أخذت استراتيجية إيران في العراق، بُعدًا جديدًا مع التطورات التي شهدها بعد عام 2003، تلك التي قادت إلى تحولات جوهرية في بنية السلطة والهوية، وأوجدت تغييرًا في الجغرافيا السياسية، ومسارات اللاعبين السياسيين ونهجهم في منطقة الشرق الأوسط. ولعل ما شهدته الساحة العراقية من حضور شيعي وكردي في بناء السلطة وزوال البعث، وتحول “النهج” من “عربي سني” إلى “شيعي كردي”، قد صبّ ـ في مجموعه ـ في مصلحة إيران، ووفر لها فرصة للنفوذ وتعزيز الدور الإقليمي1.
لا تأتي الاستراتيجية الإيرانية في العراق محكومة بالتطورات الداخلية، والصراعات بين مختلف القوى السياسية العراقية فقط، بل تأتي مصوغة أيضًا تبعًا لنفوذ وحضور القوى الدولية واللاعبين الإقليميين2، ولعل ذلك يقف بصورة أساسية كعامل محوري في صياغة استراتيجية سياسية أمنية إيرانية تجاه العراق. عقب سقوط نظام صدام أصبح حضور الشيعة على رأس هرم السلطة أولوية لدى الجمهورية الإسلامية، وهي الأولوية التي جعلت الاستراتيجية الأساسية لإيران في التأثير على الأحداث في العراق منذ الغزو الأميركي، تقوم على دعم حلفائها في المؤسسة السياسية العراقية. ولتحقيق ذلك أيدت إيران العملية السياسية في العراق، ودعمت طموح حلفائها السياسيين بصورة معلنة، ومع ذلك بقيت الحال في العراق بالنسبة إلى إيران كما كانت بعد الانسحاب الأميركي ومشابهة لما قبله، إذا نُظر إلى أن هذه التطورات تمثل فرصة لدور إيران ومستقبلها وتهديدًا لأمنها القومي في الوقت ذاته.
تاريخيًا، أدى العراق دورًا مهمًا فيما يتعلق بأمن إيران، وما زالت هذه الأهمية قائمة إلى اليوم في العلاقة التي حكمتها حرب شرسة وإرث من المواجهة والعداء. وما زالت مقولات: العرب والعجم”، “السنة والشيعة” سببًا للخلاف والتناحر، وعقب عام 2003 تعاظمت الأهمية الأمنية التي يمثلها العراق بالنسبة إلى إيران، وجاءت هذه الأهمية مدعومة بجوانب سياسية واقتصادية، مرتبطة بعدد من الأبعاد3:
أولا: الدور الجيوسياسي للعراق
تظهر هواجس إيران من هذا البُعد كون العراق لا يملك منفذًا بحريًا حرًا، وطريقه الوحيد مقصور على شط العرب ومنفذ ضيق على الخليج، ولا تبدو الحال من الجهة الشمالية أفضل، إذ يرتبط العراق بمضائق ضيقة تسيطر عليها تركيا، وتتمتع الجهة الشرقية من العراق بخصائص مهمة لا يمكن تجاهلها، فمعظم المدن والمراكز التجارية، وحقول النفط التي تمثل عصبًا اقتصاديًا واستراتيجيًا توجد في القسم الشرقي من العراق، وجعلت هذه الميزات العراق عرضة للمطامع الخارجية، وهاجسًا أمنيًا بالنسبة إلى إيران4.
وعلى الرغم من أن العراق يعيش حاليًا حالة من الضعف وعدم الاستقرار السياسي، فإن موقعه الجيوسياسي والحساس من جسد الأمة العربية، ودوره في خلق التوازن الإقليمي في مواجهة القوى الأخرى غير العربية وفي مقدمتها إيران، يبقى العامل الأكبر في تعيين الرؤية المستقبلية له.
وعند الحديث عن التطورات والتغييرات الداخلية في العراق وأثرها على معادلة الأمن في إيران، لا يمكن القول إن العراق ما زال يشكّل تهديدًا عسكريًا بالنسبة إلى إيران بالمعنى التقليدي، ومع ذلك تبقى الأرضية الأساسية للتوتر وغياب الأمن قائمة بالنسبة إلى واضعي الاستراتيجية الأمنية الإيرانية. وينشأ التحدي الأمني الجديد بالنسبة إلى إيران من طبيعة التنافس القائم بين المجموعات والتيارات القومية والدينية والسياسية في العراق، وهنا تظهر نتائج مثل غياب الاستقرار والخلافات المذهبية واحتمال تقسيم العراق كتحديات تتجاوز حدود العراق لتصل إلى المجال الأمني الإيراني5.
وعلى هذا الصعيد تنظر إيران بقلق لنفوذ القوى الإقليمية ووجودها، وتصاعد النفوذ الإسرائيلي في شمال العراق، وتأثير ذلك على التنوع القومي فيه، وذلك كله عائد بصورة أساسية إلى غياب قوة سياسية على الساحة العراقية تكون قادرة على إيجاد الاستقرار والأمن الداخلي6.
ثانيا: التحدي المذهبي
كان العراق على الدوام مكانًا تجتمع فيه المذاهب والأعراق، بصورة أثّرت في نسيج السلطة والمجتمع، وكان لسيطرة السنّة على رأس الهرم السياسي في السابق أثره في ترسيم شكل العلاقة بين إيران وسائر الدول الخليجية العربية. وإن كان العراق الجديد وما حمله من تغيرات في هرم السلطة وتعزيز النفوذ الشيعي قد قلّصا من التوتر المذهبي مع إيران، فإن البناء السياسي الهش فيه اليوم وكذلك استمرار الخلافات المذهبية، وتعاظم ما تسميه إيران بـ”التبليغ الوهابي” على الساحة العراقية تبقي التحدي المذهبي من التحديات الرئيسة التي تواجهها.
تبدو إيران معنية بصورة البُعد الشيعي ووحدة الصف الشيعي وهي صورة أساسية حكمت سياستها وعلاقاتها مع الأحزابِ الشيعية والكردية؛ ودفعت بكل قوتها لضمان عملية سياسية يهيمن عليها الشِّيعةُ خاصة من أولئك الذين يرتبطون بعلاقات قوية معها، تتجاوز ببعضها المصالح إلى الولاء. وقدمت إيران دعمًا كبيرًا ومتعدد الأوجه للتنظيمات الإسلامية الشيعية القريبةِ منها؛ مثل: “المجلس الأعلى الإسلامي”، وأدت دورًا كبيرًا في جعلها منخرطة في العمليةِ السياسية، والقيام بدور في تشكيل مؤسسات الدَّولة النَّاشئة7. وسعت إيران على الدوام إلى وحدة الأحزاب الشيعية أو توحيدها؛ بغية تحويلها إلى قوة ذات وزن وأن تكون قادرة على التأثير سياسيًا، لضمان سيطرة الشيعة على الحكم ومجمل العملية السياسية في العراق، ويتعاظم هذه الاهتمام الإيراني مع كل عملية انتخابية، وهو ما ظهر واضحًا في الانتخابات التشريعية عامي 2005 و2010، والبلدية عام 2009، والانتخابات البرلمانية العراقية 2014؛ حيث دعمتْ المرشَّحِين الشيعة، مع المحافظة على علاقات قوية مع اللاعبين الأكراد المؤثِّرين في شمال العراق8.
وما زال الهدف الإيراني في العراق هو حكومة شيعية، تتوافق أيديولوجيًا مع طهران، ويمكنها أن تراهن عليها9. وإن كانت إيران قد أرسلت إشارات بشأن القبول ببديل للمالكي إلا أن البديل يجب أن يكون صديقًا لإيران10. وجرى تداول سبعة أسماء بديلة للمالكي11، معظمها من المحسوبين على إيران.
كما تحتل القضية الجيوسياسية القومية للعراق وتأثيراتها على المنافع القومية والأمن القومي الإيراني أصلاً ثابتًا في علاقات البلدين، ولأن الهوية السكانية الثلاثية للعراق (الشيعة، السنة، الأكراد) يرافقها حضور مواطني كل فئة في تجمعات مستقلة تنظر إيران إلى هذه القضية كمعضلة تواجهها. ويتركز القلق الإيراني فيما يتعلق بتعدد الهويات من الأبعاد السلبية التي قد يحملها هذا التعدد، وخصوصاً إمكانية تقسيم العراق، وهو القلق الذي بقي على الدوام محورًا في السياسة الخارجية الإيرانية12.
ومن هنا يمكن القول إن إيران تنظر إلى العراق من الناحية السياسية الاستراتيجية نظرة ذات بُعدين:
الأول: هناك إمكانية لإخراج العراق من الناحية الاستراتيجية والتعريف التقليدي من كونه قوة لتحقيق التعادل مع القوى الإقليمية إلى قوة مساندة لإيران، وهذا يعني منح إيران الفرصة لتعيد تعريف الدور الإقليمي لنفسها وللقوى الأخرى بصورة تضمن لها وجودها كلاعب وقوة إقليمية مؤثرة. وهذا يعني أيضًا تقوية الشخصيات واللاعبين السياسيين على الساحة العراقية الداعمين لتشكيل مثل هذه الفرصة. وتستخدمُ الحكومةُ الإيرانية على هذا الصعيد نظريةَ “القوة الناعمة”؛ لبسطِ نفوذِها في العراق، من خلال دعمِ العَلاقات الاقتصادية، ودعمِ المرجعيةِ الشيعية في النجف، والتأثير على الرأي العام العراقي، عن طريقِ وسائل الإعلام13.
وتتجلَّى سياسةُ “القوة الناعمة” الإيرانية في العراق من خلال العلاقات الاقتصادية؛ فقد عملت طهران على توسيعِ علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع العراق؛ حيث وصل حجمُ التبادلِ التجاري بين الجانبين عام 2009 إلى نحو سبعة مليارات دولار، وارتفع حجم التبادل التجاري بين العراق وإيران في عام 2013 ليصل إلى نحو 12 مليار دولار سنويًا، 50 في المئة منها لا تعتمد على الصناعات النفطية14.
وتزيدُ الصادرات الإيرانية عن مثيلاتها مع الدول الأخرى، والتي تتركَّزُ على المنتجاتِ الغذائية الرَّخيصة والسلع الاستهلاكية، كما أن إيران تمدُّ العراقَ بـ10%من احتياجاته للطاقة الكهربائية. وأصبح العراق المقصدَ الرئيس للزوار الإيرانيين، الذين وصل عددهم إلى قرابة 40 ألفًا، لزيارة الأماكن المقدَّسة، علاوة على زيارة 4 ملايين آخرين أثناء عاشوراء15.
الثاني: شكّل العراق على الدوام منافسًا إقليميًا واستراتيجيًا لإيران، وترى وجهة النظر هذه أن الظروف الفعلية التي يشهدها العراق اليوم مردها الضعف، ولا يمكن الحديث عنها بوصفها استراتيجية شاملة وطويلة الأمد؛ فالخلافات مع إيران، والموقع الجيوسياسي، وقيادة العالم العربي، والهوية القائمة على المواجهة (العرب والعجم(، إضافة إلى البنية النظامية والاقتصادية وعوامل أخرى كلها تستطيع أن تجعل من العراق الجديد بعد عودة الثبات والاستقرار، أهم تحد أمني يواجه إيران، بعد أن يصبح دولة مؤثرة في المعادلات الإقليمية والاستراتيجية16.
ــــــــــــــــــــ
1 د. فاطمة الصمادي، العراق في الاستراتيجية الإيرانية: تنامي هاجس الأمن وتراجع الفرص، الدوحة، مركز الجزيرة للدراسات، 2014، ص. 3.
2ماندانا تيشه يار ومهناز ظهير نژاد، سياست خارجي عراق ) بررسی نقش جغرافيای سياسي عراق در روابط با همسايگان) السياسة الخارجية للعراق، بحث دور الجغرافيا السياسية للعراق والعلاقة مع الجيران، تهران، مولفين، 1384 ، ص 1.
3د. فاطمة الصمادي، العراق في الاستراتيجية الإيرانية: تنامي هاجس الأمن وتراجع الفرص، مرجع سابق، ص.4.
4نسرين جهانگرد، نگرشی برروابط واختلافات مرزی إيران وعراق (نظرة للعلاقات والخلافات الحدودية بين إيران والعراق(، فصلية “تاريخ روابط خارجی”، العدد 19، تابستان 88، . ص 104.
5کيهان برزگر، سياست خارجي إيران در عراق جديد، )السياسة الخارجية لإيران في العراق الجديد) تهران، مرکز تحقيقات استراتژيک، ص 1386 ، ص 63 .
6د. فاطمة الصمادي، العراق في الاستراتيجية الإيرانية: تنامي هاجس الأمن وتراجع الفرص، مرجع سابق، ص.5.
7ميشيل نيت، مايكل ازينتيد، أحمد علي، النفوذ الإيراني في العراق، معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى:
http://www.alukah.net/Translations/0/33138/#ixzz1odsJrOv4
8د. فاطمة الصمادي، العراق في الاستراتيجية الإيرانية: تنامي هاجس الأمن وتراجع الفرص، مرجع سابق، ص.5.
9يؤكد هذا التوجه كريم سجاد بور الباحث في مؤسسة كارنيغي.
10جايگزين احتمالي مالکی هم بايد دوست تهران باشد) بديل المالكي يجب أن يكون صديقًا لطهران(، إيران ديبلماسي، 10 تير 1393 : http://www.irdiplomacy.ir
11Yochi Dreazen , Elias Groll, Iraq is Burning, and Everyone Agrees Maliki Has to Go:These are the seven men who could replace him, foreign policy, JUNE 24, 2014
12کيهان برزگر، إيران عراق جديد ونظام سياسی امنيتی خليج فارس) العراق الجديد والنظام السياسي والأمني للخليج(، تهران، معاونت پژوهشهای دانشگاه آزاد اسلامی، 1387 ، ص 66.
13د. فاطمة الصمادي، العراق في الاستراتيجية الإيرانية: تنامي هاجس الأمن وتراجع الفرص، مرجع سابق، ص.5.
14نصير حسون، 12 بليون دولار التبادل بين بغداد وطهران، صحيفة الحياة، الثلاثاء، 1 يوليو (تموز) 2014.
15ميشيل نيت، مايكل ازينتيد، أحمد علي، النفوذ الإيراني في العراق، معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى:
http://www.alukah.net/Translations/0/33138/#ixzz1odsJrOv4
16د. فاطمة الصمادي، العراق في الاستراتيجية الإيرانية: تنامي هاجس الأمن وتراجع الفرص، مرجع سابق، ص.6.