كشفت أحداث عدة مر بها المجتمع الإيراني الداخلي عن حالة من التخلخل والتصدع في العلاقة بين المجتمع الإيراني والسلطة الحاكمة، وتمثلت تلك الأحداث في تظاهرات الحركة الخضراء التي اندلعت عام 2009، وتلتها موجات أخرى من التحرك المجتمع الرافض لسياسات النظام الحالي، كالتظاهرات الرافضة للأوضاع الاقتصادية عام 2019، ثم الاحتجاجات التي اندلعت عقب إعدام المصارع نويد أفكاري عام 2020، ثم الغضب الشعبي الذي شهدت شوارع إيران بعد وفاة الشابة الكردية مهسا أميني عام 2022 في أحد اقسام شرطة الأخلاق، وهي الأحداث التي كشفت عما يمكن أن يطلق عليه “لا مبالاة النظام بالغضب الشعبي كما هي لا مبالاته بالغضب الدولي”.
وقد أفرزت تلك الحالة الشعبية حاجة إلى إعادة تعريف منظومة القيم التي تقوم عليها الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الوقت الحالي، خاصة وأن جيل الشباب الذي يعيش حاليًا في ظل النظام الإسلامي لا يحمل ذاكرة حية للثورة الإيرانية، وهو الجيل نفسه الذي يرى أن فكرة التضحية من أجل الجمهورية بصورتها الحالية لا تمثل واجبًا أخلاقيًا بديهيًا، وأن تلك الفكرة تحتاج إلى المراجعة.
تحول عنيف في بنية الدولة
وقد برزت تلك الأفكار في الوقت الذي تشهد فيه إيران في المرحلة الجارية تحوّلًا عميقًا لا يطال بنية الدولة أو قيادتها بقدر ما يمس مجال العلاقة بين النظام والشعب، فبينما تواصل الجمهورية الإسلامية استعراض قوتها وقدراتها عبر أجهزتها الأمنية وشبكاتها الإقليمية، فإنها لم تعد تهيمن على أفكار الجيل الجديد والمجال الشعبي العام كان يشكّل مصدرًا رئيسيا لشرعيتها.
على مدى الخمسة عشر عامًا الماضية، بلور الإيرانيون، منظومة أخلاقية جديدة لا تعتمد على خطاب التضحية الثورية، بل على مفاهيم الكرامة، والاستقلال الجسدي، وهو ما أسماه البعض “الدين المدني” أو “الدين الشعبي”.
بمعنى اعتناق الشعب الإيراني لرمزيات جديدة تخالف منظومة القيم التي فرضتها الجمهورية الإسلامية منذ ثورتها وحتى الآن، وقد بات هذا الدين الشعبي أو المعتقدات المستحدثة عن المجتمع الإيراني يتحدى جوهر العقيدة السياسية للجمهورية الإسلامية، بفاعلية كبيرة.
لم ينشأ هذا التحول فجأة، بل تشكل عبر سلسلة من الصدمات المتلاحقة، وقد بدأت تلك الصدمات منذ مقتل “ندى آغا سلطان” خلال احتجاجات الحركة الخضراء عام 2009، وهي سلسلة الاحتجاجات التي أصابت النظام الإيراني بندوبًا في نسيجه السياسي، وتحولت وقتها ندى آغا سلطان من مجرد متظاهرة عادية إلى “شهيدة وطنية” خارج اعتراف الدولة، و رمزًا للنضال في سبيل الحرية، كما كشفت الأحداث التالية للاحتجاجات عن اتساع الفجوة بين الدولة والمجتمع.
ومع كل حادثة كانت تتآكل قدرة الدولة على إقناع المجتمع الإيراني بقدرتها على تعريف القداسة وحرمة الدماء وتحديد من يُعدّ شهيدًا، وباندلاع احتجاجات مهسا أميني عام 2022، كانت الجمهورية الإسلامية قد فقدت إلى حدٍ بعيد رمزيتها الوطنية و سلطتها العاطفية، حتى مع الاحتفاظ بقدرتها الأمنية على وأد التظاهرات التي تخرج تندد بسياساتها، لكن في كل الأحوال أعادت تلك الأحداث توجيه البوصلة الأخلاقية للمجتمع الإيراني على نحو سيترك أثرًا بالغًا في المستقبل السياسي للبلاد.
تحول في تعريف المقدسات
منذ ثورة 1979، عملت الجمهورية الإسلامية علي ترسيخ سلطتها عبر خطاب رمزي جمع بين سرديات دينية ذكرت بين طيات المذهب الشيعي، والأسطورة الثورية، وكذلك ذاكرة الحرب الإيرانية العراقية، وقتها اعتبر النظام أن “الشهيد” الذي يقدم دمه فداءً للثورة رمزًا محوريًا في هذا النظام المعتمد علي الرموز و الصورة العاطفية، وتحولت صورته إلى عنصر دائم في الفضاء العام للمجتمع الإيراني، من الجداريات إلى المناهج الدراسية، وبناءً على ذلك كانت الدولة وحدها من تحدد ما هو مقدس.
لكن مصداقية هذا البناء الرمزي كانت قد بدأت في التآكل منذ أواخر التسعينيات، وتسارعت وتيرتها في العقد الأول من الألفية، جراء الاتهامات التي طالت مؤسسات الجمهورية بالفساد، وتزايد الفجوة الاجتماعية بسبب ما اعتبره البعض “انعدام المساواة”، واتساع الهوة بين النخبة الثورية وبقية المجتمع، علاوة على اعتماد أجهزة السلطة على الحرس الثوري الايراني وقوات الباسيج شبه العسكرية في السيطرة على تداعيات مقتل ندى آغا سلطان، تمامًا بنفس الصورة التي اعتمدوا فيها على الجهازين لمواجهة تظاهرات مقتل مهسا أميني ونويد أفكاري.
وبسبب تلك الأحداث تفاقم الصراع على المعنى، وهو الصراع حول كيفية تفسير الرموز والقيم وما يُعتبر مقدسًا أو مشروعًا، ففي احتجاجات نوفمبر 2019، قُتل مئات المتظاهرين، معظمهم من الفئات المهمشة، وبدل الصمت، خرجت عائلات الضحايا يطالبون بتحقيق العدالة، وتمكنت تلك العائلات من تحويل الحزن إلى فعل أخلاقي جماعي رافض لما آلت إليها الأمور.
بحلول عام 2022، وبعد وفاة مهسا أميني، كان المجتمع الإيراني قد طور منظومة أخلاقية مستقلة، برزت اهم مظاهرها في تجمعات الأضرحة، ووقفات بالشموع، وأشكال الحداد الرمزية مثل قص الشعر، لتتبلور هذه العناصر في حركة “المرأة، الحياة، الحرية”.
وقد واصلت عائلات ضحايا الحركة ممارسة هذه الأنشطة، بما في ذلك المراسم التأبينية العامة، التي غالبًا ما تتحول إلى احتجاجات صغيرة النطاق، في تحدٍّ مباشر لسيطرة الدولة، وهو ما دعا قوات الحرس الثوري والباسيج للتدخل بفض التجمعات واعتقال أقارب المشاركين فيها، إلا أن هذه التجمعات سواء كانت طقوسًا تقليدية في اليوم الأربعين بعد الوفاة، أو وقفات إحياء الذكرى، أو القراءات الشعرية، تظل نقاطًا محورية للتعبئة الأخلاقية الجماعية ضد النظام.
طقوس الحركات الاحتجاجية
ولا تزال مفردات وطقوس الحركات الاحتجاجية في الحياة اليومية، من الحضور المتزايد للنساء غير المحجبات في المدن الكبرى مثل طهران وشيراز ورشت، رغم تكثيف الإجراءات الأمنية والمراقبة الرقمية وتجديد ما يُسمى بقوانين الحجاب، إلى استمرار مراسم التأبين التي غالبًا ما تتحول إلى احتجاجات محدودة، وبالإضافة إلى ذلك يقيم طلاب الجامعات تجمعات صامتة تعلن رفض الفصل العنصري في الجامعات، ويتم خلالها تداول قصائد الاحتجاج، فيما تنتشر على منصات التواصل الاجتماعي الفارسية مقاطع فيديو للمقاومة المحلية، مما يعزز وجود أصواتًا معارضة تحمل رسالة مشتركة.
من أبرز التطورات علي الساحة الايرانية منذ عام 2022 ظهور عروض موسيقية ذات طابع سياسي في شوارع المدن الكبرى، حيث تُظهر مقاطع الفيديو تجمعات كبيرة من الشباب حول موسيقيين يعزفون أغاني أصبحت بمثابة تعبيرات مشفرة لحركة الاحتجاج، مثل أغنية شيرفين حاجي بور “باراي”، والنسخ المعاد توزيعها من روائع داريوش وجوجوش، والأغاني الاحتجاجية لفراحد قبل الثورة، والمراثي الكردية من جنازات عام 2022، ومقطوعات لمغني الراب المسجون توماج صالحي.
وأمام ذلك تستمر قدرة النظام الايراني علي الهيمنة علي منظومة القيم والاخلاق المجتمعية في التراجع، حتى طقوس الدولة نفسها باتت تعكس هذا التراجع، وهو ما يظهر في نمطية الاحتفال بذكرى الحرب الإيرانية العراقية، وكذلك التراجع نفسه في مراسم مواكب عاشوراء الدينية، بعد عقود من اعتماد النظام الإيراني لتلك السرديات، والتي مثلت رصيدًا للجمهورية الإسلامية مكنتها من الصمود أمام ما قد واجهته أمام الكوارث العسكرية والانهيار الاقتصادي.
ما يميز الحالة الإيرانية هي نغمة الإسلام الثوري الممزوج بثقافة الشهادة ومعاداة الإمبريالية، والتي كانت من أقوى الأطر الأيديولوجية في المنطقة، ويظهر تراجعها الآن أن حتى أكثر الأنظمة الرمزية رسوخًا يمكن إسقاطها أو الطعن فيها من قِبل القاعدة الشعبية التي رفضت الامتثال لتلك السردية التي طغت على عقول الشعب الإيراني لأكثر من 4 عقود، لكن انقلاب الشعب على تلك السردية أظهر أن تلك المبادئ حينما تفلت من قبضة الدولة، يمكن أن يُعاد توجيهها ضدها.
فقدان السلطة الرمزية
وبالقطع لا يعني ذلك أن الجمهورية الإسلامية على وشك الانهيار، فهي لا تزال نظامًا أمنيًا يتمتع بجهاز أمني قوي، مدعومًا بشبكات المحسوبية ونخبة سياسية قادرة على قمع المعارضة، لكن فقدان الدولة لسلطتها الرمزية يمثل ضعفًا أعمق لا يمكن معالجته بالقمع وحده، خاصة وأن الشباب الإيرانيون نشأوا وهم يشاهدون الاحتجاجات والجنازات والهتافات على أسطح المنازل، وخلقت هذه التجارب أرشيفًا مشتركًا من الذاكرة والمعاني الثورية، لإعادة تفسيرهم للشرعية، وهو ما يشير إلى أن الدولة الآن تحكم مجتمعًا يقع مركزه الأخلاقي خارج الإطار الأيديولوجي للحكومة، وهي ازمة كبيرة في علاقة الدولة بالمواطن.
وسيُشكّل هذا التوتر مسار تطور إيران خلال العقد القادم، فحتى لو بقي النظام قائمًا، فإنه سيحكم شعبًا لم يعد يعترف بمصطلحاته المقدسة – وهي الركيزة الاساسية التي يعتمد عليها في حكمه – ولا يقبل مزاعمه الأخلاقية، وهو ما قد يؤثر في فرص التفاوض مع القوى الأجنبية، حيث أنه غالبًا ما يفترض المفاوضون أن الحوافز الاقتصادية ستغير حسابات طهران، لكن عندما تشعر النخبة الحاكمة بضعفها أمام القاعدة الشعبية، تصبح أكثر ميلًا لاتخاذ مواقف قصوى لإظهار التماسك الأيديولوجي.
وقد فشلت محاولات النظام لحشد التأييد الشعبي لخلفاء محتملين، سواء رجال دين أو تكنوقراط، كما أن حملات الإعلام الحكومي التي تستحضر مفردات مألوفة كالتضحية والثبات الثوري والبسالة الحربية لم تلق صدى لدى الشباب الإيراني، وهو ما دفع بعض أجهزة الدولة لأن تتحدث عن ضرورة مكافحة الفساد، وتحسين الإدارة الاقتصادية، والسعى نحو تخفيف العقوبات، بدلًا من الحديث عن الشرعية الدينية أو الأيديولوجية، كما حولت المؤسسة الأمنية خطابها نحو النظام والاستقرار والكرامة الوطنية بدلًا من لغة الاستشهاد الثوري المعهود اعتمادها في الأحداث المشابهة.
كما اعتمدت أجهزة الدولة على الرموز الإيرانية التي سبقت دخول الإسلام للبلاد، وهو ما يكشف عن تحول استراتيجي كبير، فعلى مدى أربعة عقود، حافظت الجمهورية الإسلامية على مسافة بينها وبين هذه الرموز خشية منافستها لسردية النظام الجديدة، إلا أنه منذ عام 2022 كشفت البلديات عن سلسلة من الأعمال الفنية العامة الضخمة المستوحاة من الأيقونات الإيرانية القديمة، بالتزامن مع لحظات التوتر الإقليمي أو الحرب، وقد بلغ استغلال الدولة للأبطال القدماء ذروته هذا العام، في ضوء حاجتها لمحاربة إسرائيل والولايات المتحدة.
خاتمة
ويعد هذا التبني المفاجئ للزخارف الأخمينية والساسانية التقليدية، التي طالما اعتز بها الجمهور ولكن همشتها الدولة تاريخيًا، بمثابة اعتراف ضمني بالإنهاك و الاستنزاف الأيديولوجي أمام قضايا ملحة، وهو ما يشير أيضًا إلى أن النظام يُدرك تضاؤل صدى رموزه الثورية، ويسعى الآن إلى اكتساب الشرعية من خلال الاستعارة من مخزون ثقافي مشترك تم تهميشه في السابق، وفي الواقع، يُعد التوجه نحو التراث ما قبل الإسلامي تنازلاً رمزياً أي اعترافاً بأن الجمهورية الإسلامية لم تعد تمتلك مفردات مقدسة قادرة على توحيد الأمة وفقاً لشروطها الخاصة.
ـــــــــــــــ
تحليل مترجم من مجلة فورين بوليسي الأمريكية: بعنوان “Iran Has a New Moral Order.. The Islamic republic no longer controls the symbolic universe that once anchored its legitimacy” (بالعربية: إيران أمام نظام أخلاقي جديد.. لم تعد الجمهورية الإسلامية تسيطر على الكون الرمزي الذي كان يؤسس في السابق لشرعيتها)، للكاتب الإسرائيلي المتخصص في الشؤون الإيرانية مناحيم مرحافي، بتاريخ 15 ديسمبر 2025م.
