تعيش إيران في هذه المرحلة واحدة من أكثر لحظاتها تعقيدا منذ قيام الجمهورية الإسلامية، حيث تتقاطع الضغوط الداخلية مع التحولات الإقليمية والدولية على نحو غير مسبوق، إذ إنها وجدت نفسها في حالة جديدة بعد سنوات من الاعتماد على فكرة “العمق الإستراتيجي” خارج الحدود، تفتقد ركيزتها الإقليمية المتمثلة فيما كان يعرف بـ”محور المقاومة”.
اقرأ أيضا:
واليوم تجد طهران نفسها أمام واقع جديد تآكلت فيه هذه الهوامش، بينما بات الداخل الإيراني نفسه ساحة التحدي الأهم، وفي هذا السياق، لا يمكن قراءة أي تحرك في السياسة الخارجية، خاصة ما يتعلق بالملف النووي والعلاقة مع الولايات المتحدة، بمعزل عن الأزمة البنيوية التي يواجهها النظام السياسي، وعن التحولات العميقة التي فرضتها مرحلة ما بعد الحرب على معادلات القوة والنفوذ في الإقليم، جنبا إلى جنب مع الصراعات الداخلية المحتدمة حول بوصلة السياسة الخارجية بين معسكري المحافظين والإصلاحيين.
ويبدو أن الموقف الأخير الذي أعلنه وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، ومفاده أن طهران مستعدة لاستئناف المفاوضات مع الحكومة الأمريكية بشأن الملف النووي، يأتي في سياق ضغوط داخلية تمارسها بعض الأطراف على جهاز السياسة الخارجية للدولة، ما يدفعه إلى تبني هذا النهج في ظل التعقيدات والظروف الصعبة التي تواجهها إيران، وهو اتجاه تحليلي ذهب إليه غير كاتب إيراني من بينهم مرتضى مكي، إذ نشر تحليلا ينطوي على هذه الفكرة في صحيفة “آرمان ملي” الإصلاحية تحت عنوان “عمق استراتژیک ما” (بالعربية: عمقنا الإستراتيجي).
والواقع أن إيران تمر بحالة من حالات الانسداد السياسي، أي عدم قدرة النظام السياسي على معالجة القضايا أو اتخاذ القرارات المصيرية بسبب الصراعات والاختلالات في موازين القوى الداخلية بين المؤسسات، ما يعني أنها في حاجة مُلحة لطرح مبادرة تُمكن من كسر حالة الجمود الراهنة، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء أن التصريحات التي أدلى بها عراقجي ما هي إلا استجابة للضغوط المتزايدة.
اقرأ أيضا:
ويؤكد هذا، القرار الذي تم الإعلان عنه مسبقًا، والذي يفيد بأن إيران ليست مستعدة للتفاوض مع الولايات المتحدة في ظل تلك المطالب القصوى التي تطلبها، كما يؤكد كذلك أن إيران تطرح بدورها مطالب قصوى لإظهار عدم استعدادها للانصياع للمطالب الأمريكية، وأنها ستواصل مقاومتها لمثل هذه الضغوط.
من جهة أخرى، لا تمتلك إيران خيارًا سوى الحوار والتفاوض للخروج من هذه الظروف الاقتصادية والسياسية والأمنية الصعبة والمعقدة التي تمر بها البلاد، فلو أرادت إيران القول إنها لا ترغب في الحرب، فلابد عليها إذًا تبني سبيل للخروج من هذا الوضع السياسي والاقتصادي المعقد.
على ما يبدو فإن الحكومة الإيرانية مطالَبة باتخاذ خطوات تتجاوز حدود هذه المواقف العامة، وأن تعتمد سلوكًا سياسيًا يعكس إدراكًا حقيقيًا بأن أوضاع إيران في مرحلة ما بعد الحرب قد تغيرت، وكذلك الحال بالنسبة للمعادلات الإقليمية التي باتت تخضع لمتغيرات جديدة أيضًا.
وفي ضوء هذه التحولات، يصبح من الضروري إعادة ضبط السياسة الخارجية بما يتلاءم مع الواقع المستجد، إذ لم يعد من الممكن الاستمرار في النهج السابق نفسه ذلك الذي يهدف إلى تحييد العقوبات أو رفعها، اعتمادًا على معادلات ما قبل الحرب.
اقرأ أيضا:
ففي مرحلة ما بعد الحرب، واجهت إيران تطورات بالغة الأهمية، أبرزها انتهاء مفعول القرار الأممي 2231، وتفعيل “آلية الزناد” من قبل الدول الأوروبية، ويُعد القرار 2231 هو حجر الأساس القانوني المنظم للاتفاق النووي الإيراني وعلاقة إيران بالغرب ومع انتهاء فاعليته باتت طهران تواجه فراغًا سياسيًا، كما أن انتهائه عطل مسارات التفاوض وجعل الغرب يعيد تفعيل آلية الزناد التي سمحت بإعادة جميع العقوبات الدولية تلقائيًا من دون إمكانية استخدام الفيتو الروسي أو الصيني لمنع ذلك في حالة إذا أخلت طهران بالتزاماتها، فضلًا عن صدور قرار ضد إيران في مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
إلى جانب ذلك شهدت دول مثل العراق ولبنان وسوريا تحولات جوهرية في أوضاعها السياسية والأمنية، وهي الدول التي كانت تُمثل في السابق عمقًا إستراتيجيًا لإيران، لكنها باتت اليوم تواجه تحديات وتهديدات حادة تجعل من الصعب الاستمرار في التعامل معها باعتبارها عمقًا إستراتيجيًا بالمعنى التقليدي.
ويشير الموقف الحالي إلى أن العمق الإستراتيجي لإيران يبدأ من الداخل، حيث يمثل الاستقرار الاقتصادي أولوية قصوى، فإذا لم تتمكن الحكومة من تهيئة الظروف لضمان استقرار ورفاهية الاقتصاد الوطني، فإن البلاد ستواجه تهديدات أشد خطورة من أي هجوم محتمل من إسرائيل، إذ إن الوضع الاقتصادي معقد للغاية، وهو مرتبط بشكل وثيق بالقرارات السياسية الكبرى، خاصة في السياسة الخارجية، في ظل وجود العديد من المبادرات والفرص التي يمكن أن تمثل مخرجًا من هذه الأزمة.
اقرأ أيضا:
وعلى صعيد السياسة الإقليمية، يمكن لإيران أن تتبنى نهجًا يظهر أن قدراتها الصاروخية محصورة في الدفاع فقط، وأنها لا تسعى للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، بل يمكن أن تنتهج سياسة تهدئة التوترات وبناء جسور التعاون الإقليمي.
وفي الوقت نفسه، يظل الدعم الإيراني لإقامة دولة فلسطينية أمرًا أساسيًا، لكن من الضروري تفادي خلق أي تناقضات في المواقف، حيث يظهر موقف إيران من القضية الفلسطينية متناقضًا بين الخطاب الثوري الداعم للمقاومة والشعارات الإعلامية الرافضة لإسرائيل، وبين الواقع العملي الذي يقيد تدخلها المباشر ويجعل دعمها للفصائل الفلسطينية محدودًا ومشروطًا بالمصالح الإستراتيجية والدبلوماسية والإقليمية لها في المنطقة.
ولعل هذا النهج من شأنه أن يعكس إستراتيجية متوازنة تهدف إلى إظهار دعم إيران للشعب الفلسطيني، وفي الوقت نفسه يخفف من الذرائع التي يستخدمها الأمريكيون لتصوير إيران كتهديد إقليمي، وبالتالي، يمكن أن يفتح هذا السلوك الجديد المجال أمام الدبلوماسية ويهيئ الظروف الملائمة للتفاوض، بما في ذلك إمكانية التوصل إلى اتفاقيات ورفع العقوبات المفروضة على إيران.
اقرأ أيضا:
عليه تبدو إيران اليوم أمام مفترق طرق حاسم، وهي مكرهة على اتخاذ قرار من اثنين، وهما: إما الاستمرار في التعاطي مع الواقع الجديد بذهنية ما قبل الحرب، وما يحمله ذلك من مخاطر تعميق العزلة واستنزاف الداخل، أو الشروع في إعادة تعريف شاملة لمفهوم العمق الإستراتيجي، تنطلق من الداخل الاقتصادي والاجتماعي قبل الامتدادات الإقليمية.
وتشير كل الوقائع التي تلت حرب الاثني عشر يوما أن استعادة التوازن لا تمر فقط عبر طاولات التفاوض النووي، بل عبر بناء توافق داخلي يسمح باتخاذ قرارات غير مسبوقة، وإعادة صياغة سياسة خارجية أكثر براجماتية وأقل كلفة، وأكثر اتساقا مع منظومة النسق الإقليمي.
عندها فقط يمكن لطهران أن تتحول من دولة تدير الأزمات إلى دولة تصنع مخارجها، وأن تعيد توظيف الدبلوماسية بوصفها أداة إنقاذ لا مجرد مناورة تكتيكية في زمن الضغوط، وهي البلاد التي عودت متابعيها على قدرتها العليا على البقاء السياسي على قيد الحياة حتى في أشد الظروف اضطرابا واهتزازا وضبابية.
اقرأ أيضا: