تُعَدّ التطورات المرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني والمفاوضات الدائرة حوله من أبرز الأحداث السياسية التي شهدتها إيران خلال العقدين الماضيين، وهي أحداث لم تؤثر فقط في المعادلات الأمنية في منطقة الشرق الأوسط، بل تحوّلت أيضًا إلى ساحة لاختبار كفاءة الدبلوماسية الإيرانية في النظام الدولي.
يمكن اعتبار الاتفاق النووي لعام 2015 أو «خطة العمل الشاملة المشتركة» (بالفارسية: برجام) نقطة تحوّل في هذا المسار؛ إذ كان من المأمول أن يفتح تطبيقه الكامل فصلًا جديدًا من التعاون والثقة المتبادلة بين إيران والقوى العالمية.
غير أن المسار الذي تلا توقيع الاتفاق أظهر وجود عقبات تتجاوز الجوانب الفنية والقانونية، ما جعل التزام الطرفين ببنوده أمرًا بالغ الصعوبة، فقد أدى انسحاب الولايات المتحدة الأحادي من الاتفاق عام 2018 وإعادة فرض العقوبات إلى خرق الالتزامات السابقة، وإلى زعزعة الثقة الهشة التي بُنيت خلال سنوات طويلة من المفاوضات.
ومنذ ذلك الحين، طُرح في الأوساط التحليلية ومراكز الفكر سؤال أساسي مفاده: هل تؤمن الولايات المتحدة حقًا بمنطق التعاون، أم أنها ما زالت تُعرّف سياستها الخارجية على أساس مبدأ توازن القوى والضغط؟ والأهم من ذلك، كان ثمة تأكيد على أن سياسة واشنطن تجاه إيران تتأثر بشدة بالاعتبارات الائتلافية والإقليمية، ولا سيما بتحالفها الإستراتيجي مع الاحتلال الإسرائيلي.
وفي الواقع، يُعدّ هذا الارتباط أحد العوائق الجدية أمام إزالة حالة العداء والاتجاه نحو تطبيع العلاقات بين طهران وواشنطن، إذ إن الحساسية البنيوية للولايات المتحدة تجاه أمن ومصالح إسرائيل تجعل أي تغيير في سياساتها، ليس فقط تجاه إيران بل تجاه المنطقة بأكملها، يمرّ عبر «فلتر» الحسابات والمصالح الإسرائيلية.
وفي الوقت ذاته، لا يمكن تجاهل دور اللاعبين الأوروبيين في هذه المعادلة؛ فالدول الأوروبية، وخاصة فرنسا وألمانيا وبريطانيا، تسعى من جهة إلى الحفاظ على إطار الاتفاق النووي ومنع نشوب أزمة نووية، لكنها من جهة أخرى، وبسبب تبعيتها الأمنية والاقتصادية للولايات المتحدة، وحساسيتها إزاء السلوك الإقليمي لإيران، لم تتمكن من تبني موقف مستقل ومتوازن. ومن وجهة نظر طهران، تُعدّ هذه الازدواجية الأوروبية دليلاً على تغلّب الحسابات السياسية على مبادئ الاتفاق.
كما لا يمكن تجاهل دور طهران المتعلقة بمحور المقاومة والمنطقة، بوصفها جزءًا لا يتجزأ من معادلات السياسة الخارجية الإيرانية.
وفي سياق المقارنة بين نهج إيران والولايات المتحدة تجاه بعضهما البعض، يمكن الإشارة إلى الفارق الجوهري بين المنطق الواقعي الذي تتبناه واشنطن، والمنهج المؤسسي الذي تميل إليه طهران.
فالولايات المتحدة، من منظور نظري في إطار العلاقات الدولية، تعمل وفق المنطق الواقعي، الذي يُعطي الأولوية للحفاظ على توازن القوى ودعم الحلفاء الإستراتيجيين على حساب السعي نحو تعاونٍ مستدام ومتعدد الأطراف.
هذا النهج يجعل واشنطن، حتى في أثناء الحديث عن العودة إلى الاتفاق النووي، تنحرف عن مسار التفاهم العادل لتتجه نحو مسارٍ تصادمي قائم على الشروط المسبقة خارج إطار الاتفاق، مع التركيز على السلوك الإقليمي لإيران.
ومن أبرز تجليات هذه السياسة، سعي الولايات المتحدة إلى توسيع نطاق المفاوضات من القضايا النووية إلى البرنامج الصاروخي الإيراني ونشاطاته الإقليمية، فهي لا تكتفي بالتأكيد على تنفيذ الالتزامات النووية، بل تحاول أيضًا إخضاع المجال الصاروخي ودور إيران في محور المقاومة لرقابتها وتحكمها؛ وهو مسار حوّل جوهر الاتفاق النووي من عقدٍ فني قائم على الالتزام المتبادل إلى أداةٍ مرحلية للضغط والاحتواء.
في المقابل، فإن النهج الذي اعتمدته إيران خلال مسار المفاوضات يقوم على مبادئ المدرسة المؤسسية في العلاقات الدولية، وهي النظرية التي تُبرز دور المؤسسات الدولية، وآليات التعاون، ومبدأ «بناء الثقة من خلال الالتزام».
من هذا المنظور، فإن احترام الاتفاق وتنفيذ التعهدات المتبادلة يمكن أن يؤدي إلى نشوء مستوى قوي من الثقة يساهم في تعزيز الاستقرار وقابلية التنبؤ في العلاقات الدولية.
ومع ذلك، فإن استمرار السياسات المزدوجة للولايات المتحدة يُظهر أنها لم تستطع حتى الآن تحقيق توازن بين منطق القوة ومنطق التعاون، وهو ما أدى إلى إعادة إنتاج حالة انعدام الثقة وإضعاف مصداقية الدبلوماسية كأداة لتسوية الخلافات.
في نهاية المطاف، طالما لم تتمكن واشنطن من تحقيق توازن بين مصالحها الوطنية، والتزاماتها الائتلافية تجاه إسرائيل، وحساسيات شركائها الأوروبيين، ولم تُحسن إدارة نطاق ضغوطها، فإن آفاق التوصل إلى اتفاق مستدام وإقامة علاقات طبيعية مع إيران ستظل محدودة.
إن الإحياء الحقيقي للدبلوماسية يتطلب مراجعة هذه السياسة المرحلية والتحرك نحو توازنٍ حقيقي للمصالح، وهو التغيير الذي يمكن أن يرفع الدبلوماسية من مستوى التكتيك إلى مستوى الإستراتيجية.
ــــــــــــــــــــــ
ترجمة مقالة بعنوان “بازخواني الگوي رفتار امريكا در قبال ايران” (بالعربية: إعادة قراءة النموذج السلوكي للولايات المتحدة تجاه إيران) نشر في صحيفة “اعتماد” بقلم مانيا شيرينبخش، بتاريخ: 19 آبان 1404 هـ. ش. الموافق 10 نوفمبر 2025م.
