحيد حقانيان دورا مهما فى تنظيم وتوجيه الأنشطة اليمينية ضد الإصلاحيين، وفي عام ٢٠٠٢ عُين نائبًا تنفيذيًا لمكتب القيادة، ثم قائد حماية المرشد الأعلى، والمساعد السياسي لمكتب التفتيش الخاص للمرشد علي خامنئي.
ملابسات اختفائه
وصفت صحيفة اعتماد الإصلاحية “حقانيان” بأنه اليد اليمنى لخامئني، وذكرت أن حقانيان قد اختفى في ظل ملابسات غامضة، وأنه غاب عن مكان عمله يوم 31 يناير من العام الماضي ٢٠١٨، مرجحة اعتقاله بسبب ملفات فساد مالي، وأن التحقيق جرى معه من قبل بعض المسؤولين.
حقانيان يصافح علي أكبر صالحي
وأبرزت صحيفة “ديده بايران” آخر ظهور له على فيديو انتشر بشدة على مواقع التواصل الاجتماعى، بينما يهجو نائب رئيس الجمهورية إسحاق جهانگيري، في أثناء تفقده المناطق المنكوبة فى مدينتي “سربل ذهاب” و”قصر شيرين” إثر زلزال ضرب المناطق الغربية فى إيران بشهر نوفمبر من العام 2017، إذ انتقد حقانيان تصريحات جهانجيرى التى حمّل فيها الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد مسؤولية المساكن التى تهدمت، بحكم أنها شيدت فى عهده.
وقتها لاقت تصريحات حقانيان أثرا واسع النطاق في الأوساط الإيرانية، ووجهت له انتقادات بالغة، وقالت صحيفة “آرمان” إن تصريحات حقانيان قوبلت بكثير من الغضب والاستياء، خاصة أن الألفاظ التى استخدمها حقانيان كانت بذيئة ولا تتناسب مع شخص مقرب من خامنئي المرشد الديني والسياسي للبلاد.
أما صحيفة “سبز إيران” فقد تناولت خبر الاختفاء بمنظور آخر معلقة أن اختفاء وحيد حقانيان ليس لأسباب مرضية أو عارضة، ولكن يعود لسبب سياسي بالدرجة الأولى، وسبب يخص مجتبي خامنئي بشكل مباشر، إذ كثرت في إيران الروايات المتواترة عما يتم في بيت خامنئي، خاصة بعد انتفاضة السابع والعشرين من ديسمبر 2017، واحتشاد مئات الآلاف من الإيرانيين يهتفون بسقوط المرشد ويطالبون برحيله، وما شاب ذلك من تفاعلات وصراعات داخلية في دوائر الحكم العليا بإيران.
وحيد حقانيان يصافح قائد الحرس الثوري الجنرال محمد علي جعفري.
على كل حال يمكن القول إن وحيد حقانيان سيشكل رقما صعبا في معادلات الصراع بين كتلتي الإصلاحيين والمحافظين في المشاهد المقبلة، خاصة إذا تم تصعيده من منصبه في بيت القيادة لتولي منصب تنفيذي في دولاب الدولة، وإذ حدث وتم اختياره مرشحا للمحافظين في انتخابات 2021 فمن المحتمل أن يواجه خصمه اللدود إسحاق جهانجيري، ووقتها من المحتمل أن تكون الغلبة للمحافظين على ما يبدو من تقديرات.
ـــــــ
ساعد في التحرير، محمد خيري.
ساعدت في جمع المادة العلمية، شيماء مرسي.