يمكن تلخيص الأربعين عاما الفائتة من عمر النظام الإيراني الذي تقلد السلطة بعد الثورة على الأسرة البهلوية عام 1979 في كلمتين اثنتين وهما “الأخطاء الاستراتيجية”، ذلك أنه بالتأمل في سلوك هذا النظام داخليا وتدبر تفاعلاته خارجيا يتوصل المراقب ـ من دون كبير عناء ـ إلى أن الأربعين عاما لم تكن سوى متتالية من الأخطاء الاستراتيجية الكبرى لهذا النظام، نقلته من مكان إلى آخر، وحكمت عليه بالبقاء في حالة من الصراعات الداخلية والعداءات الخارجية على حد سواء.
تحويل الثورة إلى عمل مذهبي
بدأ النظام الإيراني مسيرته السياسية بأكبر خطأ استراتيجي على الإطلاق، وهو تحويل الثورة إلى عمل ديني في إطار المذهب الشيعي، بالرغم من أن الثورات هي ظاهرة إنسانية عامة في الأساس، لكن قائد الثورة آية الله روح الله الموسوي الخميني كتب عليها الاختناق الداخلي وحصرها ليس في إطار المذهب الشيعي فحسبـ بل في قالب مذهب داخل المذهب وهو التشيع على الطريقة الاثنى عشرية، بالرغم من أن المذهب الشيعي لا يحظى بأكثرية في العالم الإسلامي.
إذن كانت النتيجة أن كتب النظام على نفسه الاختناق داخل الحدود السياسية للدولة واستحالة تصدير أفكار الثورة على نحو سلس كما هو الحال في الثورات الكبرى عبر التاريخ ومنها الثورة الفرنسية والبلشفية والصينية.
الخميني كان يعلم تمام العلم أنه ليس سوى شريك في صناعة الثورة وأن المجتمع بكامل أطيافه هم من أزاحوا الشاه عن سدة السلطة بعمل ثوري يعتبر نادرا في التاريخ الإيراني وهو إسقاط النظام ومؤسسات الدولة معا، وبالرغم من اشتراك اليساريين واليمينيين والقوميين وكل ألوان الطيف السياسية والمجتمعية في هذا الزخم الكبير، إلا أنه قرر منفردا أن يأتي بنظرية من باطن كتب التراث الشيعي ويحولها إلى مبدأ لقيادة الحكم ولتوسيع النفوذ الإقليمي وهي نظرية “ولاية الفقيه” التي وإن كانت عاملا في سيطرة الخميني على السلطة بالكامل بمفرده داخليا؛ إلا أنها كانت بمثابة الحبل الذي لفه على عنق ثورته وحكم عليها أن تظل محصورة داخل حدودها ولا تتجاوزها إلى أي حدود أخرى.
تأزيم العلاقات الخارجية
ما إن استتب الأمر للخميني داخليا حتى بدأ في سلسلة من الإجراءات التي أزمت علاقات بلاده الخارجية ووترتها على نحو لم يسبق له مثيل، فقد بات يكيل السباب والانتقاد اللاذع لأغلب الحكومات والدول والأنظمة الغربية والشرقية والعربية في آن، وفعل كل ما يلزم لخسارة أكبر دولة عربية هي مصر، بأن بات يؤلب المجتمع على شخص رئيس الجمهورية، محمد أنور السادات، وهو رجل جمع بين النجاح في إقامة الحرب والنجاح في إقرار السلام، ويعد لدى السواد الأعظم من المصريين بطلا قوميا، وكان منبع انتقاد الخميني للسادات على خلفية توقيع معاهدة السلام في كامب ديفيد مع إسرائيل وإيواء الشاه وأسرته في مصر وإنزاله في قصر القبة ومعاملته بروتوكوليلا كأنه ما يزال في السلطة.
وتوجه الخميني إلى معاداة العراق وهو الدولة العربية الكبيرة الجارة له، وبدلا من تهدئة مخاوف نظام الرئيس الراحل صدام حسين حول المد الثوري الإيراني القائم على المذهبية الدينية تلك التي تستهدف استقطاب الشيعة العراقيين الذين تتراوح نسبتهم بين 50 إلى 55 بالمئة، راح هو الآخر ينال منه انتقادا تلو الآخر حتى أدخل إيران في حرب غير منطقية مع العراق استمرت بين عامي 1980 ـ 1988.
ولم يكن الأمر مع دول الخليج العربي أفضل حالا، فقد تمسك الخميني بسياسية الشاه تجاه الجزر الإماراتية الثلاث المحتلة، ورفض الذهاب إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي للاحتكام حول تبعية الجزر؛ لأنه يعرف تمام المعرفة أن أبسط فريق قانوني إماراتي يمكنه إثبات ـ بما لا يدع مكانا للشك ـ عروبة الجزر وأحقية الإمارات التاريخية والسياسية والجغرافية والاجتماعية فيها.
وبالنسبة للمغرب فقد كان السجال على أشده مع ملك المغرب الحسن الثاني الذي نال هو الآخر جانبا من الخطاب الإيراني الدعائي المعادي، ومساندة إيران للصحراويين في مسألة البوليساريو؛ للدرجة التي جعلت العاهل المغربي يظهر في أكثر من خطاب ويفند أقوال الخميني حول الإسلام ونظام الحكم ويصف الخميني بأنه “كافر”، ومن وقتها تعاني العلاقات المغربية ـ الإيرانية من فتور على خلفية هذا السجال الناشب على مدار أربعين عاما.
ولقد كان للقوى الكبرى نصيب هي الأخرى من الخطاب الإيراني العدائي على مدى تلك العقود، ومن المعروف أن الخميني كان يصف أمريكا بـ”الشيطان الأكبر” بينما يصف الاتحاد السوفييتي بـ”الشيطان الأصغر”، كما أنه من المتواتر أن الطلاب الذين احتلوا السفارة الأمريكية في طهران لمدة 444 يوما لم يكونوا يفعلون ذلك إلا بضوء أخضر من الإمام، ما أدخل إيران في حالة عداء صارخة مع الولايات المتحدة الأمريكية بدأت بقرار مقاطعة أمريكا النفط الإيراني وتجميد الأصول والأموال الإيرانية لدى بنوكها واستمر الوضع على هذا المنوال من خلال 7 حزم من العقوبات كبدت الدولة خسائر استراتيجية لا حصر لها.
كما كان الخميني منشغلا جدا بمسألة التوجهات الأيديولوجية للنظام السوفيتي، لدرجة دفعته قبيل وفاته بنحو 6 أشهر، وتحديدا في يوم 7 يناير من العام 1989 إلى إرسال رسالة إلى ميخائيل جورباتشوف (رئيس الهيئة الرئاسية للاتحاد السوفيتي) ينتقد فيها المادية الماركسية ويدعوه إلى الدخول في الإسلام وعدم الاعتماد على الغرب في انتهاج نهج اقتصادي على النمط الأمريكي.
سوريا بين الخميني وسوتشي
كان الوجود الإيراني في سوريا أحد القرارات الاستراتيجية الخاطئة للغاية التي ارتكبها الخميني، وكان الرجل يعتقد أن سوريا هي الطريق الممهد والمعبد إلى جنوبي لبنان حيث المجتمع الشيعي في منطقة جبال عامل، في إطار التوجه الاستراتيجي للنظام بحيث يقيم علاقات مع كل الأقليات الشيعية في العالم العربي، لكن هذا الوجود كان من أهم أسباب امتعاض الدول العربية خاصة أن نظام الرئيس حافظ الأسد أيد وساعد إيران في حربها ضد العراق.
ويكمن الخطأ الكبير في أن الدخول إلى سوريا سهل، لكن الخروج منها صعب للغاية، في ظل سيطرة الروس تاريخيا منذ خمسينيات القرن العشرين على القرار الاستراتيجي في القوات المسلحة السورية، وفي أعصاب ومفاصل القرار بالدوائر العليا في دمشق، وبالتالي فإنه لا مكان لإيران في هذا البلد إلا من خلال إقامة الميليشيات أو التوجه إلى الجانب الاقتصادي والديني وتعظيم المقام الزينبي الذي يعود إلى السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه.
وزرع الخميني في عقلية أتباعه أن سوريا هي محافظة إيرانية ولا يمكن التخلي عن النفوذ فيها، ويمكن قراءة ذلك من خلال ما قاله آية الله، مهدي طائب (شقيق الجنرال حسين طائب رئيس دائرة استخبارات الحرس الثوري حاليا) الذي يترأس مقر “عمّار الاستراتيجي” لمكافحة الحرب الناعمة الموجهة ضد الجمهورية الإيرانية، حين أكد أن سوريا أهم من الأحواز وأنها المحافظة الخامسة والثلاثين لإيران. وزاد الرجل في ذلك وقال: “إذا هاجمنا العدو بغية احتلال سوريا أو الأحواز، فالأولى بنا أن نحتفظ بسوريا، لأننا لو خسرنا الأحواز يمكننا استرجاعها طالما معنا سوريا”.
إذن سوريا في الفكر الاستراتيجي للنخب الحاكمة في إيران الآن، ليست دولة متحالفة أو صديقة؛ بل هي محافظة من محافظات إيران، وعليه فإن بشار الأسد هو محافظ “محافظة سوريا” شأنه شأن محافظ محافظة أصفهان مثلا، أو أي محافظة أخرى في الداخل الإيراني.
هنا تكمن مشكلة النظام الإيراني في سوريا مع اللاعب الروسي، خاصة بعد الانخراط العسكري الروسي الموسع في خريف 2014، وبالتالي استشعر الإيرانيون بأنهم تحولوا من لاعب مركزي في المسألة السورية إلى لاعب ثانوي، بالنظر إلى أن روسيا قوة عظمى ولا يمكن مقارنتها بإيران بأي حال من الأحوال.
الجانب الروسي فطن إلى تلك الجزئية وبدأ يعالج تداعياتها في إطار آلية أستانة وما تبعها من مباحثات على مستوى القمة في سوتشي، إذ بات واضحا رغبة موسكو في عقاب طهران من خلال السماح للطيران الإسرائيلي بقصف المواقع الإيرانية في سورية فضلا عن تقوية القوى الكردية المتمثلة في قوات سوريا الديمقراطية، وخروج الدستور الجديد بلا مكاسب إيرانية فيه.
في المقابل ردت إيران العقاب إلى روسيا من خلال التحالف الضمني مع تركيا في مسألة معركة إدلب محققة من ذلك عددا من الأغراض. أولا: رد الجميل إلى أنقرة لرفضها العقوبات الأمريكية على إيران. ثانيا: منع الأكراد من الحصول على مكتسبات في الدستور السوري المزمع كتابته. ثالثا: محاولة الخصم من الرصيد الاستراتيجي الروسي في المسألة السورية المشتعلة منذ مارس 2011.
ختاما لا يمكن حصر الأخطاء الاستراتيجية للنظام الإيراني في تلك الأربعينية فيما أعلاه، لكن تلك السطور هي محاولة لتلخيص المشهد وتكثيفه وتتبع المسار الميلودرامي للسياسة الإيرانية ومعرفة كيف وصلت إلى ما وصلت إليه من أزمات لا فكاك منها، ومهمة التاريخ هنا هو أنه المعادل العصري للسياسات، وأنه يعلم فضيلة الاعتبار والتدبر لأولي الألباب.
ـــــــــــ
نقلا عن بوابة العين الإخبارية