ترسم علاقات إيران والمملكة العربية السعودية مع الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة ملامح نموذجين مختلفين للعلاقات الدولية، لكن يمكن المقارنة بينهما في السياسة الخارجية، فإيران تعتمد بدرجة أساسية على «المقاومة»، وتعزيز الردع، والتفاوض المشروط، في حين تتبنى السعودية نهج التعامل الوثيق، والاستفادة من العلاقات المباشرة مع واشنطن.
يكشف هذا التحليل أن هذين النهجين لكل منهما آثاره المختلفة على المصالح الوطنية لإيران والسعودية، وفهم هذه الفروقات يساعد على تحليل أدق لمسارات السياسة الخارجية في البلدين مستقبلا.
النهج الإيراني: المقاومة والردع والتفاوض المحدود
تقوم الإستراتيجية الإيرانية على تعزيز الردع العسكري، والاعتماد على الحلفاء الإقليميين أو ما يُعرف بـ”القوى الوكيلة”، وتجنب التفاوض دون ضمانات موثوقة، حيث يحقق هذا الأنموذج في نظر طهران عدة مزايا؛ فامتلاك القدرات الصاروخية، والعمق الإستراتيجي، وشبكة الحلفاء الإقليميين، كلها عوامل رفعت كلفة أي عمل عسكري ضد الجمهورية الإسلامية، وعززت شكلا من أشكال الردع النسبي.
كما تتخذ الجمهورية الإسلامية قراراتها من دون تبعية أمنية للقوى الخارجية، وتحاول الحفاظ على هذا الاستقلال الإستراتيجي، وهو ما يُعد ذا أهمية جوهرية للنظام السياسي، وزاد من قدرة إيران على التفاوض في ظروف معينة؛ ومثال بارز على ذلك مفاوضات الاتفاق النووي، التي فتحت مساحة سياسية جديدة لإيران.
ومع ذلك، فقد فرض هذا النهج في المدى الطويل تحديات كبيرة؛ أهمها استمرار العقوبات الاقتصادية التي حدّت من الوصول إلى التكنولوجيا والاستثمارات والتجارة، وأعاقت النمو الاقتصادي.
كما أدى ارتفاع كلفة الالتفاف على العقوبات إلى توسع الاقتصاد غير الشفاف وازدياد الفساد المنظم في البُنى الاقتصادية، يضاف إلى ذلك العزلة النسبية عن النظام المالي العالمي، ما قلّص قدرة إيران على الاندماج في الشبكات الاقتصادية الدولية، وأسهم في تسريع هجرة النخب وخروج رؤوس الأموال. ومن المؤكد أن هذه الاتجاهات تُضعف القوة الوطنية على المدى البعيد، وهو مسار بدأ منذ سنوات طويلة.
النهج السعودي: التعامل النشط وبناء التحالفات مع واشنطن
اعتمدت السعودية، خصوصاً في عهد ترامب، على التعامل الوثيق، والاتفاقات السياسية الاقتصادية، وقد منح هذا النهج الرياض مزايا مهمة؛ فالعقود التسليحية الضخمة عززت الروابط العسكرية والأمنية مع الولايات المتحدة، ورفعت مستوى الدعم الإستراتيجي.
من جانب آخر، ساعد هذا المناخ الدولي الأكثر استقراراً في تعزيز فرص تنفيذ «رؤية 2030» الطموحة.
المقارنة بين النموذجين
من خلال المقارنة بين المسارين، يمكن القول إن أياً منهما لا يمتلك أفضلية مطلقة على الآخر. فكل نموذج يرتبط بقوة بالهياكل الداخلية، والتحديات الأمنية، والقدرات الاقتصادية لكل دولة.
قد تكون إيران نجحت في تحقيق مستوى من الاستقلال والردع، لكنها دفعت ثمناً اقتصادياً باهظاً. بينما حققت السعودية مكاسب اقتصادية وسياسية سريعة، لكنها أصبحت أكثر اعتماداً إستراتيجياً على الولايات المتحدة.
ووفق نظريات العلاقات الدولية، فإن النجاح عادة يكون في “النماذج المختلطة” التي تجمع بين الردع، وبين الدبلوماسية النشطة، وبين العلاقات متعددة الأطراف أو “المتوازنة”، بحيث تتمكن الدولة من تعزيز قوتها التفاوضية واستقرارها على المدى الطويل.
الآثار طويلة المدى لغياب التفاوض بالنسبة لإيران
إن استمرار سياسة “التفاوض المحدود” دون رفع أو تخفيف للعقوبات سيُبقي الاقتصاد الإيراني في حالة نمو ضعيف وغير مستقر. وقد حدث تآكل القدرة الاقتصادية بالفعل، فضعف الوصول إلى الأسواق والتكنولوجيا سيقلل القدرة التنافسية، ويضعف موقع إيران في الاقتصاد العالمي، ويؤدي إلى تسارع هجرة الكفاءات ورأس المال.
وكلما ضعفت القوة الاقتصادية، تراجعت القدرة على التفاوض الدبلوماسي، وفي ظل العلاقات المتوترة مع الغرب، ستكون قدرة الشركاء غير الغربيين على مساعدة إيران في تجاوز العقوبات محدودة أيضاً.
الخلاصة
يمكن القول إنه لا “المقاومة المطلقة” ولا “الاعتماد الكامل على قوة خارجية” يمكن أن يضمن مصالح وطنية مستدامة. فقد عززت إستراتيجية الجمهورية الإسلامية الردع في المدى القصير، لكنها كانت مكلفة اقتصادياً. أما السعودية فاستفادت من التعامل الوثيق مع واشنطن لتحقيق مكاسب سريعة، لكنها أصبحت أكثر قربا من أمريكا على المستوى البنيوي.
ووفق منظور نظريات العلاقات الدولية، فإن الإستراتيجية المثلى هي النموذج المركّب القائم على المقاومة الذكية، والدبلوماسية النشطة، والمفاوضات الموجّهة نحو تحقيق المصالح الوطنية طويلة الأمد، إلى جانب خفض التوترات غير الضرورية. مثل هذا النموذج يمكن أن يحافظ على الاستقلال، ويستفيد من الفرص الاقتصادية والسياسية العالمية، ويعزز القوة الوطنية بشكل مستدام.
ويبدو أن السعودية تقترب تدريجياً من هذا النموذج بدافع طموحات ولي العهد، محمد بن سلمان، فيما تبتعد عنه الجمهورية الإسلامية تدريجياً بسبب تراكم الأزمات الداخلية والخارجية، وتراجع قدراتها وازدياد عزلتها. وهنا يُطرح السؤال الجوهري: كيف، وتحت أي شروط، يمكن لإيران أن تعود إلى دبلوماسية نشطة، وهادفة، ومتوازنة؟!