لم يكن مستشار الأمن القومي الأمريكي، جون بولتون، ليختار سنغافورة ويوم 13 نوفمبر، للتهديد بتشديد العقوبات الأمريكية على إيران، من فراغ، فالرجل الذي أسس منصة “جيتستون” لدراسة السياسات الدولية، لديه معرفة واسعة بدلالات الزمان والمكان، ومن المرجح على نحو يقترب من اليقين، أنه قصد تعامد رمزيتي الزمان والمكان، لإنزال أقسى عقاب معنوي على إيران في إطار الحرب الدعائية النفسية، بمرحلة ما بعد إقرار العقوبات الأمريكية.
فقد تعهد مستشار الأمن القومي الأمريكي، جون بولتون، يوم الثلاثاء 13 نوفمبر بممارسة “أقصى درجات الضغط على إيران” وشدد على أن “أمريكا تريد وقف صادرات النفط الإيرانية تماما وفرض العقوبات الأمريكية على إيران بصرامة”، بعد نحو أسبوع من دخول سلسلة جديدة من العقوبات القاسية بحق إيران حيز التنفيذ.
رمزية الزمان
اختار جون بولتون هذا التصعيد الحاد، في يوم الثالث عشر من نوفمبر، وهو اليوم الذي يتوسط أهم ذكريين في تاريخ العقوبات الأمريكية على إيران، ففي اليوم الذي سبقه الموافق 12 نوفمبر بالعام 1979 أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية وقف التعامل النفطي مع إيران، ولكم كان هذا الإعلان كارثيا على الاقتصاد الإيراني الذي كان يعاني عجزا هيكليا في مرحلة ما بعد إسقاط الشاه وهروب أو نفي أو إعدام كوادر الدولة الإيرانية، خاصة أن أمريكا كانت أكبر مستورد للنفط الإيراني في هذا الوقت.
وفي يوم 14 نوفمبر بالعام نفسه، أي بعد مضي يومين فحسب على القرار الأول وقع الرئيس الأمريكي جيمي كارتر قرارا بتجميد كل الأصول والودائع الإيرانية في أمريكا وبذلك أكمل منظومة عقوبات حادة على إيران لم تستطع حتى هذه اللحظة التخلص من تبعاتها، لاسيما أن نظام الشاه كان يضع الأموال في البنوك الأمريكية بغزارة ويستثمر في المشاريع المرتبطة بالنظام المالي الأمريكي بشكل كبير.
إذن عندما يتحدث جون بولتون عن أن العقوبات الأمريكية على إيران في صورتها الحالية ليست كافية وأن واشنطن بحاجة إلى تشديد العقوبات في الذكرى التاسعة والثلاثين لأول عقوبات على إيران، معناه أن الرجل قصد الإشارة إلى تكامل حلقات التاريخ في سلسلة من الامتعاض والرفض والتعامل الحازم من جانب أمريكا مع إيران، لمحاولة إثنائها على سلوكها الداخلي والخارجي معا.
رمزية المكان
المكان كان له عامل لا يقل أهمية عن عامل الزمان، حيث اختار بولتون إطلاق تلك التصريحات من العاصمة السنغافورية سنغافورة، إذ يحضر القمة السنوية لرابطة دول جنوب شرق أسيا (أسيان) وهناك قال إن أمريكا “تعتبر أن الحكومة الإيرانية تواجه ضغوطا حقيقية، وهدفنا هو الضغط عليهم بشكل قوي للغاية، وممارسة أقصى درجات الضغط، وسنزيد تطبيق العقوبات بشكل كبير كذلك”.
إذن لماذا دول الأسيان؟ لأن دول الأسيان العشر هي من أكبر مستوردي البضائع والطاقة الإيرانية التي دخلت العقوبات عليها حيز التنفيذ في الرابع من نوفمبر الجاري، بمعنى أن الرجل الذي بدأ حياته السياسية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان، أراد ضرب إيران في محيطها الأسيوي، وفي واحدة من أهم البؤر الجغرافية التجارية لها على الإطلاق.
مع العلم أن هذه الدول العشر تدور تقريبا في فلك الولايات المتحدة الأمريكية وهي ملتزمة بتطبيق العقوبات الأمريكية على إيران، بالرغم من محاولات إيران البحث ن سبل للالتفاف على العقوبات، لذلك قال بولتون في مجمل التصريحات “لا شك في أن إيران بدأت تحاول إيجاد وسائل لتفادي العقوبات في قطاع النفط بالتحديد وأسواق المال”.
وقد اختار بولتون سنغافورة على سبيل التحديد، لأنها إحدى الدول التي جرى الحديث في دوائر صنع القرار في أمريكا عن استثنائها مؤقتا من العقوبات الأمريكية على إيران إلى جانب تايوان والصين والهند وكوريا الجنوبية واليابان والعراق وتركيا، لذلك تضافرت كل العوامل لإبراز رمزية سنغافورة ومنطقة جنوب شرقي آسيا، في سياسات أمريكا العقابية تجاه إيران.
خاتمة
على كل حال يبدو واضحا أن الإدارة الأمريكية أو السباعي الأمريكي (دونالد ترامب ـ مايك بومبيو ـ جون بولتون ـ برايان هوك ـ ستيفن منوشين ـ جيمس ماتيس ـ جينا هاسبل) عقدوا العزم على إنزال أشد العقاب على إيران وإكراهها على الجلوس مرة أخرى على طاولة المفاوضات لمناقشة اتفاق تكميلي، ووضح ذلك من خلال الحزمة الأخيرة من العقوبات الأقسى حتى الآن، تلك التي تهدف إلى خفض عائدات صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر، وحرمان مصارف إيران من الوصول إلى الأسواق المالية الدولية.