قضيتُ يوم الجمعة الماضي 27 يوليو 2018 بالكامل في ضيافة إمبراطورة إيران السابقة، زوجة الشاه محمد رضا بهلوي، “الشهبانو” فرح ديبا، إحياءً من جانبها للذكرى الـ38 لرحيل زوجها الذي وافته المنية ودفن في مصر يوم 27 يوليو بالعام 1980. وهي فرصة لا يمكن لأي باحث تفويتها خاصة إذا كان يعرف عن كثب قيمة جمع المعلومات الميدانية من مصادرها الأصيلة.
بغض النظر عن ما دار بيني وبين الإمبراطورة فرح بهلوي من حوار والذي سينشر عندما يحين الوقت، فقد حرصتُ هذه المرة أن أتحدث كثيرا مع الوفود والجاليات الإيرانية القادمة من أوروبا وأمريكا المصاحبة للإمبراطورة إحياء لهذه الذكرى.
من خلال النقاط ـ المختصرة للغاية ـ التالية أنقل انطباعاتي المبدئية السريعة، إلى أن تحين اللحظة المواتية، وأنشر بالتفصيل والإسهاب ما دار في هذا اليوم الحافل بالمقابلات والأحاديث المهمة والكواليس الأكثر أهمية.
أولا: المفارقة الرئيسة أن حفل الاستقبال الذي أقامته الإمبراطورة تم في أحد فنادق شارع صلاح سالم على بعد خطوات من بيت السفير الإيراني (مدير مكتب رعاية المصالح) وفهمتُ أنها رسالة ضمنية شديدة الدهاء من الإمبراطورة؛ لأن سيارات الوفد التي تحمل علم الشاهنشاهية مرت بكثافة من أمام بيت السفير، وأمام البيت علا صوت أبواق السيارات إحياء لذكرى وفاة الشاه، كما أن حفل الاستقبال أجري العام الماضي في أحد فنادق حي جاردن سيتي بوسط القاهرة، البعيدة عن بيت السفير ومقر السفارة.
ثانيا: الإيرانيون في المعارضة والسلطة ومن كل الانتماءات حريصون على ربط تاريخ فارس الأسطوري “غير الواقعي” بالواقع السياسي الحالي، فالإمبراطورة على سبيل المثال وصفت في حديثها معي الشعب الإيراني بأنه مثل “طائر الفينيق الأسطوري” وعندما تحدثتُ مع عدد من رجال السلطة في إيران وصفوا لي الشعب بأنه مثل “طائر سيمرغ الأسطوري” أيضا وهي صفة يتفق فيها جميع الإيرانيين في السلطة وخارجها.
ثالثا: الإيرانيون المقيمون في أوروبا وأمريكا ينتحلون الإلحاد، أو ديانة “اللا دين”، كرها في نظام “ولاية الفقيه الشيعي” الذي يتدخل في العلاقة بين المسلم وربه، من خلال وسيط اسمه المرجع الأعلى أو الولي الفقيه، من وجهة نظرهم. على سبيل المثال قابلت مهندسا إيرانيا يعود مسقط رأسه إلى مدينة “رَشْتْ” في شمالي إيران اسمه “محمد”، هاجر إلى الدنمارك في التسعينيات، وألحد. وعندما أنجب اختار لابنه اسما مسيحيا هو “أندريه” من باب الالتحام بالمجتمع الدنماركي ونبذا لهويته الدينية الشيعية؛ لكنه مع ذلك متشبث بهويته القومية الفارسية ويحرص على المشاركة في كل المناسبات الإيرانية بالخارج.
رابعا: الإيرانيون المقيمون في أمريكا يُحمّلون الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية تغوّل إيران إقليميا، ويرون بضرورة أن تكون العقوبات أكثر فاعلية ومركزة وموجهة نحو الأرصدة الهائلة المملوكة لأبناء رجال الدين الإيرانيين في أمريكا. على سبيل المثال تحدثتُ مع سيدة إيرانية اسمها سوزان وتقيم في ولاية كاليفورنيا، وهي الولاية التي يقيم فيها نحو ربع مليون أمريكي من أصول إيرانية، قالت لي إنها حضرت الخطاب الذي ألقاه وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، يوم الأحد 22 يوليو الماضي، وبحكم أنها تعمل محققة قانونية في إحدى الوزارات السيادية فإنها تعرف أن عددا كبيرا من أبناء رجال الدين يملكون الـ”جرين كارد” أو الإقامة الدائمة، وأنهم يستفيدون من وجودهم في النظام المالي الأمريكي ويمولون نشاطات النظام الإيراني من خلال هذه الأرباح، ولو كانت أمريكا جادة بالفعل في عقاب إيران ـ من وجهة نظرها ـ لحظرت أموال هؤلاء وطردتهم خاصة أن السلطات الأمريكية تعرفهم معرفة وثيقة.
خامسا: كثيرٌ من الإيرانيين الذين حضروا إحياء ذكرى وفاة الشاه محمد رضا بهلوي، ينتمون للطبقة الثرية جدا في إيران، وأغلبهم ينتمون لعائلات في شمالي طهران، وهي المناطق المشهورة بالثراء، مثل تشامران والعزيزية وغيرهما، وهم بطبيعة الحال يعيشون في أمريكا وكندا وأوروبا، ويعملون في مجال الأعمال الحرة والشركات الخاصة، ويتبرعون بأموال طائلة لتمويل نشاطات المعارضة الإيرانية الملكية وغيرها في أمريكا وأوروبا.
سادسا: عديدٌ من الإيرانيين المقيمين في الداخل الإيراني يتمنون لو يحضرون مراسم إحياء ذكرى وفاة الشاه كل عام؛ غير أنهم يتخوفون من الملاحقة الأمنية الإيرانية حال عودتهم، خاصة أنهم يعرفون أن أعضاء السفارة الإيرانية في القاهرة يرصدون بكل دقة تحركات فرح ديبا ومرافقيها كل عام في مثل هذا اليوم، هؤلاء الإيرانيون هم أقارب وأصدقاء الإيرانيين المقيمين في الخارج، كما حكوا لي.
على كل حال كان يوما حافلا بالزيارات والمقابلات وهو فرصة سانحة ـ لا تحدث إلا مرة واحدة كل عام ـ تستمد أهميتها من كونها تمكن الباحث من الاقتراب من العقليات الاستراتيجية لشخصيات كانت على رأس السلطة في يوم من الأيام، وما تزال تواصل حراكها حتى بعد 39 عاما على زوال حكم الأسرة البهلوية.
ـــــــــ
(*) الصورة المرفقة من حوار أجراه محمد محسن أبو النور مع الإمبراطورة فرح في ليلة الخميس 27 يوليو من العام 2017 بأحد فنادق حي جاردن سيتي في وسط القاهرة.