بعد أن قامت المملكة العربية السعودية، مؤخرا بإعادة الاتصال المباشر مع دمشق، كي يكون هذا الاتصال هو الأول من نوعه منذ اللقاء الذى جمع اللواء علي مملوك، رئيس مكتب الأمن القومى السورى (المخابرات) بالأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، فى 2015؛ لتقديم عروض أكثر إغراءً من العروض التى قدمت من الخليج للرئيس السوري بشار الأسد، سواء فى ذلك اللقاء، أو ما قُدِمَ لبشار فى 2009م لفك الارتباط مع إيران، كانت الحكومة السورية قد أنهت آخر استعداداتها ـ بعد زيارة وزير الدفاع الإيراني لدمشق مؤخرا ـ لتطهير عاصمة الإرهاب والملتقى الدولي للتكفيريين “محافظة إدلب”.
فبالتزامن مع رفض الغرب تحرير إدلب وإعلانه الصريح لانحيازه للمليشيات المسلحة بها، أعلنت روسيا إجراء مناورات عسكرية هي الأضخم فى البحر المتوسط، فى رسالة عملية من موسكو للغرب، بحيث لم يعد أمام موسكو وطهران ودمشق سوى تحديد بوصلة الموقف التركي من إدلب، فحسب موقف أردوغان سيتم تحديد الطريقة التى ستحرر بها إدلب سواء بالسلم أو بالسلاح.
ولكن حتى لو جاء موقف تركيا كما تتمنى موسكو، وهو تقديم المساعدة لدمشق فى تسليم إدلب للحكومة السورية، والتخلي عن حلم تكرار اقتطاع لواء إسكندرونة جديد، فالغرب لن يسمح أن تعود إدلب لدمشق ليس نكاية فى الرئيس بشار الأسد، بقدر الخوف من خروج أكثر من 128 فصيلا إرهابيا، من أكثر من 60 جنسية خارج القفص الكبير المسمى بـ”إدلب”، وبتأكيد ستكون أوروبا هي قبلة الكثيرين من هؤلاء الإرهابيين، فأوروبا لم ولن تأمن لمن غدر بهم مرة وابتزهم بورقة اللاجئين مرات ومرات، وهو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
هنا يجب التذكير بواقعة حدثت ببداية عام 2012 عندما ألقى الأمن العام اللبنانى القبض على أتراك داخل بيروت يمنحون جوازات سفر فرنسية مزوة لبعض العناصر الإرهابية كي يتمكنوا من خلالها دخول فرنسا واختراق كل دول أوروبا، وهو الأمر الذى يفسر لنا لماذا كانت فرنسا صاحبة نصيب الأسد من التفجيرات والعمليات الإرهابية التى طالت أوروبا على مدار الأعوام الماضية، وهو الأمر الذي انعكس من خلال تصريحات رئيس أركان فرنسا الأسبق إدوارد جيو، لمجلة لوبوان الفرنسية بفبراير 2012م، عندما وجهت الصحيفة سؤالا له فحواه ما الخطر الذي يهدد أوروبا والأمن العالمي حالياً؟
فكانت إجابة إدوارد جيو “إنها معسكرات تنظيم القاعدة في جنوب تركيا وتحديداً في مدن كارمان وعثمانية وسالنيورفا، ولا أعتقد أن الأتراك أنشأوا تلك المعسكرات في هذه المدن هكذا اعتباطاً، بل هم سيزحفون علينا يوماً ما قبل أن يصدِّروا إرهابهم لجميع دول الشرق الأوسط بأكمله”.
من هنا يتضح لماذا جاءت فرنسا فى مقدمة الدول الغربية الرافضة لتحرير إدلب أو بالأدق لخروج آلاف الإرهابيين من قفص إدلب، ولكن كي تكون الصورة أكثر عمقا وواقعية فى التحليل، فليس هذا هو السبب النهائي، فلدى فرنسا رغبة قوية فى عدم الخروج من الكعكة السورية خاوية اليدين، والأهم أن أي تقدم لفرنسا فى سوريا سيعزز من أهميتها لدى واشنطن بملفات الشرق الأوسط، وهو ما سينعكس على الملف الليبي، الذى باتت فيه كلمة فرنسا قبل إيطاليا، ويجب الانتظار ما سيسفر عنه مشهد الحرب فى طرابلس الذى قد يدق أول مسمار فى نعش الحضور الإيطالي بليبيا.
على كل حال يبدو أن الأيام القليلة القادمة ستكون مليئة بالأحداث المهمة والمشاهد الحاسمة، وسواء انتهت معركة إدلب بالسلم أو بالحرب، فمن المؤكد أن معركة جديدة ستبدأ لكن على جبهة أخرى، إن لم تنفجر تلك المعركة قبل معركة تحرير إدلب نفسها، وما يحدث الآن بالعراق يشرح ذلك، بعد أن ضم طرفي الصراع الميدان العراقي لمعادلة تكسير العظام التى بدأت بالغوطة الشرقية والسويداء والآن بإدلب، بعد أن تنحى الميدان اللبناني عن تلك المعادلة ولو قليلا كي تلتقط بيروت أنفاسها حتى ولو لبعض من الوقت.
فمشهد إعادة فرز أصوات الانتخابات العراقية، ثم المشهد المفاجئ بانقلاب رئيس الوزراء حيدر العبادي على الحشد العشبي، وإقالة رئيسه فالح الفياض من مهامه كرئيس للحشد وبمجلس الأمن الوطني، قبل أن يعلن العبادي توليه رئاسة هيئة الحشد الشعبي، يوضح كيف أشعل أطراف الصراع العراق الذى ظل منذ 2003 ساحة خلفية للصراع فيما بينهم.
وهو المشهد الذى جاء بعد قيام قائد فيلق القدس قاسم سليماني بالإشراف على نقل العديد من الصواريخ الباليستية والاستراتيجية من إيران إلى العراق، وهو الأمر الذى يفسر سر تصريحات وزير دفاع جيش الاحتلال الإسرائيلي ليبرمان عندما قال: “إسرائيل لن تتوانى عن ضرب مواقع إيرانية فى العراق”.
المؤكد في الأخير أن الأيام المقبلة ستفك بعض الشفرات وستجيب عن بعض الأسئلة بعد انعقاد القمة الثلاثية بين زعماء إيران وروسيا وتركيا، والتى ستنعقد فى العاصمة الإيرانية طهران بعد أيام قليلة، والتى بالتأكيد ستكون مختلفة تماما عن كل القمم السابقة، بحكم ما التحديات التي تواجه إيران وتركيا، فى ظل خريطة سياسية تزداد كل يوم بالتعقيد والتوتر.