تتابع إيران تطورات الوضع في الجارة الشرقية لها عن كثب، خاصة أن الأزمة الأفغانية تمثل لها معضلة حقيقية بناء على اعتبارين مهمين، أولا: هو العلاقات المتشابكة للحكومة الإيرانية مع أغلب أطراف المشهد الأفغاني ومنهم حركة طالبان التي دشنت طهران علاقات سرية ثم علنية معها في السنوات الأخيرة إلى جانب علاقاتها بالرئيس الأفغاني أشرف غني الذي كان أحد الحضور لحفل تنصيب إبراهيم رئيسي في مجلس الشورى الإسلامي يوم الخميس 5 أغسطس.
الثاني: التجاور الحدودي والتشابك الاجتماعي بين البلدين فيما يخص المنطقة الشرقية من الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تقيم فيها القومية البلوشية في محافظة سيستان بلوشستان والتي تمتد بتركيبتها العرقية إلى داخل المنطقة الغربية الأفغانية، فضلا عن تشابك المصالح التجارية من خلال المنافذ الحدودية والأنهار الدولية المشتركة ومنها نهر هلمند على سبيل التحديد.
إطلالة على التاريخ القريب
من يدرس الشخصية الإيرانية يدرك أنها شخصية أثيرة بالتاريخ ومغرمة به لدرجة أنه يحكم سلوكها عامة، وسلوك النخب الحاكمة خاصة، وفيما يتعلق بأفغانستان فإيران لها مع هذه الدولة ومع جماعة طالبان المسيطرة الآن حديث ذو شجون، خاصة إذا استدعت الذاكرة القريبة واقعة “مزار شريف”.
ففي الثامن من أغسطس بالعام 1998 شنت حركة طالبان هجوما موسعا على مدينة مزار شريف في الجزء الشمالي من أفغانستان، وحاصرت القنصلية الإيرانية وقتلت 10 دبلوماسيين إيرانيين ردا على دعم إيران لتحالف القبائل الشمالية بزعامة برهان الدين رباني وقيادة أحمد شاه مسعود الذي لعب دورا محوريا في هذه الفترة من التاريخ القريب.
في تلك الأثناء ركزت حركة طالبان على تلك المنطقة الشمالية من البلاد نظرا لتمركز قبائل الهزارة الشيعية الموالية لإيران، وهناك قتلت العديد من أبناء القوميات الأخرى غير الهزارة ومنهم الطاجيك والهزارة، نكاية في إيران التي تدعم هذا الجزء من البلاد.
بالتالي تتعامل إيران مع هذا الملف بحذر شديد، ويمكن القول إن أي تعاطي لها مع المسألة الأفغانية لن يكون بعيدا عن ذاكرتها التاريخية المتعلقة بقتل طالبان لدبلوماسييها وما استتبعه ذلك من إهانة بالغة للدولة في محيطها الإقليمي الخارجي وفي صورتها الذهنية الشاملة أمام الداخل، بعد أن ظهرت في صورة الحكومة التي لا تتمكن من حماية رجالاتها.
تحميل أمريكا المسؤولية
التناول الإعلامي الرسمي الإيراني للتطورات المتلاحقة والمتغيرة على مدار الساعة ينبئ عن أن إيران تحمل ضمنيا الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية تدهور الوضع خاصة أن الانسحاب الأمريكي من وجهة نظر إيران كان غير مدروس وأدى إلى إضعاف جبهة الرئيس أشرف غني الذي واجه حركة مكونة من نحو 75 ألف مقاتل مدججين بسلاح أمريكي ويسيطرون على المدن واحدة تلو الأخرى.
على سبيل المثال: نشرت وكالة أنباء الجمهورية الإيرانية “إرنا” تحليلا مطولا، ليس موقعا باسم أحد كتابها، قالت فيه إن الدعم الأمريكي لطالبان والاتفاق بين الطرفين كان بمثابة لعب أمريكي بالنار؛ لأن الوضع الراهن كشف عن أن الإنفاق الأمريكي الكبير البالغ نحو 83 مليار دولار على الجيش في أفغانستان طيلة عشرين عاما لم يؤد النتيجة المطلوبة بل حقق نتيجة عسكية أدت إلى ضياع الجيش الأفغاني بشكل شبه تام.
وعليه وفقا للمشهد الحالي فإن ما رددته أمريكا على مدى 20 عاما كان ادعاءً ظاهره مكافحة الإرهاب ومواجهة الجماعات الراديكالية وباطنه تدمير الأمة الأفغانية والعبث بمقدراتها، وبالتالي فإن التقدم السريع لمقاتلي طالبان في أفغانستان هو إشارة لكل ذي عينين إلى فشل الجهود الأمريكية لتحويل الجيش الأفغاني إلى قوة قتالية قوية ومستقلة، وفقا للرؤية الإيرانية.
التحليل الإيراني للمشهد الأفغاني
ترى إيران أن أمريكا خذلت الشعب الأفغاني الذي أصبح بلا جيش حقيقي؛ لأنها (أي واشنطن) اعتمدت على قادة غير أكفاء ودعمتهم ودربتهم، لكنهم أثبتوا ألا لديهم الحد الأدنى من الكفاءة ولاذوا بالفرار إلى دول حدودية بعد المواجهة مع قوات لا تزيد عن (80:70 ألف مقاتل) فيما أن العدد الفعلي للجيش الأفغاني هو (350:300 ألف مقاتل).
كما أن التقدم العسكري السريع لطالبان والذي أدى إلى استسلام الجيش الأفغاني على نطاق غير محدود، واستيلاء مقاتلي طالبان على طائرات هليكوبتر ومعدات عسكرية بملايين الدولارات من أفغانستان، كان نتيجة الجهود الأمريكية غير الجادة وغير الحقيقية لدعم الاستقرار في أفغانستان.
عليه يشير التحليل الإيراني ــ من خلال الغوص في العقلية الاستراتيجية الإيرانية ــ للمشهد في أفغانستان إلى عاملين:
أولا: عدم وصول الإمدادات اللوجيستية من طعام وشراب ومؤن للجنود في الجيش الأفغاني الذين تركهم قادتهم جائعين وشبه مشردين في المناطقة الحدودية والريفية النائية، فضلا عن انضمام البعض منهم إلى طالبان بعد أن رأوا حسن التعامل من قوات التنظيم.
ثانيا: الضعف الحقيقي للقوات الحكومية الموالية للرئيس أشرف غني التي يختلف تموضعها على الأرض عن وضعها على الورق. على سبيل المثال: يبلغ عدد هذه القوى على الورق حوالي 300 ألف مقاتل، ولكن في الأيام الأخيرة أصبح من الواضح أن العدد الفعلي لا يتجاوز سدس هذا الرقم، أي حوالي 50 ألف مقاتل فقط، أغلبهم بلا دعم حقيقي من قواتهم المركزية ومن قاداتهم في العاصمة كابول.
الاعتماد على الغرب لا يفيد
الاعتقاد الإيراني الراسخ بوجه عام هو أن الاعتماد على الغرب لا يفيد الدول، ويمكن قراءة ذلك على نحو سلس من خلال خطبة الجمعة الأسبوعية ومن خلال أحاديث المرشد الأعلى علي خامنئي نفسه.
ويرى صناع القرار في الدرس الأفغاني دلالة على صحة وجهة نظرهم، ويدللون على أنه بعد نحو 20 عاما من الوجود الأمريكي والغربي من خلال قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وبعد أن قدمت الأمم المتحدة وحدها أكثر من 140 مليار دولار من المساعدات المالية لأفغانستان وقدمت أمريكا أكثر من 820 مليار دولار في خلال الفترة نفسها، لا تزال تلك البلاد الجبلية الوعرة واحدة من أفقر البلدان في العالم.
البيانات التي تعتمد عليها إيران للبرهنة عن تحليلها هذا تشير إلى أن أفغانستان تحتل المرتبة الـ169 من بين 189 دولة، ولا يزيد دخل الفرد في هذه الجمهورية الإسلامية عن 2200 دولار في العام، هذا بالرغم من “الدعم الغربي للبلاد” واعتماد النخب نوعا ما على الغرب في تحسين أوضاع بلادهم.
ولعل هذا التحليل الإيراني يشي بأن المسألة الأفغانية هي رسالة إلى الداخل مفادها أن الحكومة الراهنة بقيادة إبراهيم رئيسي وإن كانت تعاني من مشاكل هيكلية اقتصادية حادة وتواجه عقوبات أمريكية هي الأقسى في التاريخ؛ إلا إنها أفضل بكثير من مجرد التفكير في الاعتماد على أمريكا والغرب لتحسين ظروفها.
خاتمة
تراقب إيران الوضع الأفغاني بمزيد من الحذر، وسوف تدفعها مبادئها البراجماتية إلى بناء علاقات مع أي حكومة مرتقبة تقودها طالبان أو حتى تكون جزءا منها، وهي في ذلك محكومة بعدة أبعاد ليس أقلها البعد التاريخي الحاكم للعقلية الاستراتيجية الإيرانية، كما أن لها علة خاصة ــ ربما أكثر من أي دولة أخرى ــ وهي علة الجوار الجغرافي، إذ لا يخدم أي توتر على حدود دولة ملتهبة مثل إيران استقرارها الداخلي في الأيام الأولى لتولي رئيس جديد السلطة التنفيذية بالبلاد، ثم إنها ستتعامل مع دولة جارة أصبح في حكم المؤكد أن تقودها جماعة إسلامية سنية راديكالية، وهي في ظل كل هذا تواجه عبابا عصيبا لا يقبل الهزل في أوقات الجد الكبرى.