تحل يوم 11 ديسمبر من كل عام ذكرى مولد الروائي المصري العالمي الأستاذ نجيب محفوظ (1911 ــ 2006م)، ذلك الذي نقل الأدب الشعبي المصري من المحلية إلى العالمية وعرَّف الناس في مصر وخارجها على حقبة من أهم أحقاب تاريخ مصر المفعمة بالأساطير والحكايات، وبالرغم من أن الجميع عَرَفَ نجيب محفوظ، أو قرأ له، أو تأثر به أديبا وناقدا اجتماعيا وفيلسوفا وسينمائيا، إلا أن جانبا في شخصيته يظل مطموسا حتى الآن، ألا وهو أنه كان مثقفا ــ وصل حد الخبرة الشديدة ــ في الشؤون الإيرانية.
ففي ذكرى ميلاد نجيب محفوظ، يتجدد الحديث بقوة ويعود مرات ومرات إلى رواية ملحمة الحرافيش، تلك التي تبدو أكثر أعماله قدرة على تجاوز حدود الجغرافيا المصرية لتلتقي، على نحو لافت، بأفكار راسخة في الثقافة الإيرانية، من الفتونة (بالفارسية: جوانمردى، وتنطق بالعربية: چاڤانمردي) إلى فكرة الإمام الغائب، وصولا إلى حضور الأدب الفارسي وتموضعه داخل نسيج الرواية، خاصة من خلال الاقتباسات المستمدة من أشعار حافظ الشيرازي، والموضوعة بعناية في قلب النص تعبيرا عن حالة كل بطل من أبطال الملحمة وفق مقتضيات السياق.
اقرأ أيضا:
وهذه ليست مقارنات قسرية مستدعاة بالتعنت إلى هذه المقالة، بقدر ما هي قراءة في الطبقات العميقة للنص، إذ يتحول الفتوة الأول في سلسال الفتوات العظام بملحمة الحرافيش “عاشور الناجي” إلى رمز ديني – أخلاقي يتجاوز حدود الشخصية الروائية، ويغدو أقرب إلى صورة الإمام المنتظر الذي يحمل وعد العدل ويختفي ليعود في دورة أخرى من الزمن.
وقد غيَّب نجيب محفوظ الفتوة العادل القوي المسيطر المتحكم الذي يمكنه ردع الظالمين بدون معرفة مكانه ولا موعد رجعته، تماما كما هي الفكرة السائدة لدى الإيرانيين ولدى أتباع المذهب الشيعي، حيث غاب الإمام وهم في انتظاره، بل إنهم يدعون صباح مساء بعودته ويبتهلون إلى الله بأن “يعجل من فرج” إعادته.
ولقد قدم محفوظ في الحرافيش مفهوم “الفتونة” في صورتها الأخلاقية لا الباطشة الظالمة، فجعلها منظومة من القيم والمروءة والعدل، وتكاد هذه الدلالات تنسجم إلى حد التطابق التام مع معنى الفتونة الإيرانية أو “الجوانمردي”، التي تعود جذورها إلى التصوف والحركات الشعبية التي جمعت بين الرياضة الروحية والجسدية، وأنتجت أخلاقيات تقوم على النصرة والتضحية والوفاء للعهد وحماية المستضعفين الذين أفرد لهم الدستور الإيراني لعام 1979 مادة خاصة.
في هذا الإطار، لا يبدو عاشور الناجي شبيها بفتوات الحارة التقليديين، بقدر ما يشبه “الجوانمرد” (بالعربية: الفتوة) في التراث الفارسي، وهو رجل نقي، يصلح ولا يفسد، ويضحي ولا ينتقم، ويعيد التوازن الأخلاقي إلى المجتمع عندما تشتد الحاجة إليه.
ولعل هذه الصورة ذاتها هي التي صنعت في الوجدان الإيراني أسطورة الشخصيات الروحية ــ الاجتماعية التي مثلت همزة وصل بين الشعب وبين مفهوم العدل الإلهي.
ويمضي محفوظ إلى أبعد من ذلك، من دون أن يعلن عن ذلك صراحة، إذ تتبدى العلاقة بين عاشور الناجي وفكرة الإمام الغائب كعلاقة بنيوية لا سطحية، فيظهر عاشور من بين طبقات “الحرافيش” ويتبدى في صعود غير مفهوم إلى قمة السلطة، كما لو أنه مبعوث قدر لا مجرد شخص قوي ومحبوب، ثم يكرس وجوده لإقامة العدل وتخليص الضعفاء من عسف الأقوياء، في صورة تكاد تماثل التصور الشيعي الإمامي لدور الإمام المهدي بوصفه مجددا للعدل في زمن الظلم.
غير أن الفارق الجوهري الوحيد بين الفتوة عاشور الناجي الغائب والإمام المهدي الغائب، أن عاشور الناجي لقيط غير معلوم النسب، لكن الإمام المهدي هو حفيد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وما أعظم هذا الانتساب وما أشرف هذا الانتماء.
حتى حين يختفي عاشور الناجي من دون رجعة “في ظروف غامضة”، وتتحول سيرته إلى مادة انتظار جماعي في كل الأجيال المتعاقبة، حين ينتظره المظلومون ويتندر عليه الفسدة والظالمون، يصبح قريبا من صورة الغيبة التي شكلت ــ وجدانيا ــ كثيرا من التجربة الدينية والاجتماعية لدى الإيرانيين عبر القرون.
أما تكرار سيرة عاشور الناجي، الفتوة العادل، بصورة دورية في سيرة الأبناء والأحفاد، كما تتكرر “الدورة” الكونية للعدل، فهو ما يوازي مفهوم الرجعة في المرويات الإمامية، حيث يعود العدل مرة بعد مرة لإكمال مهمة لم تنجز بالكامل، تماما مثل تسلسل الأئمة من الإمام علي بن طالب أول الأئمة الإثني عشر حتى الإمام الغائب، وهو الأمر نفسه بالحرف الواحد الذي يجده كل خبير في الشؤون الإيرانية يقرأ تسلسل الفتوات من نسل عاشور الناجي.
وهكذا يغدو نص نجيب محفوظ في الحرافيش مفتوحا على البنية الذهنية الإيرانية، من دون أن يكون محفوظ قد قصد ذلك ــ أو لعله قصده مع سبق الإصرار والترصد ــ بعينه، إذ إن قراءته الواسعة للتصوف والتاريخ الديني، ومعها حدسه الفني، قادته إلى خلق شخصية ذات طابع “مهدوي” بملامح روائية خالصة.
ولا يقل حضور فارس داخل الرواية أهمية عن البنية الرمزية، في داخل النص، لأن “التكية” في الحرافيش هي استيراد فارسي محض، فضلا عن وجود اقتباسات فارسية من ديوان شاعر إيران الأكبر، حافظ الشيرازي، وهو أمر لا يمكن اعتباره حشوا عابرا في قلب النص، لكنه إضافة مقصودة تعبر عن التناص والتمازج بين ما حدث في مصر وإيران في تلك الحقبة من التاريخ.
ولقد توقفت طويلا أمام كلمات الدكتور حسين شمس آبادي، وهو أستاذ الأدب العربي في جامعة سبزوار الإيرانية، حين قال: “إن أعمال نجيب محفوظ جذابة للقراء الإيرانيين بسبب قربها من ثقافة الإيرانيين ومن مجتمعهم”.
وفي الوجدان الإيراني لا يعد حافظ الشيرازي ــ الذي لجأ إليه نجيب محفوظ مقتبسا ومنفعلا ــ شاعر غزل فحسب، بل معلما روحيا، يقرأ الناس ديوانه بوصفه نصا كاشفا للنفس البشرية ولفلسفة الوجود، تماما مثلما برع نجيب محفوظ في رواياته، وبالتالي فإن استدعاء أبياته داخل الحرافيش أضفى على الرواية بعدا صوفيا تناغم مع التجربة الروحية للفتوة عاشور الناجي، وبعدا قدريا عكس إحساس نجيب محفوظ بالقدر الذي يعمل في الخفاء، بالإضافة إلى بعد جمالي منح النص لغة لا تقل روعة عن أي عمل أدبي عالمي في تاريخ الحضارة البشرية.
بالتالي فإن حافظ الشيرازي، في الثقافة الإيرانية، يمثل ما يمثله نجيب محفوظ في الثقافة المصرية، فهما روح الأمتين الإيرانية والمصرية وصوتهما العميق، وحين يلتقي الاثنان داخل رواية واحدة، تتحول الحرافيش إلى نص عابر للثقافات، لا ينتمي للقاهرة وحدها، بل يشترك فيه الشرق الإسلامي كله، تماما مثل ما عبر حافظ الشيرازي بأشعاره إلى خارج حدود بلاد فارس.
ولعل هذا ما جعل استقبال الإيرانيين للرواية عند ترجمتها إلى الفارسية أمرا طبيعيا، بل كان متوقعا، فقد وجد القارئ الإيراني في الرواية ما يتقاطع مع مخياله الثقافي، وهو مفهوم الفتونة المشابه لـ”الجوانمردى”، وشخصية عاشور التي تقترب من صورة المخلص أو صاحب العصر، واللغة الملحمية القريبة من الذائقة الإيرانية، فضلا عن حضور حافظ الذي عمل كجسر روحي بين العالمين.
وهكذا بدت الرواية كما لو أنها تربط بين القاهرة الفاطمية وطهران القاجارية، وبين الحارة المصرية والمجتمع الإيراني الباحث دائما عن التوازن بين القوة والعدل والروح والذي وقع أسيرا لحالة من الظلم الاجتماعي وقهر القوي للضعيف في هذا الزمن.
على هذا النحو نفهم أن ملحمة الحرافيش في بعدها الإيراني ليست رواية عن قوة الفتونة، بل عن هشاشة الإنسان أمام الظلم، وعن حاجة المجتمع الدائمة إلى شخصية تعيد إليه الإيمان بقدرته على مقاومة الطغيان، وارتباط الثقافتين المصرية والإيرانية بشخص واحد قادر على فعل ما لم يفعله الجميع، وهو القضاء على الطغيان وتحرير الناس من أسر العبودية إلى سلطتي القوة والمال.
وفي إيران، حيث ترسخ فكرة “العادل المنتظر” في المخيال العام، بدا الفتوة عاشور الناجي صوتا مشتركا من أصوات الشرق، ورمزا يلتقي عنده المصري والإيراني بلا افتعال؛ لذلك فإن نجيب بمحفوظ تمكن من بناء جسر ثقافي يصل حواري القاهرة بأزقة طهران، وأثبت أن الأدب قادر على أن يصنع وحدة رمزية حتى حين تتباعد السياسات.
بناء على كل ما تقدم لم يكن غريبا أن يهتم الإيرانيون بأدب نجيب محفوظ ويعكفوا على تحويل رواياته ومجموعاته القصصية إلى اللغة الفارسية تماما مثلما فعل المترجم الإيراني الذائع، محمد دهقاني، حين ترجم رواية “الشحاذ” إلى الفارسية بعنوان “گدا”، ومثلما فعل المترجم الإيراني الشهير، محمد رضا مرعشي بور حين ترجم رواية “الطريق” بعنوان “راه”، وكذلك فعل المترجمان مهدي شاهرخ، وأصغر علي کرمي، وغيرهم كثيرون، كما درس أساتذة النقد الأدبي العربي وأساتذة أصول اللغة العربية في إيران كل كبيرة وصغيرة في أدب نجيب محفوظ؛ لأنهم وجدوه يعبر عن حال أمتهم ولكن في إطار غارق في المحلية المصرية.
ومجمل القول إن نجيب محفوظ لم يقل يوما إنه خبير في الشؤون الإيرانية، غير أن كل من يقرأ له يفطن إلى أنه لا يمكنه أبدا أن يقدم هذا البناء الدرامي الأعلى العابر للحدود والثقافات في رواياته وبالأخص في “ملحمة الحرافيش” من دون أن يكون قد هضم تاريخ بلاد فارس وعرف تعقيدات مجتمعها وقرأ وعاش نصوص حافظ وسعدي وغيرهما، وعليه يمكن القول بارتياح إن نجيب محفوظ أوتي علم واسع في هذا المضمار وكان خبيرا حق الخبرة في الشؤون الإيرانية.
ـــــــــــــــــــــــــ
🛑 للانضمام إلى النشرة البريدية للمنتدى على واتساب من خلال الرابط التالي:
https://chat.whatsapp.com/HRhAtd7IrydFFx6i1zSI7S
🛑 رابط قناة الدكتور محمد محسن أبو النور على تليجرام:
https://t.me/iran_with_egyptian_eyes
🛑 رابط الحساب الرسمي للدكتور محمد محسن أبو النور على فيسبوك:
https://www.facebook.com/mohammedmohsenaboelnour1
🛑 رابط قناة الدكتور محمد محسن أبو النور على يوتيوب:
https://www.youtube.com/@MohammedMohsenAboElNour