تخطئ أحيانًا النخب الإيرانية في قراءة التاريخ، حتى في أحلك لحظات أزماتها، ففي ظل وجود وباء عالمي كفيروس كورونا أو “كوفيد – 19”، والذي تفشى على نحو واسع النطاق في العالم كله، وجد هذا الفيروس من الأراضي الإيرانية مرتعًا له، لينتشر بشكل مخيف في كل الأوساط الإيرانية، حتى أصاب عددا كبيرا من النخب في السلطة الحاكمة، كان آخرهم محمد مير محمدي عضو مجلس تشخيص مصلحة النظام، فضلًا عن عدد آخر من نواب البرلمان، فيما تحدثت الأرقام الرسمية عن ارتفاع معدل الإصابات والوفيات مؤخرًا لتصل إلى ما يزيد عن 20 ألف حالة بعد تشخيص 966 إصابة جديدة، فضلًا عن ما يزيد عن 1556 حالة وفاة طبقًا للمعدلات الرسمية، وحتى كتابة تلك السطور.
لكن الأزمة تكمن في كيفية تعاطي النظم الإيرانية على اختلافها مع تفشي تلك الأوبئة، قبل أن يعلن المرشد الأعلى “خامنئي” الثورة على كورونا بمزيد من الإنجاب.
والحقيقة أن فيروس كورونا لم يكن هو الوباء الوحيد الذي عانت منه إيران على مدار تاريخها، إذ انتشرت عدة أوبئة تعاملت معها السلطات الإيرانية باستخفاف شديد، تسبب هذا الاستخفاف واللا جدية في انتشارها وفتك تلك الأوبئة بعدد غير قليل من المواطنين.
يحاول العرض التالي إلقاء الضوء على تاريخ بعض ما أصاب إيران من أوبئة، وكيف تعاملت السلطات معها.
طاعون 1830
تفشى مرض الطاعون في إيران عام 1830، وبالتحديد خلال فترة حكم الدولة القاجارية، في عدد كبير من المدن الإيرانية، وبالتحديد في المدن المقدسة لدى الإيرانيين، وهي مشهد وقم، بالإضافة إلى تبريز، وانتقل منها إلى كل المدن الأخرى، وانتقل بعدها إلى الجار الإستراتيجي “العراق”، إلا أن السلطات الإيرانية وقتها لم تضع أية إجراءات وقائية أو طبية، بل ظلت تتعامل بأريحية مع الوضع فاستمرت حركة التجارة مع العراق.
ونجم عن هذا الوضع تفشى الوباء في كل المدن العراقية كذلك، كما كانت كل جثث رجال الدين من إيران يتم دفنها في النجف الأشرف، لدرجة أن حاكم العراق وقتها داوود باشا طلب فرض الحجر الصحي في عموم البلاد.
غير أن رجال الدين وقتها أفتوا بأن ذلك الإجراء مخالف للشريعة الإسلامية ومنعوا الحاكم من اتخاذ أي عمل لوقف تمدد الوباء، ولهذا كانت القوافل الواردة من إيران وكردستان تدخل إلى بغداد بكل حرية وتنشر المرض.[1]
كوليرا 1859 ـ 1904
ساهم تفشي وباء الكوليرا خلال عام 1859 في البنجال في انتقال العدوى بواسطة المسافرين والقوات العسكرية المتجهة إلى إيران والعراق وشبه الجزيرة العربية وروسيا، لكن إيران حازت على نصيب كبير من عدد الإصابات فضلًا عن تعداد الوفيات الذي وصل إلى أكثر من 60 ألف شخص.[2]
وتشير المراجع التاريخية إلى أن هذا العدد الكبير من الوفيات جاء نتيجة اعتبار رجال الدين أن الحجر الصحي أو العزل بمثابة “ذنب” يأثم عليه كل من منع نفسه من مغادرة منزله إلى الأماكن المقدسة أو للصلاة، وعليه زادت نسبة المصابين، حتى انتشرت الجثث في الشوارع.
وقد كان لوباء الكوليرا موجة أخرى في إيران، إذ تفشى للمرة الثانية في عام 1904، وذلك عقب عودة الحجاج الشيعة من العراق إلى إيران وكان من بينهم من أصيب بالكوليرا، ما تطلب إجراءات حاسمة.
لكن تلك الإجراءات لم تكن على قدر الحدث، فقد حاولت السلطات في ذلك الوقت إيقاف العدوى عن طريق قصر الحج على الأضرحة المقدسة، لكن رجال الدين والمعممين آنذاك، قاوموا هذه الجهود، واتهموا المسؤولين بتعزيز هدف “الكفار الغربيين” لمنع المؤمنين الشيعة من أداء واجباتهم الدينية، فلم يستطع رئيس الوزراء ولا حكومته في ذلك الوقت مقاومة المؤسسة الدينية، وتم السماح لقوافل الحجاج المصابين بتجاوز الحجر الصحي الحكومي، فانتشر المرض بشكل بالغ خلال تلك الفترة.[3]
الإنفلونزا الإسبانية 1919
تصادف حدوث فترة المجاعة الكبرى في إيران، في انتشار عدد من الأوبئة أبرزها ـ بجانب الكوليرا ـ ما أطلق عليه حينها “طاعون الرئة” أو الإنفلونزا الإسبانية، والتي انتشرت في عام 1919 وحصدت أرواح الآلاف من المواطنين، بالتزامن مع مواسم متتالية من الحصاد القليل للمحاصيل، وفي الإجمال مات بين عامي 1917 و1921 حوالي مليوني إيراني من سكان الحضر، بالإضافة إلى ربع سكان الريف الذين كانوا يقدرون بنحو 60 بالمئة من مجموع الشعب البالغ عدده 20 مليون نسمة.[4]
وقد انتشر وباء الإنفلونزا الإسبانية في عدة دول حول العالم حيث أصاب هذا الوباء 500 مليون شخص و قتل أكثر من 100 مليون من سكان المعمورة، ما جعله يتصدر قائمة أخطر الأوبئة التي عرفتها البشرية.[5]
الإيدز 2019
لم يكن غريبًا في ظل حالات الإهمال الطبي في إيران أن تنتشر أمراض وأوبئة كثيرة، لكن الغريب أن يستمر هذا الإهمال حتى وقت قريب، وخلال العام الماضي بالتحديد، حيث تسبب الإهمال والتلوث في إصابة عدد كبير جدًا من المواطنين بفيروس نقص المناعة المكتسبة “الإيدز”.
ففي أكتوبر من العام الماضي 2019، تفشى مرض “الإيدز” وسط مواطني قرية چنارمحمودي بمحافظة تشهار محال وبختياري، جنوب طهران، بسبب استخدام الأطباء حقن ملوثة، ما تسبب في إصابة أكثر من 300 طفل بالمرض، فضلًا عن تفشي المرض بين المواطنين.
وقتها أكد أهالي القرية أن الإصابات بالمرض تفشت بين عدد كبير من المواطنين، ما دفعهم لإحراق منشآت طبية تديرها وزارة الصحة، ورفضت السلطات الصحية المحلية الاعتراف بارتكاب أي خطأ، لكن جاءت تقديرات منظمة الصحة العالمية التي أكدت أن 61 ألف شخص يتعايشون مع الإيدز في إيران، في ظل وفاة 2600 شخص بسبب المرض بنسبة تزيد عن 8% عما كان عليه الحال في البلاد في 2010.[6]
بعيدًا عن حالات الإهمال الطبي الذي تسبب في نشر مرض الإيدز، أشارت إحصائيات منظمة الصحة العالمية، إلى أن 36% من المصابين الإيرانيين بالإيدز يعلمون بحقيقة إصابتهم، ويتلقى 20% فقط العلاج، بينما تعرض 17% من المرضى للقمع، فيما يزداد دوريا معدل المصابين بالإيدز بنحو 2000 مصاب جديد كل 3 أشهر.
وأكد تقرير صادر حديثاً عن مركز بحوث فيروس الإيدز في إيران، أن نسب الإصابة بين أوساط متعاطي المخدرات تصل لنحو 97% للذكور، و3% للإناث، في الوقت الذي ازدادت أعداد المصابات جراء الاتصال الجنسي بمقدار 10 أضعاف على مدار العامين الماضيين.[7]
خاتمة
ما ذكر خلال السطور الفائتة جزء مما تعرضت له بلاد فارس فيما يتعلق بتفشي الأوبئة، تعاملت معها السلطات بمنتهى الأريحية، فضلًا عن تصدي رجال الدين لكل الإجراءات الصحية التي من شأنها إيقاف الشعائر الدينية المختلفة، وغلق المراقد والمزارات الدينية الشيعية أمام مرتاديها، فرموا كل من يخضع للإجراءات الوقائية بالكفر، فضلًا عن فتاوى التأثيم، ما جعل السلطة في حرج شديد أمام سطوة رجال الدين، فاستمر المريدون على زيارات الأضرحة والمقامات، حتى تفشت فيهم الأوبئة والأمراض على اختلافها.
النهج نفسه في تصرف الحكومة الإيرانية ـ حاليًا ـ بالتزامن مع تفشي فيروس كورونا المستجد في إيران، فعكف النظام على دعوة الناخبين للنزول للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات التشريعية في ظل تفشي الفيروس بشكل لافت، ما جعل الأزمة تتخطى حاجز الكارثة، فضلًا عن الاتهامات التي تطلقها النخب الحاكمة ضد الولايات المتحدة الأمريكية، معتبرين أن تفشي الفيروس بمثابة حرب بيولوجية يجب على الإيرانيين أن يتصدوا لها، فيما لم تعترف الحكومة بفشل أي جهة من الجهات المسؤولة عن التصدي لذلك الوباء كما فعلت كل الحكومات حول العالم.
ــــــــــــــ
[1] عبد الله الرشيد، إيران والعراق.. تاريخ الأوبئة والجنائز المسافرة، مقال منشور بصحيفة عكاظ السعودية، 13 مارس 2020، https://bit.ly/33BOxwV
[2] Kaoru Sugihara, Peter G. Robb, Haruka Yanagisawa, Local Agrarian Societies in Colonial India: Japanese Perspectives, Great Britain, TJ press, 1996, p. 313.
[3] ميسون جحا، من كوليرا 1904 إلى كورونا 2020…هل يعيد التاريخ نفسه في إيران؟، تقرير منشور بصحيفة 24 الإماراتية، 4 مارس 2020 https://bit.ly/2U8F3Gx
[4] محمد محسن أبو النور، الأزمة الاقتصادية في فارس وتداعياتها على العلاقات الإيرانية ـ البريطانية، وقائع محاضرة بالجمعية المصرية للدراسات التاريخية، بتاريخ 11 مارس 2020، المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية https://bit.ly/2QyBpU2
[5] عبد الله قدري، من الطاعون والكوليرا حتى كورونا.. حكاية وباء كل 100 سنة، صدى البلد، 17 مارس 2020 https://www.elbalad.news/4218752
[6] سي إن إن، إيران.. اشتباكات في قرية أصيب أهلها بالإيدز وإشعال النار في مكتب مُمثل المرشد، 5 أكتوبر 2019، https://cnn.it/3a7LYp2
[7] سكاي نيوزعربية، “مظاهرات الإيدز” تجتاح جنوبي إيران، 6 أكتوبر 2019، https://bit.ly/2UunUGf