بالساعات الأخيرة أحرق المتظاهرون الغاضبون بالبصرة العراقية مقرات حزب الدعوة وحزب الفضيلة والمجلس الأعلى الإسلامي ومكتب منظمة بدر ومقر كتائب حزب الله ومقر سرايا الخرساني، إضافة الى دار استراحة المحافظ، ومكتب النائب فالح الخزعلي، وبالتزامن قامت القوات العراقية بتشديد الحراسة الأمنية على القنصلية الإيرانية بالبصرة، وجاءت تلك المشاهد قبل ـ وبعد أيضا ـ إعلان القوات العراقية فرض حظر شامل على التجوال في محافظة البصرة.
فلماذا انفجر بركان البصرة الآن فى وجه إيران؟ بداية هناك أمور تمس المواطن البسيط غير المسيس، مثل انقطاع الكهرباء لفترات طويلة وتأثر محطات مياه الشرب العراقية بقرارات إيران التى طبقت على نهر “الزاب الصغير” وغيرها، وسواء كانت الكهرباء أو المياه فمصدرهما إيران.
بعد الاحتجاجات الإيرانية الأخيرة أعاد متخذ القرار فى طهران طريقة تعامله مع موارد الدولة الإيرانية وإعطاء الضرورة للداخل الإيراني بدلا من تصديرها للجوار العراقي لأغراض سياسية، ما جعل إيران تتوقف عن تصدير الكهرباء للعراق، ليتم توفيرها لبعض المحافظات الإيرانية الغاضبة من عدم اهتمام السلطة بها.
كما أن الصدمات الاقتصادية التى تعرضت لها إيران مؤخرا تأثر بها العراق أيضا، خاصة البصرة تلك التى تحمل نفط واقتصاد العراق، ومثلت كل تلك الأمور دافعا واضحا لغضب المواطنين العراقيين بصفة عامة وليس البصرة فقط.
وإذا كان تردي مستوى المعيشة والغلاء والبطالة هو أحد دوافع تحرك الجماهير فى الشوارع، فبالتأكيد أن انفجار الوضع بالبصرة فى ذلك التوقيت له أسباب أعمق وأكبر من غياب دور الدولة العراقية فى البصرة وتردي مستوى معيشة المواطن.. الخ.
وهنا يمكن الإشارة بوضوح إلى الوضع الإقليمي والصراع الدائر بين السعودي والإيراني من جهة، والصراع الدولى بين الروسي والغربي من جهة أخرى، وهو صراع يدور فى ساحات متعددة بالشرق الأوسط.
فلم يعد خافيا على أحد أن ما يحدث فى البصرة من مظاهرات غاضبة ضد إيران، ليس ببعيد عن ما يحدث فى عدن اليمنية، وكلاهما (البصرة ـ عدن) سيمر بمرحلة جديدة بعد انتهاء مشهد الساعة وهو مشهد إدلب السورية، سواء كانت انتهت كما تتمنى إيران وما تنتظره تركيا من تحقيق أعلى المكاسب خلال القمة الثلاثية (إيران ـ روسيا ـ تركيا) تلك التي تنعقد الجمعة، أو حسب ما يتمنى داعمو المليشيات، ومن ينتظر منهم عناصر “الخوذ البيضاء” الضوء لبدء مسرحية “الكيماوي” مجددا.
ففي كل من العراق أو اليمن أو سوريا يلاحظ انخراط الدولتين المتنازعتين بالإقليم وهما إيران والسعودية، وكذلك الأطراف الدولية نفسها تقريبا، ومع مرور الوقت تتسع جغرافيا الصدام بينهم، فتخرج الحرب التى كانت بين الفريقين ـ والتى كانت فى سوريا فقط عام 2011 ـ إلى اليمن ثم العراق ثم لبنان، فى ظل عدم قدرة أحدهم على الحسم التام للمعارك، وفى ظل اتباع إيران “استراتيجية الحروب اللاتناظرية”.
ومنذ اللحظة الأولى لتوجه الأكراد للاستفتاء على الانفصال وربما من قبلها، وأهالي البصرة يتطلعون لمشهد انفصالي مماثل، حتى ذهب البعض منهم لترديد مقولة “قريبا سنكون فى إقليم البصرة”، وهو الأمر الذى عاد ليلوح فى أفق نشطاء البصرة مجددا وبشدة بعد أن شاهدوا أمس الخميس إعلان “مجلس سوريا الديمقراطية” الجناح السياسي لـما يسمى بـ”قوات سوريا الديمقراطية” ذات الغالبية الكردية والمدعومة من الولايات المتحدة، عن تأسيس الإدارة الذاتية المشتركة في شمالي وشرقي البلاد، في أثناء اجتماع أمام وسائل الإعلام عقده المجلس في بلدة عين عيسى بريف الرقة الشمالي لتضم الإدارة الجديدة إلى الإدارات التي سبق أن أسسها الأكراد في شمالي وشرقي سوريا، وهي جزيرة (الحسكة) وكوباني (عين العرب) ومنبج، بالإضافة إلى الرقة والطبقة وريف دير الزور الشمالي.
حقيقة الأمر أن مشهد البصرة اليوم جاء مربكا لحسابات إيران، وسيزيد من نسبة التوتر على العقل السياسي بها، وهذا ليس لمجرد خروج متظاهرين أحرقوا مقرات أحزاب موالية لها أو ما شابه ذلك، ولكن لأن توقيت المشهد جاء فى وقت غاية في الحساسية لدى إيران، قبل انعقاد القمة الثلاثية (روسيا ـ إيران ـ تركيا) فى طهران، كي يضعف موقفها أمام منافسها الأول على زعامة المنطقة (أردوغان) وحليفها الأول (بوتين)، وهي القمة التى ستبحث مصير مسمار جحا (إدلب) فى العلن، وما هو بعد أدلب، وصولا لكيفية تقسيم الامتيازات فى سوريا بين الدول الثلاث فى الكواليس، ومصير الوجود التركي بشمالي سوريا، والإيراني بجنوبيها.
وما يزيد الأمر صعوبة على إيران هو شعور القيادة الإيرانية بأن كل يوم يمر يشتد فيه الخناق عليها أكثر من أي وقتٍ مضى، سننتظر ونرى ما ستسفر عنه الأحداث.