مع وتيرة التغيرات والتطورات في علاقات دول الشرق الأوسط، تحاول معظم دول المنطقة حل خلافاتها عبر الحوار، مثلما تتفاوض دولة الإمارات العربية المتحدة مع تركيا، لحل الخلافات وتوسيع التبادلات الاقتصادية بينهما، لذلك تبحث أبو ظبي عن طرقٍ للاتصال لتبادل البضائع بأقل تكلفة، ويبدو أن أفضل خيار أمامها هو الاستفادة من الأراضي الإيرانية؛ لأن استخدام تركيا لميناء بندر عباس، الواقع في محافظة هرمزجان جنوبي إيران، في مسألة وصول حاويات البضائع من مدينة الشارقة الإماراتية، ومن ثم نقلها إلى معبر “بازرجان – جوربولاغ” الحدودي الإيراني ــ التركي؛ سيخفض مدة الشحن إلى أسبوعٍ واحد بعدما كان يستغرق أكثر من 21 يومًا، لتتجاوز بذلك الممر الطويل لقناة السويس.
وقد تم بناء الجمرك الحدودي بين إيران وتركيا، عام 1926، وهي الحدود الدولية الوحيدة التي تعمل على مدار 24 ساعة بينهما، ويسمى هذا المعبر من الجانب الإيراني “بازرجان”، ومن الجانب التركي، يسمى حدود جوربولاغ.
جيوسياسية العلاقات التركية ــ الإماراتية ــ القطرية
شهدت العلاقات التركية ــ الإماراتية بعد توقف أكثر من ثمان سنوات، تحسنًا ملحوظًا وتغيرًا كليًا على كل الأصعدة السياسية والاقتصادية، لتتحول تلك الوتيرة إلى تعاون متسارع بين البلدين، ومع زيادة اللقاءات والاتفاقيات تتطلع الدولتان إلى توفير الوقت والتكلفة في التبادلات التجارية عن طريق اتفاقية النقل البري عبر إيران.
مع هذا، يبدو أن تركيا تتابع جيدًا مدى تأثير التوترات الإقليمية بين الإمارات وبين إيران على مشروع النقل البري، لاسيما وأنها حريصة على استمرار ارتفاع معدلات النمو التجاري والاستثماري مع دولة الإمارات، لكنها لا تتغاضى عن دور إيران في إكمال مساعيها الاقتصادية.
وقد نجح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في خلال زيارته إلى أبوظبي الشهر الماضي، في إبرام العديد من الاتفاقيات الاقتصادية مع الإمارات.
وتدرك تركيا جيدًا أهمية إيران الجغرافية بالنسبة لتجارتها مع دول المنطقة؛ لهذا تحرص على إشراكها في صفقاتها التجارية الإقليمية في محاولة منها لكسب الجانب الإيراني مقابل استغلال حدوده الجمركية معها، خاصة وأن معظم الوقت المستغرق في عمليات شحن البضائع من وإلى تركيا كان يُستنفد في التخليص الجمركي، فيصبح إجمالي الوقت المستغرق لنقل حاويات الشحن من إسطنبول إلى الإمارات مثلًا ما بين 25 – 28 يومًا عن طريق البحر، وعشرة أيام عن طريق البر.
بناءً على هذا، فإن تركيا الآن بصددّ التفاوض لتوقيع هذه الاتفاقية الثلاثية على هامش الزيارة المرتقبة للرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد إلى تركيا.
وقد سبق لتركيا الاستفادة من الطريق الإيراني لتكون أكثر قربًا من الدوحة، وذلك أعقاب أزمة الخليج، إذ استخدمت الحكومة القطرية الطريق البري بين تركيا وبين إيران، لتقلل آثار تلك الأزمة التي بدأت منتصف عام 2017، وأغلقت على إثرها المنطقة البرية الوحيدة بين الدوحة والسعودية، ما اضطر الحكومة القطرية إلى توفير خيار ملاحي إضافي للتغلب على أزمتها مع دول الخليج، فحولت الطريق التجاري من الطريق البري إلى طريق تركيا وإيران، ومن ثم من الطريق البحري إلى قطر.
كانت قطر تستورد أكثر من 44% من المواد الغذائية من السعودية والإمارات، ولكن مع إغلاق الحدود، تضاءلت تلك الكمية في الأسواق القطرية، ما دفع الدوحة للجوء إلى تركيا واختيار الطريق الإيراني من أجل تدارك العجز الغذائي.
هذا الطريق التجاري البري بين تركيا وقطر عبر إيران نجح في تقليل تكلفة شحن البضائع بنسبة 80% مقارنة بالنقل الجوي، وبحسب ناشط اقتصادي قطري، فإن تكلفة الشحن البري للكيلوجرام الواحد تتراوح بين 1.2- 1.5 دولار، بينما تبلغ تكلفة الشحن البري للكيلوجرام نحو 15 سنتا. علاوة على أن الخط التجاري الجديد يتميز بالاستقرار والموثوقية، وهو ما سيدفع إلى تزايد حجم التجارة بين تركيا وقطر.
تبعات الموقف الإسرائيلي
يحاول النظام الإسرائيلي في الوقت الراهن، إعاقة التوصل إلى اتفاق بين الأطراف الثلاثة، نظرًا لأن الاستفادة من الأراضي الإيرانية في نقل البضائع، إضافة إلى خفض التكلفة والوقت؛ سيؤدي إلى تشابك اقتصاد الدول المجاورة وزيادة الاعتماد على إيران. وهو ما يتعارض مع النهج الإسرائيلي الهادف إلى الحيلولة دون عقد أي اتفاقيات بين إيران ودول المنطقة خاصة دول مجلس التعاون الخليجي؛ لأن هذا كله سيحول دون اكتمال عمليات التطبيع في الوطن العربي.
لكن وفي طور المساعي التركية ــ الإسرائيلية لطوي صفحة الخلافات وعودة العلاقات، بدأت تركيا في تمهيد الطريق للاستغناء عن الطريق البري الإيراني كمحاولة إرضاء للجانب الإسرائيلي والإماراتي.
وقد بدا هذا في تصريح وزير الخارجية التركي يوم 31 ديسمبر 2021، في أن دولة الإمارات اقترحت على تركيا استعمال الطرق البرية للعراق كممرات عبور لها، لحين تنفيذ خط السكك الحديدية بين البصرة وبين تركيا، ما يظهر نية تركيا في الاستغناء عن الشراكة الإيرانية بمجرد إنشاء خط السكة الحديد الجديد في المستقبل.
بعض المحللين الإيرانيين عزوا تأثر تلك الخطوة إلى علاقة تركيا والإمارات مع النظام الإسرائيلي، إلى جانب حرص أنقرة على الحفاظ على علاقاتها بأبو ظبي وتل أبيب وتنحيها عن أي مؤثرات إقليمية بين إيران والإمارات من ناحية، وبين إيران وإسرائيل من ناحية أخرى.
لكن وبطبيعة الحال، فإن افتقار العراق إلى الأمن الكافي إذ ما قورن بالوضع الأمني في إيران، سيؤدي على الأرجح إلى التحييد عن ضغط تل أبيب. ولعل هذا إلى جانب ملفات أخرى، يؤكد حقيقة تورط إيران في الزعزعة الداخلية للعراق. أي إن إيران لا تبالي بإشعال الفتن في جاراتها العراقية طالما أنها بذلك تحفظ مصالحها.
ما وراء القلق المصري
مشروع الطريق التجاري الجديد بين أبوظبي وأنقرة وطهران ليس بالمشروع الأول من نوعه الذي يهدد أحد أهم شرايين الاقتصاد المصري ومصدر النقد الأجنبي الأساسي المتمثل في قناة السويس؛ لأنه سبق واتفقت أبوظبي مع تل أبيب على فتح خط الأنابيب الإسرائيلي الإيراني المؤسس قبل نحو نصف قرن؛ ليربط الخليج العربي بالبحر الأبيض المتوسط من أجل نقل نفط الخليج إلى أوروبا، ليصبح بذلك الممهد الأكثر فعالية وجاهزية لتعزيز التجارة بين إسرائيل ودول الخليج.
ولكن عقب الانهيار في خط الأنابيب سنة 2014 وتسرب أكثر من 1.3 مليون جالون من النفط الخام إلى محمية عين إيفرونا الطبيعية الصحراوية؛ حدثت أسوء كارثة بيئية في تاريخ إسرائيل ما أدى إلى توقيفه المؤقت. هذه المعلومات القليلة عن المشروع كشفتها مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية نتيجة المعارك القانونية في إسرائيل التي أعقبت التسريب النفطي.
كان المشروع معروفًا في أثناء حكم الشاه بشركة خط أنابيب إيلات ــ عسقلان كمشروع سري مشترك لإدارة تصدير النفط الخام الإيراني عبر الأراضي الإسرائيلية ومن ثم إلى أوروبا.
وعلى الرغم من أن حجم التبادل التجاري عبر طريق “أبوظبي ــ أنقرة ــ طهران” ضئيل للغاية، مقارنة بـ1.3 مليار طن من البضائع التي تمر عبر قناة السويس، إلا أنه سيعتبر تهديدا ماثلا للموقع الجيوسياسي والجيواقتصادي للقاهرة.
من أجل هذا، تسعى القاهرة إلى زيادة حصتها من تجارة البضائع العالمية من 12% إلى 18% بحلول عام 2030، ثم إلى 35% بحلول عام 2050م، وعليه سيتحتم على مصر بذل جهدها لسحب صديقتها القديمة الإمارات من هذا المشروع.
خاتمة
جملة ما أعلاه أن إيران تحاول أن تكون شريكًا استراتيجيًا لدول المنطقة، وذلك باستغلال بُعدّ موقعها الجغرافي، والذي يتميز بوقوعه وسط بقعة متمركزة في دول ومياه الخليج من جهة، وعازلًا حيويًا وحساسًا بين أفغانستان وبين باكستان، ونقطة اشتباك دولي وإقليمي في المنطقة من جهة أخرى.
فإيران سبق لها واستغلت تداعيات الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا وحيلولته دون استمرار مشروع ممرات الترانزيت بين روسيا وبين أوروبا “الجسر البري الأوراسي الجديد”، وتأثيره على الصين؛ لتفعيل مشروع الممر الشمالي الجنوبي لميناء تشابهار الإيراني في الخليج العربي وخليج عمان، والترويج له إعلاميًا.
تلك الخطوة منحت إيران مزيدًا من الفرص لتوسيع علاقاتها بدول وسط أسيا، ولاسيما دولة أوزباكستان التي تسعى إلى الانضمام إلى مشروع ممر “أفغانستان ــ إيران ــ الهند” في الوقت الحالي.
واليوم تستغل إيران زعزعة الأمن في العراق وقربها الحدودي مع تركيا لتكون شريكًا في الممر الجديد بينها وبين الإمارات؛ بهدف تعزيز مكانتها في التبادلات الدولية لتصبح منافسًا شرسًا للدول الصاعدة اقتصاديًا، ووسيلة للالتفاف على العقوبات الاقتصادية الأمريكية وتحقيق أكبر قدر من المنفعة بعد أن نالت تلك العقوبات من اقتصادها واستنزفت مواردها.