في منتصف نهار السبت 7 ديسمبر 2024 أفادت التقارير الإخبارية بأن الفصائل المسلحة السورية على مشارف مدينة حمص بعد أن تمكنت من السيطرة على حماة وحلب، وفي وقت متأخر من مساء اليوم نفسه أصدرت 8 دول اجتمعت في العاصمة القطرية الدوحة وهي قطر والسعودية والأردن ومصر والعراق وإيران وتركيا وروسيا بيانا مشتركا بشأن سوريا، يناقش الأوضاع ويضع التصورات الآنية لرؤية مستقبلية، جاء فيه أن “الأزمة الحالية تمثل تطورا خطيرا على الأمن الإقليمي والدولي”، وطالبت في البيان بحل سياسي لوقف العمليات العسكرية وحماية المدنيين، وأكد المجتمعون على أهمية احترام وحدة وسلامة الأراضي السورية، وأهمية تحقيق الأمن لجميع مكونات الشعب السوري.
وهو ما يدفع للإجابة عن عدة أسئلة على رأسها ما يلي.
أولا: ما هي أسباب السقوط السهل لمحافظات وسط وشمالي سوريا؟
سقطت جميع البنى التحتية العسكرية التي بنتها سوريا ودفعت تكاليفها بمساعدة إيران منذ تحرير حلب في عام 2016 بما في ذلك المطارات العسكرية في أيدي المسلحين، وبالتالي حصلت هذه الجماعات المسلحة على غنائم لا تصدق وفي ظروف مثيرة للدهشة، وهو ما أكده أبو محمد الجولاني زعيم هئية تحرير الشام في حوار مع سي إن إن يوم الجمعة 6 ديسمبر 2024 وعليه يمكن تلخيص أسباب سقوط المحافظات السورية المهمة وهي حلب وحماة في النقاط التالية:
1 ــ ضلوع إسرائيل في هذه العمليات لأن الهجوم على حلب بدأ بمجرد توقيع إسرائيل على وقف إطلاق النار مع حزب الله وفراغها من المسألة اللبنانية ورغبتها في صرف الأنظار تماما عن عدوانها على غزة بعد مرور 14 شهرا على جرائمها ضد الإنسانية في القطاع.
2ــ الغارات الجوية الإسرائيلية المتكررة على سوريا في العام الماضي وهي التي أضعفت بشكل كبير الجيش الإيراني والحكومة السورية وقد اغتالت إسرائيل قادة إيرانيين لا حصر لهم في سوريا، وهو ما أدى إلى تضرر مخزونات كبيرة من الذخيرة في سوريا بسبب هذه الهجمات.
3ــ انسحاب قوات حزب الله من سوريا التي لم يكن لها وجود يذكر في حلب وما حولها لأنها ذهبت إلى لبنان لمواجهة إسرائيل وعملت على العودة من الإقليم إلى الداخل اللبناني في إطار سياسة لبننة مواقف الحزب في عهد الشيخ نعيم قاسم الأمين العام الجديد للحزب بعد اغتيال حسن نصر الله.
4ــ مغادرة جزء كبير من القوات الإيرانية سوريا لأن البقاء في تلك الأرض كان يعني التعرض للاغتيال على يد إسرائيل كما فعلت تل أبيب بأكابر القادة ومنهم على سبيل المثال الجنرال محمد رضا زاهدي الذي اغتالته إسرائيل في القنصلية الإيرانية بدمشق يوم 1 إبريل 2024.
5ــ قيام إيران بتسريح معظم قوات فاطميون وزينبيون من سوريا لأنه بدا أنه لا حاجة لهم للخدمة إلى جوار الجيش السوري الذي بدا أن الأمر استتب له وتم تسليمه حلب بعد معارك ضارية في عام 2021.
6ــ انخفاض الوجود العسكري الروسي في سوريا بشكل كبير منذ الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا في فبراير 2022 حيث سحبت روسيا معظم قواتها الجوية والمشاة من سوريا، كما غادرت مجموعة فاجنر سوريا إلى الجبهة الشرقية الأوكرانية.
7ــ الدور الذي لعبته المخابرات الأوكرانية حيث أجرت اتصالات مكثفة مع الفصائل المسلحة وأمدتها بتكنولوجيا الطائرات المسيرة وهو أمر لم يكن ليحدث طبعا إلا بأمر وبضوء أخضر أمريكي.
8ــ قيام القوات الأوكرانية بملاحقة واستهداف القوات الروسية النظامية وقوات فاجنر في سوريا وألحقت بها أضرارا عن طريق تكنولوجيا الطائرات المسيرة الانتحارية وهو ما يعرف بــ”القوة الجوية منخفضة التكاليف”.
9ــ ضعف وهشاشة الحكومة السورية وانسداد الأفق السياسي للعقلية الإستراتيجية الطفولية للرئيس بشار وغياب قدرته تماما على تحليل الأحداث الإقليمية والدولية التي تدور من حوله إلى جانب الفساد عميق المستوى لدى الجيش السوري وعدم كفاءته القتالية وغياب الدافع الوطني والأخلاقي لدى أغلب منسوبيه لأسباب اجتماعية وسياسية وتاريخية معقدة.
10ــ الدور الأمريكي الداعم للجماعات المسحلة بالمال والسلاح واللوجيستيات والمعلومات الاستخباراتية؛ إذ من مصلحة أمريكا سقوط حكومة بشار الأسد والذهاب إلى مخطط تقسيم البلاد أو على الأقل تنحية الأسد الحليف الإستراتيجي لإيران وإضعاف أحد أهم الأوراق الإقليمية الإيرانية.
11ــ القدرة القتالية لعناصر الجماعات المسلحة وخبرتها في حروب المدن بعد أن تعلمت من أخطاء الماضي وسيطرتها على أسلحة ثقيلة من مخازن الجيش العربي السوري مع وجود حواضن شعبية ناقمة تماما على سياسات الرئيس بشار الأسد وأبيه من قبله.
12ــ الدور التركي الداعم للجماعات المسلحة ورغبة الرئيس رجب طيب أردوغان في إسقاط بشار الأسد في إطار الصراع الإقليمي الشرس مع إيران ومحورها إذ يبدو بشار أحد العوائق أمام تمدد المشروع التركي الطوراني العابر للإقليم.
ثانيا: ما هو التقييم الإيراني الراهن لما يحدث في سوريا ومستقبل بشار الأسد؟
تدرك إيران ربما للمرة الأولى منذ 2011 أن الحل الوحيد للأزمة السورية الراهنة لن يتأتى إلا بصيغة سياسية وبالتالي فإن بشار الأسد لا يمكن أن يكون جزءا من أي تسوية سياسية في المستقبل القريب ومن خلال النقاط التالية يمكن تتبع التقييم الإيراني للمسألة برمتها.
1ــ لدى إيران قناعة بأن الرئيس بوتين توصل إلى اتفاق ضمني مع إسرائيل بحيث تقوم الجماعات المسلحة السورية بالاستيلاء على الطرق الرئيسية من شرقي سوريا إلى غربيها وقطعها، وبالتالي لن تتمكن إيران بعد الآن من استخدام الطريق البري السوري لنقل المساعدات والأسلحة إلى حزب الله، وفي مقابل ذلك ستساعد إسرائيل لاحقاً روسيا على إنهاء القضية الأوكرانية في أسرع وقت ممكن من خلال الضغط على أمريكا.
2ــ تعرف إيران أن إسرائيل تسعى إلى خلق نظام جديد في الشرق الأوسط، وبعد ضرب حماس وحزب الله، تريد تل أبيب الإجهاز على بشار الأسد وسوريا خاصة بعد تردد بشار في إخراج إيران من سوريا وفقا لما جاء في التقرير الذي نشرته وكالة رويترز الأسبوع الماضي.
3ــ ترى إيران أن الجيش السوري مخترق إلى أعماقه من المخابرات الإقليمية والدولية وخاصة من الموساد الإسرائيلي الذي خطط لانهيار جبهة حلب من خلال عملية تسلل سرية في صفوف الجيش السوري ومن خلال الترهيب والتهديد لقياداته، وقد قدمت إسرائيل معلومات استخباراتية كبيرة للمسلحين من أجل الاستيلاء على حلب بأكثر الطرق أمانًا ومن دون سقوط ضحايا من المدنيين وبالتالي تحسين الصورة الذهنية للجماعات المسلحة لدى الداخل والخارج.
4ــ تعرف إيران تمام المعرفة أن الجيش السوري غير قادر على مواجهة طويلة الأمد مع الحركات الجهادية السورية التي تتمتع بإرادة عالية وتخطيط مدعوم من جهات إقليمية ودولية متعددة في ظل الهشاشة والفوضوية الكاملة للحكومة السورية وجيشها.
5ــ تلقي إيران باللوم على الرئيس بشار الأسد الذي لم يستجب إلى مطالبها بشأن إعادة بناء سوريا بما في ذلك الدعوة إلى انتخابات حرة وإصدار عفو عام على كل المطلوبين وإعادة 6 ملايين سوري إلى أراضيهم والحد من استشراء الفساد في قطاعات الدولة.
6ــ بدأت إيران في تغيير لهجتها تجاه الجماعات المسلحة ويلاحظ أن وزير الخارجية عباس عراقجي لم يعد يستخدم لفظة “الجماعات الإرهابية” بل يردد أنها “جماعات مسلحة” وظهر ذلك جليا في التقارير التلفزيونية الإيرانية يوم السبت 7 ديسمبر.
7ــ ويوم السبت 7 ديسمبر 2024 ترددت أقاويل في مجتمع الخبراء الإيرانيين وفي الأوساط السياسية والإعلامية مفادها أن المسؤول عن الإذاعة والتلفزيون الرسمي في إيران “صدا وسيما” قد أُمر بعدم ذكر “الجماعات الإرهابية السورية” بعد الآن بل تسميتها بـ”الجماعات المسلحة السورية”.
8ــ مثلا كان أحد المراسلين يتحدث عدة مرات في الراديو عن “الإرهابيين السوريين”، لكنه سرعان ما صحح كلامه وبدأ يقول “الجماعات المسلحة” وهو ما عزز هذه الشائعات التي تدور الآن في قلب طهران. وقد لاحظ بعض المراقبين أن جريدة “ستاره صبح” المحافظة الأصولية المملوكة للسفير الإيراني في الدوحة، علي صالح آبادي، نشرت مقالة فيها انتقاد نوعي لبشار الأسد.
9ــ قالت لي مصادري الخاصة إن بعض آيات الله الكبار مارسوا الضغوط على المرشد الإيراني آية الله علي خامنئي لحمله على التفاوض مع “معارضي الأسد” ومطالبة تركيا بضمان سلامة الأماكن المقدسة الشيعية وخاصة الحرم الزينبي في دمشق لأن سقوط دمشق أصبح متوقعا في أغلب الدوائر الإيرانية العليا.
10ــ ما سبق يعني أن إيران تريد أن تعيد تموضعها وترتيب أوراق محور المقاومة الذي تلقى ضربات هائلة في آخر عامين مع غياب خطة إستراتيجية واضحة للتعامل مع التحديات المحتملة وإدراكها أن هذا المحور لا يملك أسباب البقاء طويل الأمد نظرا لعدم توحد الخلفية العقائدية والأيديولوجية والسياسية لأطرافه.
رابط قناة الكاتب على تليجرام
https://t.me/iran_with_egyptian_eyes