من يتابع الشكل الراهن للعلاقات الإيرانية ــ الأمريكية إثر حرب الاثني عشر يوما في ظل عقوبات متلاحقة من واشنطن على طهران وتحدٍ إيراني يصل إلى حد القبول بالمواجهة العسكرية إذا لزم الأمر، وعدم التخلي عن الثوابت الوطنية المتعلقة بالحق في امتلاك برنامج نووي وعدم الخضوع للقوى الخارجية التي لطالما عانت منها البلاد، يفطن إلى أن الطرفين اختارا سبيل المواجهة والمضي قدما فيها إلى مداها الأبعد، وهو ما يمكن أن يفسر في ضوء نظرية ما بعد الكولونيالية.
إيران وأمريكا وما بعد الكولونيالية
تعد نظرية ما بعد الكولونيالية إحدى النظريات المهمة والمفيدة لجهة فهم شكل المشهد الراهن في العلاقات الأمريكية ــ الإيرانية وتحليله وتفكيكه، هذا إذا افترضنا جدلا أن هناك حملة أمريكية جديدة على إيران بأيادٍ إسرائيلية، وهو أمر دارج للغاية في الظرف الراهن لدى مجتمع تحليل السياسات في طهران ذلك الذي يرى أن هناك حربا جديدة على إيران لا مفر منها؛ خاصة أن كل مسوغات عملية “الأسد الصاعد” الإسرائيلية في فجر الجمعة 13 يونيو 2025م، ما تزال قائمة، بل أضيفت إليها أزمة المفتشين النوويين واحتمال استخدام الترويكا الأوروبية ما يعرف بآلية الزناد “سناب باك” الخاصة بإعادة كل حزم العقوبات الدولية على إيران كما كان هو الحال قبل توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة “الاتفاق النووي” لعام 2015م.
اقرأ أيضا:
ومن المهم للغاية معرفة أن هناك فريقا وازنا بين النخب الإيرانية حاليا لا يرى أمريكا ممثلا للنظام الدولي الراهن الذي تقوم العلاقات الدولية فيه على مبدأ القوة والردع والخضوع الاقتصادي فحسب؛ بل يراها من زاوية الإرث الاستعماري العميق، ويراها من خلال الكيفية التي تستمر بها في ما يعرف بـ”المركزية الغربية” في صياغة المفاهيم السياسية العامة بدءا من “الدولة المتحضرة” و”دول التهديد”، ومرورا بـ”محور الشر” و”الآخر الشرقي” و”الإسلاموفوبيا” انتهاء إلى مرحلة “الدول المارقة” و”الإيرانوفوبيا”، وبالتالي فهذا الآخر الأمريكي هو تهديد ماثل أمام إيران يتحين الفرص تلو الأخرى للانقضاض عليها بهدف الاستحواذ على مقدراتها ونهب ثرواتها.
في القلب من هذا التوتر الذي يشطر الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط إلى شطرين غير متكافئين، تقف العلاقات الأمريكية ــ الإيرانية كمرآة عاكسة لصراع أبعد من البرنامج النووي والعقوبات الاقتصادية والعمليات العسكرية، بمعنى أن الصراع يتخذ شكله في إيران الراهنة على أنه سردية مشبَّعة بأشباح التاريخ القريب، ومثقلة بإرث استعماري لم ينته بعد، وبتراكمات رمزية يعجز السلاح عن احتوائها، تماما كما يعجز العقل الإستراتيجي الغربي عن حل أحجياتها من دون تفكيك ذات النظرة الاستعلائية التي حكمت سياساته لقرون عديدة.
أمريكا وإيران.. الصراع بين المركز والهامش
هكذا تبدو العلاقات الإيرانية ــ الأمريكية مثل ساحة صراع رمزي بين مركز لا يزال يكتب العالم بلغته، وبين هامش يصر على كتابة نفسه بلغته الخاصة، ولو بدعم روسيا في حربها ضد أوكرانيا، أو بالحبر الغاضب على أوراق يوقعها المرشد الأعلى علي خامنئي، أو بالإعلام الصارخ في وجه الوجود الأمريكي بقواعده وإعلامه وحاملات طائراته وغواصاته النووية على مرمى البصر في الإقليم، ثم بالصواريخ الباليستية وبالمُسَيَّرَات بل وباليورانيوم المخصب عند درجة نقاء تضاهي ستين بالمئة.
اقرأ أيضا:
إنه الصراع الذي يجيش في الصدور بين المعسكرين الأول الإيراني الذي خضع للاحتلال والاستعمار في مرحلة الكولونيالية التقليدية بالسلاح، والثاني الأمريكي الذي دأب على السيطرة على ثروات الأمة الإيرانية، وقد تجلى ذلك في لحظة إسقاط حكومة الدكتور محمد مصدق عام 1953م، من خلال عملية “أجاكس” تلك التي خططت لها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA بالتعاون مع الاستخبارات البريطانية MI6، وتمكنت من تحييد مصدق وقذفه خارج التاريخ، ثم إعادة الشاه مرة أخرى من منفاه في إيطاليا لحكم البلاد، وهو ما رسخ في الذاكرة الجمعية للأمة الإيرانية التي رأت مفهوم “الهيمنة الغربية” رأي العين، وعايشته باعتباره الأصل البنيوي للعلاقة مع واشنطن، غير أن هذه الهيمنة تحولت من السيطرة المطلقة على المقدرات والثورات إلى محاصرة الأمة وعقابها؛ لا لشيء إلا لأنها خرجت عن النسق وتحدت النظام الكولونيالي الجديد في مرحلة ما بعد الكولونيالية السابقة.
فإيران ما بعد الانقلاب على حكومة الدكتور محمد مصدق لم تعد دولة مستقلة، بل تحولت ــ على الأقل في المخيال الشعبي الثوري ــ إلى ساحة تجريب لمقولات المركزية الغربية، بدءا من “التحديث القسري” مرورا بـ”العلمنة المفروضة”، وانتهاء بـ”التحالف الأمني” الذي كانت واشنطن ترى فيه مظلة، وكانت طهران ترى فيه قيدا من فولاذ، أحال البلاد في عهد الشاه من أمة ذات حضارة وقوة سياسية إقليمية إلى مجرد شرطي أمريكا في الخليج يضرب بالعصا كل من يشذ عن طوع البنتاجون والبيت الأبيض.
الانقلاب على فكرة إيران التابعة لأمريكا
ولقد جاءت الثورة الإيرانية لعام 1979م، لا باعتبارها حدثا سياسيا صرفا، بل بوصفها تكسيرا معرفيا في معمار الهيمنة الغربية، وإعلانا لرفض الخطاب الغربي الذي ينظر إلى غيره من الأمم بوصفها لا تزال في طور النقص، وفي حاجة دائمة إلى وصي “عاقل” يصدر لها النظام الديمقراطي والسياسات الاقتصادية والثقافات الاجتماعية.
اقرأ أيضا:
فالثورة على هذا النسق وبهذا المعنى، لم تكن انقلابا على الشاه فقط، بل على فكرة “التابع” نفسها، وعلى النسق الذي قسم العالم إلى “سيد وتابع”، و”مركز وهامش”، و”غرب عقلاني وشرق عاطفي”؛ ولذلك أول أمر فعله الخميني تقريبا هو التحول الفكري من “التغريب إلى التعريب”، وقد رد الغرب بلسان واشنطن على هذا الخروج من الطاعة التاريخية، بحصار لغوي قبل أن يكون حصارا اقتصاديا وسياسيا، فصارت إيران “راعية للإرهاب”، و”نظاما مارقا”، و”محورا للشر”، وهي تسميات تكشف ــ من منظور ما بعد الكولونيالية ــ ليس فقط عن الخوف الغربي العام من البرنامج النووي الإيراني؛ بل عن فقدان المركز لقدرته على السيطرة على خطاب الهامش.
كما تكشف تلك النظرة الاستعلائية الأمريكية خوفا من تجرؤ الهوامش الأخرى في دول ما يعرف بـ”العالم الثالث” على المركز فتصبح حالة النظام الدولي الذي تحكمه أمريكا كمثل نظام سياسي خائف من ثورة شعبية على كيانه الهش، هذه الثورة لا تمثلها إلا الأمم التي تدرك حجم المفاسد التي ألحقها المركز الأمريكي بالهوامش الضائعة.
من هنا يمكن فهم الأساس الذي بنت عليها طهران عصيانها وامتناعها عن الخضوع للمركز، فلقد أبدت طهران، خلال السنوات الست والأربعين الماضية، مقاومة عنيدة لكل محاولات الاحتواء المعرفي والسياسي، ولم تكن خلافاتها مع واشنطن خلافات على إجراءات؛ بل على التسمية نفسها، وعلى السيطرة الفكرية في حد ذاتها، وصارت تطالب بأن يكون لها الحق في توصيف علاقاتها مع أمريكا من منظورها هي، وليس من منظور الآلة الإعلامية الأمريكية الضخمة التي تصنف الأنظمة وتقولبها وتدافع عنها أو تهاجمها وفقا لخضوعها للإملاءات.
إيران وأمريكا.. من يملك الحق في توصيف الآخر؟!
هنا برز السؤال الأصعب: من يملك الحق في توصيف الآخر؟! ومن يحق له أن يُعرف “الإرهاب” و”الدفاع المشروع” و”الحرية”؟! ومن بيده المضي قدما في علاقات التحالف أو علاقات العداء؟! للإجابة عن هذه الأسئلة التي تكتنفها علامات الاستفهام الكبرى كانت الحاجة ماسة إلى إسقاط نظرية ما بعد الكولونيالية على الحالة الراهنة في العلاقات الأمريكية ــ الإيرانية.
اقرأ أيضا:
ففي ظل إدارتي ترامب الأولى والثانية، بدت العلاقات بين واشنطن وطهران ويكأنها مراوحة بين التفاوض والقصف، ولكن خلف هذه المراوحة تقبع أزمة أعمق، إنها أزمة خطاب من الدولة المركز نحو الدولة الهامش، فالإدارة الأمريكية بالرغم من اختلاف نبرتها التهديدية عن نبرة إدارة بايدن ومن قبله أوباما، لم تبرح موقعها الإمبريالي من حيث البنية، بحيث إنها لا تزال تصنف الآخر وتقولبه وتنمطه وتعاقبه وتفاوضه من الموقع الأعلى.
وقد قالها ترامب صراحة “عليكم أن تخضعوا لشروطنا وتأتونا مستسلمين”، في حين أن إيران تفاوض وتحارب في حربها التي تصفها بأنها “مفروضة” من موقع الجرح التاريخي الغائر، بحيث إن كل خطوة في مسقط أو في روما، وكل تصريح عن احتمال العودة للمفاوضات، وكل طائرة إسرائيلية وأمريكية حلقت فوق أجواء طهران وقصفت مقدرات أمتها، تُقرأ في عاصمة القاجاريين لا بوصفها أداة عسكرية للإخضاع السياسي والإكراه الدبلوماسي، بل باعتبارها اختبارا جديدا لمعنى الكرامة الوطنية في عالم لا يعترف بندوب الجغرافيا ولا بأي لغة سوى لغة القوة المطلقة.
احتمالات تجدد الحرب الأمريكية ــ الإيرانية
من هذا المنطلق وبعد حرب الأيام الاثني عشر يومًا (13 يونيو 2025 ــ 24 يونيو 2025م) فإن التصعيد العسكري بين إيران وبين أمريكا بأيادٍ إسرائيلية قادم لا محالة، مع ارتفاع احتمالات انخراط الولايات المتحدة بنفسها في حرب شاملة ومطولة؛ لإخضاع إيران مرة واحدة وأخيرة وإلى الأبد، تماما كما أخضعت اليابان وألمانيا في الحرب العالمية الثانية.
على هذا النحو وفي ضوء “نظرية ما بعد الكولونيالية” لا تبدو تلك المواجهة المرتقبة صداما عسكريا صرفا، فالمواجهة ليست فقط حول منشآت ناتنز وفردو وأصفهان، أو حول برنامج الطائرات المسيرة أو حول برنامج الصواريخ الباليستية أو حتى نزع سلاح حزب الله وقصة حصرية السلاح بيد الدولة التي ينادي بها الرئيس جوزيف عون في الظرف الراهن؛ بل عن رفض إيران أن تختزل في دور “الفاعل المزعج” الذي يجب تقويمه من جانب أمريكا “الوصية الراشدة” التي تعتبر نفسها أبا للأمم تؤدبها وتعاقبها وتحرمها من المصروف إذا اقتضت الضرورة ذلك.
وفي داخل إيران تنظر النخب على اختلاف توجهاتها وأطيافها على أنها وريثة حضارة كبرى ولا بد لها أن تكون مركزا روحيا وفلسفيا، ومكان ينطق بلسانه الخاص، وهو ما اتفق عليه المجتمع ــ للغرابة الشديدة ــ برغم كل التباينات الثقافية والعرقية والسياسية، بل والأخلاقية؛ لدرجة أن لصا قرر سرقة منزل فلما دخله وجده مركزا إسرائيليا لصناعة الطائرات المسيرة لصالح الموساد، فقرر الرجل ــ الذي برغم فساد أخلاقه إلا أنه يتمتع بحس وطني عميق ــ إبلاغ السلطات عن الأمر، وقد كرمه المدعي العام الإيراني بالفعل؛ لأنه اللص الوطني الذي علت عنده مصالح الأمة على مصالحه الشخصية.
أما إسرائيل في مثل هذا السياق فتمثل في المخيال الإيراني رأس الحربة لمشروع الهيمنة الغربية، وبالتالي فإن أي حرب معها، أو مع الولايات المتحدة، لن تفهم في طهران كصراعٍ على مقدرات ومواقف أو حتى على منشآت نووية؛ بل كحلقة جديدة في صراع أنطولوجي وجودي حول تعريف الذات وموقعها في هذا العالم المضطرب المفعم بالصراعات والتحديات.
خاتمة
على هذا النحو، فإنه ما من أفق لتفاهم إيراني ــ أمريكي في المديين القريب والمتوسط، ما لم يتم حل العقدة بين البلدين من جذورها، إذ مهما انخرط الجانبان في مفاوضات سواء في مسقط أو في روما أو في غيرهما؛ فإن ذلك لن يؤدي إلى سلام مستدام وتسوية شاملة وفق مفهوم الحل النهائي، ما لم تفهم أمريكا البعد التاريخي في نظرة إيران لها، وما لم تغير من خطابها تجاه الآخر الإيراني، أو أن تنتظر أمريكا الخيار المستحيل وهو تخلي إيران عن إرثها التاريخي في صراعها مع واشنطن التي أسقطت مصدق ودعمت الشاه ووقعت العقوبات ونهبت الثروات على طول التاريخ المعاصر، أو أن تلجأ إلى المضي قدما في مخططها لإسقاط نظام ولاية الفقيه وحمل رضا بهلوي، ولي العهد السابق، على جناح طائرة من طراز “بي 2” وإجلاسه ــ عنوة ــ على قمة السلطة في قصر الباستور.
________
للانضمام إلى النشرة البريدية للمنتدى على واتساب من خلال الرابط التالي:
https://chat.whatsapp.com/HRhAtd7IrydFFx6i1zSI7S
رابط قناة الدكتور محمد محسن أبو النور على تليجرام:
https://t.me/iran_with_egyptian_eyes