شهد الإعلان عن اتفاق سلام بين أذربيجان وأرمينيا برعاية أمريكية في البيت الأبيض يوم 8 أغسطس 2025، انعكاسات جيوسياسية بالغة الأهمية على الساحة الإيرانية، إذ تحولت أزمة الحدود الشمالية إلى محور جدل سياسي وشعبي داخلي في إيران، وباتت دوائر صنع القرار الإيرانية ترجح أن تشهد منطقة جنوبي القوقاز إعادة رسم إستراتيجية لخرائطها الإقليمية، تتمثل في مشروع تطوير ممر زنجزور، الذي يُسوق له أمريكيًا تحت مسمى “طريق ترامب للسلام والازدهار الدوليين”.
تداعيات تطوير ممر زنجزور على إيران وجنوبي القوقاز
يُعد ممر زنجزور، وهو ممر ضيق في جنوبي أرمينيا يربط نخجوان بأراضي أذربيجان الرئيسية، قلب التنافس الجيوسياسي الجديد في جنوبي القوقاز، وبالرغم من أنه يبدو للوهلة الأولى مجرد طريق عبور، إلا إنه في إطار إستراتيجية الاحتواء الثلاثية ضد إيران وروسيا والصين، يمثل عقدة حساسة متعددة الأبعاد يمكن أن تقلب المشهد الجيوسياسي في المنطقة رأسا على عقب.
اقرأ أيضا:
فمن منظور باكو، فإن السيطرة على هذا الممر تعد خطوة أساسية لتحقيق الاتصال البري المباشر مع تركيا، أما بالنسبة إلى دول الناتو، فيتجاوز دوره كجسر إقليمي، ليصبح حلقة رئيسة في قطع الروابط الجيوسياسية لإيران مع فضاء أوراسيا، وفي المرحلة التالية تقييد لنفوذ روسيا في جنوبي القوقاز.
تكمن أهمية هذا الممر في حال تنفيذه، أنه سيضع إيران أمام فقدان أحد أهم حدودها الجيوسياسية مع أرمينيا، إذ لا تمثل خسارة هذا الممر مجرد فقدان خط حدودي، بل تعني فقدان أهم المسارات البرية المستقلة والأكثر أمانًا التي تتيح لطهران الوصول إلى القوقاز وأوروبا من دون المرور عبر أراضي تركيا أو أذربيجان أو روسيا.
موقف إيران من مشروع ترامب لتطوير زنجزور
يشكل هذا الممر لإيران، نافذة إستراتيجية حيوية نحو الشمال، فضلا عن أنه نقطة توازن مهمة في مواجهة هيمنة تركيا وأذربيجان على طرق التجارة والطاقة في المنطقة، كما أنه بوابة جغرافية حاسمة للوصول إلى جورجيا، ومن ثم البحر الأسود ومن ثم شرقي أوروبا.
في هذا السياق، أكد علي أكبر ولايتي، مستشار قائد الثورة الإسلامية للشؤون الدولية، في مقابلة مع وكالة تسنيم، يوم السبت 9 أغسطس 2025م، أن موقف إيران الرافض للممر ينبع من أنه سيغير الموقع الجيوسياسي الإقليمي ويعيد رسم الحدود بما يخدم تفكيك أرمينيا من وجهة نظر طهران.
اقرأ أيضا:
ووفقًا للخطاب السياسي الإيراني، يتجاوز خطر ممر زنجزور حدود أرمينيا ليصبح أداة إستراتيجية لإعادة صياغة موازين القوى في جنوبي القوقاز، ضمن إستراتيجية احتواء محدثة تهدف إلى تقويض النفوذ الإيراني في الحواف الجيوسياسية، وعزلها عن خطوط الربط الإقليمية، وتقليص هامش تحركها في فضاء كانت تعتبره مجالًا حيويًا لمصالحها.
كما يمثل هذا المشروع بداية مسار يشبه “البلقنة” السياسية، حيث يتم تفكيك الدول وإعادة تقسيمها عبر اتفاقيات ومشاريع بنية تحتية متعددة الحدود، دون اللجوء إلى الصراعات المسلحة المباشرة.
وفي حال ترسخ هذا الممر كأمر واقع، فإنه سيشكل سابقة في فرض وقائع جيوسياسية جديدة، تؤثر بشكل مباشر على توازن القوى في القوقاز، وتفرض على إيران تحديات جيوإستراتيجية معقدة على المديين المتوسط والبعيد.
الأبعاد الوظيفية لممر زنجزور
شهدت نظرية الاحتواء ــ التي وُضعت في الأصل في إطار الحرب الباردة لاحتواء تمدد النفوذ السوفيتي ــ تحولًا مفاهيميًا في العقود الأخيرة، وبرزت ثلاثة عناصر إستراتيجية في تطبيقها المعاصر، وهي:
1ــ إعادة تعريف مفهوم الاحتواء بما يتجاوز البعد الأيديولوجي التقليدي.
2ــ عسكرة الحواف الجيوسياسية لإيران عبر إقامة نقاط تمركز عسكرية واستخباراتية في بيئاتها الحدودية.
3ــ محاولة كبح الاتصال البري بين القوى الشرقية الثلاث، وهي: إيران وروسيا والصين.
وفي هذا الإطار، بات ممر زنجزور يحمل أبعادًا وظيفية مباشرة لتطبيق هذه النظرية، وهي:
1- إنشاء ممر جيوسياسي بين تركيا وأذربيجان وبحر قزوين وآسيا الوسطى، من دون المرور عبر الأراضي الإيرانية أو الروسية.
2ــ قطع الاتصال البري بالكامل بين إيران وأرمينيا، ومنها إلى القوقاز والبحر الأسود وأوروبا، ما يضع طهران في عزلة جيوسياسية.
3ــ التمهيد لنشر قوات مراقبة أو حفظ سلام تابعة للناتو أو الاتحاد الأوروبي في جنوبي أرمينيا، تحت غطاء بعثات دولية، بما يرسخ وجود القوى الخارجية في جوار الحدود الشمالية الغربية لإيران.
اقرأ أيضا:
وعلى هذا النحو فإن تهديد زنجزور بالنسبة إلى إيران يتجاوز بكثير المسائل اللوجستية، حيث أنه من المحتمل أن يتحول إلى مركز لعمليات الحرب الهجينة ضد طهران، من نشر محطات تنصت وأنظمة مسيرات وبنى تحتية استخباراتية، إلى تسهيل العمليات النفسية والثقافية ضد المناطق الحدودية الإيرانية.
وقد طُرحت في بعض الأوساط خطط لتقسيم زنجزور إلى مناطق عسكرية ومدنية تحت إشراف قوات أجنبية، وإذا تحقق ذلك، ستصبح الحدود الشمالية الغربية لإيران حلقة نشطة في السلسلة الإستراتيجية للناتو في أوراسيا.
الموقف الروسي والتركي من ممر زنجزور
سعت تركيا بصفتها عضوًا في الناتو وحاملة لخطاب «العثمانية الجديدة»، منذ سنوات إلى لعب دور المقاول الإقليمي للغرب، وقد شاركت مباشرة في حرب قره باغ الثانية، وأرسلت مستشارين عسكريين، وأقامت قواعد للمسيرات والاستخبارات في جمهورية نخجوان، وصممت هياكل متناسقة مع الجيش الأذربيجاني، كجزء من إستراتيجيتها الكبرى لتوسيع نفوذها في القوقاز.
وتدرك أنقرة جيدًا أنه في ظل تراجع روسيا بسبب حربها ضد أوكرانيا، فُتحت أمامها نافذة جيوسياسية لتوسيع قوتها في المنطقة، وهي نافذة سيؤدي تنفيذ مشروع زنجزور إلى تثبيتها.
لكن فهم تحولات زنجزور يبقى ناقصًا من دون تحليل الموقف الروسي، فموسكو، على مدى عقود، اتبعت سياسة «التوازن عبر الصراع» في جنوبي القوقاز، ضامنة بذلك استمرار نفوذها التقليدي عبر إدارة النزاعات المجمدة، إلا أن هذه الإستراتيجية تعرضت لضربة قوية في حرب 2020، إذ امتنعت روسيا عن التدخل المباشر لمنع هزيمة أرمينيا، خلافًا للتوقعات التقليدية في العاصمة الأرمينية يريفان.
والحق أن موسكو لم تكن راضية عن حكومة نيكول باشينيان ذات التوجهات الغربية الواضحة، والتي أبعدت النخب الموالية لها، ورحبت بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، ما عمق فجوة الثقة الإستراتيجية مع الكرملين.
اقرأ أيضا:
وفوق ذلك، سمحت موسكو بانتصار عسكري محدود لأذربيجان، ما أتاح لها هدفًا إستراتيجيًا، وهو العودة العسكرية إلى الأراضي الأذربيجانية من خلال نشر قوات حفظ السلام في قره باغ، وبهذا، ورغم أنها ضحّت بمصالح حليفتها أرمينيا، فإنها عززت نفوذها عبر الوساطة النشطة.
لكن هذا المكسب لم يدم طويلًا؛ فبعد هجوم روسيا على أوكرانيا، تحول تركيز الكرملين الإستراتيجي من القوقاز إلى الجبهة الغربية، ما أتاح فرصة لتركيا والناتو لتعزيز حضورهما، وقد استغلت باكو، بدعم من أنقرة، هذا الظرف للسيطرة الكاملة على قره باغ في سبتمبر 2023، بينما اكتفت موسكو بالمراقبة، وأدى هذا الصمت إلى انسحاب قوات حفظ السلام الروسية عام 2024، فيما يشكل تراجعًا إستراتيجيًا واضحًا.
وفي الواقع، ارتكبت روسيا عام 2020 خطأ إستراتيجيا مركبا في الحسابات عندما تجاهلت مصالح أرمينيا وأفسحت المجال أمام أذربيجان، وهو خطأ تحول لاحقًا إلى أداة ضغط عليها.
التداعيات الأمنية لممر زنجزور على إيران
إن تنفيذ مشروع ممر زنجزور، مقترنًا بنشر بنى تحتية أمنية واستخباراتية تابعة لقوى مثل إسرائيل وتركيا وحلف الناتو، يفرض على الأمن القومي الإيراني مخاطر عميقة ومتعددة المستويات.
هذه المخاطر لا تقتصر على التهديدات المادية والجغرافية، بل تتجاوز حدود الأمن الإقليمي التقليدي لتشمل الأبعاد الثقافية والنفسية والاجتماعية والجيوإستراتيجية، كما أن دراسة هذه التهديدات لا يجب أن تكون من منظور ردود الأفعال العاجلة، بل من زاوية تداعياتها البنيوية بعيدة المدى.
وتتمثل هذه المخاطر فيما يلي:
تزايد الضغوط الاقتصادية: فإن فقدان الطريق البري الذي يربط إيران بأرمينيا ــ بوصفه خط اتصال مستقل عن تركيا وأذربيجان مع القوقاز وفضاء أوراسيا ــ يمثل تحولًا جوهريًا، وهذا التطور سيجعل إيران، في ظل ضغوط العقوبات وانسداد نسبي للمسارات الشمالية، في وضع جغرافي شبه محاصر، وقد يحد مثل هذا الحصار، وخاصة في السياق الجيوسياسي لنظام دولي آخذ في التحول نحو التعددية القطبية، بشدة من دور إيران في مشاريع التكامل الأوراسي، مثل ممر الشمال ــ الجنوب.
تهديدات الحرب الناعمة: تبرز تهديدات الحرب الناعمة خصوصًا في شمال غربي إيران، من خلال تعزيز الخطابات القومية، والترويج لهويات لغوية متميزة، وإبراز عناصر الاختلاف الثقافي في المناطق ذات الغالبية الأذرية داخل إيران.
وتعد هذه الإجراءات جزءًا من إستراتيجية القوة الناعمة الهجومية التي تنفذها باكو وأنقرة، وغالبًا ما تتخذ غطاءً من أنشطة إعلامية أو جمعيات ثقافية ظاهريًا مستقلة، إضافة إلى النفاذ إلى الفضاء الإلكتروني.
اقرأ أيضا:
وقد أظهرت الأزمات الأخيرة في سوريا والعراق وليبيا أن الخط الفاصل بين الحرب الناعمة وزعزعة الاستقرار يكاد يتلاشى، وخاصة في البيئات ذات التنوع القومي، وهو خط هش للغاية، وفي ظل هذه الظروف، يصبح الأمن الداخلي الإيراني مهددًا ليس فقط من الخارج، بل أيضًا من الداخل.
التهديد الأمني والاستخباراتي: إن وجود البنى التحتية الاستخباراتية والتقنيات الرقابية الإسرائيلية في أراضي جمهورية أذربيجان ــ بما في ذلك أنظمة التنصت والطائرات المسيرة الاستطلاعية والتعاون السيبراني ــ يوفر قدرة على تنفيذ عمليات استباقية ضد البنى التحتية الحساسة في إيران.
وعلى الرغم من عدم تأكيد مشاركة باكو رسميًا في الهجمات الإسرائيلية الأخيرة ضد إيران، فإن ارتفاع احتمال هذه المشاركة يزيد مستوى المخاطر الأمنية بدرجة كبيرة، ففي إستراتيجيات الردع، تعد إمكانية التهديد مهمة بقدر أهمية تحقق التهديد نفسه، ومن هذا المنظور فإن وجود تكنولوجيا عدائية على الحدود الشمالية الغربية لإيران يشكل تهديدًا فعليًا.
احتمالات المواجهة العسكرية: يتمثل البعد الرابع من المخاطر في احتمال اندلاع مواجهات مباشرة بين إيران وأذربيجان بسبب ممر زنجزور أو غيره من التوترات الحدودية، وقد تفتح مثل هذه المواجهات الباب لتدخل أطراف ثالثة في المنطقة، وقد تدخل تحت غطاء الرقابة الدولية أو المشاركة في حفظ السلام أو حتى التدخل الإنساني.
ويمكن ملاحظة بوادر ذلك في نشر مراقبي الاتحاد الأوروبي على الأراضي الأرمينية وزيادة التفاعلات العسكرية الاستخباراتية بين تركيا وباكو.
وبنظرة أشمل، يمكن اعتبار ممر زنجزور بمثابة عنق الجغرافيا السياسية لإيران في جنوبي القوقاز؛ إذ إن إغلاقه يشبه عملية خنق تدريجية للجغرافيا السياسية الإيرانية، بحيث لا يقتصر الأمر على قطع الاتصال المادي مع القوقاز، بل يمتد إلى تعطيل المشاركة في الاقتصاد الأوراسي، وحرمان إيران من الوصول إلى الأسواق الأوروبية، وتقليص حضورها في معادلات الطاقة. مثل هذه النتيجة قد تدفع، على المدى الطويل، إلى تهميش إيران وتحويلها إلى لاعب هامشي وغير مؤثر في التطورات الإقليمية الكبرى.
خاتمة
خلاصة القول، فإن اتفاق السلام بين أذربيجان وأرمينيا برعاية أمريكية وحديث ترامب عن حق امتلاك ممر زنجزور لمدة 99 عاما، فضلا عن استمرار الضغوط العسكرية والسياسية من باكو وأنقرة على يريفان لفتح ممر زنجزور لا يُعد تحركًا عابرًا، بل هو جزء من مشروع بعيد المدى لإعادة تشكيل النظام الإقليمي، وهو نظام يُقصي إيران عن المسارات الشمالية ويُضعف دور روسيا في القوقاز، ليصوغ مشهدًا جيوسياسيًا جديدًا لصالح الناتوز
ولعل هذا ما يجعل ممر زنجزور تجسيدًا عمليًا لنسخة محدثة من نظرية الاحتواء، حيث تتداخل الأبعاد العسكرية والاستخباراتية مع الجغرافيا السياسية والاقتصادية، لتفرز واقعًا جديدًا على حدود إيران الشمالية الغربية يختبر قدرة طهران على المناورة ضمن شبكة معقدة من الضغوط، ويعيد رسم خرائط الاتصال بين الشرق والغرب في سباق محتدم ستنعكس بصماته على موازين القوى الإقليمية والدولية لسنوات قادمة.