يجب على إيران لكي تصبح مركزًا إقليميًا للأدوية أن تغيّر قواعد اللعبة لصالحها، ويجب أن تُبنى إستراتيجية إيران على ثلاث ركائز، للتحوّل من بائع للسلع إلى مهندس وضامن للأمن الصحي الإقليمي، وهي:
أـ سرعة العمل.
ب ـ الاستفادة من العقول الإيرانية.
ج ـ التماسك الإستراتيجي الإيجابي.
نظرة إيران إلى الأسواق الإقليمية
هناك خطوات إستراتيجية وتنفيذية محددة في هذا الاتجاه.
يجب أن يكون الاستثمار مستهدفًا ومبنيًا على الميزة النسبية والقفزة التكنولوجية. ففي المقام الأول ينبغي لإيران أن تركّز على إنتاج المواد الدوائية الخام المشتقة من البنزين والتولوين ومركّبات البوليمر، نظرًا لقدرتها على الوصول إلى المواد الخام الرخيصة لصناعة البتروكيماويات. كما أن هذا المجال هو نقطة القوة الكامنة لإيران مقارنة بمنافسين مثل الهند.
وفي المقام الثاني، يجب التوجّه نحو التحول الإستراتيجي إلى الأدوية الحيوية المماثلة، وهي التي تشبه إلى حد كبير الأدوية البيولوجية المعتمدة والأدوية النانوية، التي تبقى في الأعضاء المستهدفة لفترات طويلة بأقل آثار جانبية بدلًا من التنافس في إنتاج الأدوية البسيطة.
ويتم الاستثمار في الأدوية التكنولوجية الحيوية مثل الأجسام المضادة وحيدة النسيلة، لعلاج السرطانات، والتركيبات المتقدمة كالأدوية النانوية التي تخلق قيمة مضافة أعلى بكثير.
ونظرًا لأن إيران تمتلك بنية تحتية علمية قوية في هذا المجال، فإن هذه الخطوة يمكن أن تجعل بلدنا رائدًا في المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، يجب أن نخلق مزايا إستراتيجية غير قابلة للمنافسة. ومن بين هذه المزايا إنشاء ممر دوائي أخضر يعتمد على ميزة السرعة. وبينما ترسل الصين الدواء بعد عدة أسابيع، ويكون ذلك عادة عن طريق السفن، تستطيع إيران تسليمه إلى بغداد أو كابول بالشاحنات خلال 48 ساعة.
ينبغي إبرام اتفاقيات ثنائية لإنشاء خط جمركي خاص حتى تتمكن شحنات الأدوية الإيرانية من عبور الحدود دون توقف. وبعبارة أخرى، ينبغي لإيران أن تصبح بمثابة أمازون برايم الدوائي في المنطقة.
إن المحور الآخر في هذا المجال هو أن نصبح معالجين للأمراض المحلية، الأمر الذي يعتمد على ميزة الذكاء والتخصص الدوائي. وبدلًا من إنتاج كميات هائلة من الأدوية العامة والكيميائية للمنافسة مع الهند والصين، يتعين علينا أن نصبح متخصصين إقليميًا على أساس الملف الوبائي للمنطقة، إذ إن الاستثمار في إنتاج الأدوية ومعدات التشخيص للأمراض المتوطنة مثل الملاريا وحمى القرم والكونغو، والتي لا تشكّل في كثير من الأحيان أولوية للحكومات العالمية، من شأنه أن يحوّل إيران إلى مرجع لا مثيل له لجيرانها.
وفي نهاية المطاف، نحن بحاجة إلى تبنّي نموذج رعاية صحية شامل يخلق ميزة إستراتيجية عميقة. فلا ينبغي أبدًا الاكتفاء ببيع علبة من الحبوب، بل يجب تقديم حزمة تتضمن الدواء، وبرامج إدارة المرضى، والسجلات الصحية الإلكترونية، وبروتوكولات العلاج المحلية، وتدريب الطاقم الطبي، وأنظمة الصحة العامة معًا. فإن هذا النهج يربط العميل بالنظام الصحي الإيراني ويجعل من المكلف، وحتى المستحيل، على المنافسين استبدال بلدنا.
لتحقيق هذه الأهداف، من الضروري تحديث البنية التحتية بمنظور موجه نحو التصدير. ويتمثل المحور الأول في إنشاء مراكز متخصصة تعمل بمبدأ ممارسات التصنيع الجيد (GMP) من خلال إنشاء أو تطوير العديد من المناطق الصناعية الدوائية الموجهة للتصدير بأعلى معايير GMP، والتي تم تصميمها منذ البداية لتكون مناسبة للتفتيشات الدولية.
أما المحور الثاني، فهو الاستثمار في سلسلة التبريد. ومع أخذ السوق المستقبلية للمنتجات البيولوجية في الاعتبار، فإن إنشاء ممرات لوجستية باردة من مراكز التصنيع إلى الحدود الرئيسية يعد ميزة إستراتيجية يفتقر إليها منافس مثل الصين.
التعاون بين إيران وروسيا والهند
بالبحث حول نموذج التعاون التكنولوجي والاقتصادي المشترك الذي يمكن أن يتشكل بين إيران وروسيا والهند لإنتاج الأدوية، يمكن الإشارة إلى أن تشكيل التحالف الثلاثي ينبغي أن يرتكز على نموذج شبكة قيمة تكاملية ومترابطة لإنشاء سلسلة توريد متكاملة ومقاومة للعقوبات، وتستند إلى المزايا الإستراتيجية لكل عضو.
هذه أوركسترا متناغمة، وليست ثلاثة عازفين منفردين غير منسجمين. وهذا يتطلب تقسيم العمل بعناية في مثلث القوة الدوائية.
وفي هذا النموذج، تقع على عاتق الهند، باعتبارها مصنع الأدوية في العالم، مهمة إنتاج كميات كبيرة من الأدوية وفقًا للمعايير العالمية ونقل المعرفة لتحسين عمليات الإنتاج.
ومن ناحية أخرى، تقوم روسيا، استنادًا إلى مكانتها التاريخية في العلوم الأساسية والتكنولوجيا الحيوية، بمهمة البحث الأساسي، وتوفير الأفكار الدوائية المبتكرة، وتسهيل الوصول إلى سوق الاتحاد الأوراسي.
كما تقوم إيران بتزويد المصانع الدوائية الهندية بالمواد الوسيطة والمواد الخام اللازمة لها، بالاعتماد على البتروكيماويات الرخيصة.
وتزامنًا مع استلام إيران للأبحاث الأساسية من روسيا وتحويلها إلى منتجات ذات قيمة مضافة عالية مثل الأدوية الحيوية المماثلة والأدوية النانوية واللقاحات في مراكزها للتكنولوجيا الحيوية والنانوية، تعمل إيران بمثابة مفترق طرق إستراتيجي ومركز تصنيع وتسويق وتوزيع مشترك لجميع دول غربي أسيا.
وينبغي أن يأخذ هذا التعاون شكل اتحاد ثلاثي الأطراف يتمتع بشخصية قانونية مستقلة، وربما يتم تسجيله في منطقة التجارة الحرة.
إن الحل الاقتصادي لهذا النموذج هو تبادل ثلاثي الأبعاد بين الطب والطاقة والمعرفة. ويؤدي هذا النموذج إلى التخلص من الاعتماد على الدولار والنظام المصرفي الغربي.
فعلى سبيل المثال: تعمل الدورة على النحو التالي:
تصدر إيران المواد الوسيطة البتروكيماوية إلى الهند، وتستخدمها الهند لإنتاج الأدوية المتقدمة وترسلها إلى روسيا، وأخيرًا تنقل روسيا في المقابل المعرفة التقنية لمنصة التكنولوجيا الحيوية أو لقاح جديد إلى إيران.
إن هذه الدورة تخلق نظامًا بيئيًا اقتصاديًا تكنولوجيًا مغلقًا وفعالًا ومناهضًا للعقوبات، حيث تصبح القيمة بديلاً عن العملة.
إيران والاكتفاء الذاتي في صناعة الأدوية
إن سبل تحقيق الاكتفاء الذاتي المستدام في صناعة الأدوية برغم العقوبات ونقص التكنولوجيا، لا يمكن تحقيقها من خلال الاتصالات المؤقتة أو الطرق الالتفافية. وبدلًا من ذلك، ينبغي علينا، من خلال مناورات جريئة، أن نحوّل جدار العقوبات إلى سلّم للانطلاق.
ويتطلب هذا نهجًا ثلاثي الأبعاد وذكيًا يعمل على تفعيل التكنولوجيا المحلية، والذراع الدولية للتعاون الخارجي، والقلب الاقتصادي للأمن المالي بطريقة منسقة.
إن الطريق الأول هو تطوير التكنولوجيا المحلية والسعي وراء المعرفة. ويتم تحقيق ذلك من خلال الهندسة العكسية الذكية، وهو ما يعني التركيز على الأدوية التي انتهت صلاحية براءات اختراعها مؤخرًا والتي يتطلب إنتاجها تعقيدًا تكنولوجيًا كبيرًا.
علاوة على ذلك، يتعين تنفيذ مناورة الهجرة العكسية، وبدلًا من المطالبة بعودة النخب بشكل دائم، يتم توظيفهم أو استئجارهم لمشاريع محددة، بحيث يُعرض على عالم إيراني بارز في الخارج مضاعفة راتبه السنوي لمدة ستة أشهر مع خروج محدد، فقط من أجل إطلاق خط إنتاج عالي التقنية وتدريب الفريق الداخلي.
فيأتي، ثم ينقل المعرفة التقنية الضمنية، ثم يعود، وبهذه الطريقة، أصبحنا نبحث عن المعرفة بدلًا من الفرد.
الطريق الثاني هو التعاون العلمي، أو ما يسمى بالدبلوماسية العلمية الفعالة. ويتعين التركيز على نقل المعرفة. وبدلًا من الاتفاقيات العامة، يجب تحديد مختبر بعينه في الصين أو الهند متخصص في تقنية رئيسية وإرسال فرق صغيرة ومحددة من الباحثين لتعلّم تلك التقنية المحددة.
هذه عملية مستهدفة لاكتساب المهارات الحرجة. كما أن استقطاب باحثين ما بعد الدكتوراة والأساتذة الزائرين من خلال توفير منح جذابة للباحثين المتميزين من الدول المجاورة أو الصديقة مثل روسيا والهند والبرازيل يضخ المعرفة التقنية بشكل مباشر وهادف إلى البلاد.
إن المسار الثالث المقترح هو تفعيل النظام البيئي المحلي من خلال إستراتيجيات اقتصادية خاصة. وعلى رأس هذه الجهود ضمان المشتريات الحكومية الإستراتيجية. بحيث يجب على الحكومة أن تضمن شراء المواد الاستهلاكية عالية التقنية لمدة خمس سنوات من أول شركة قائمة على المعرفة تحصل على التكنولوجيا اللازمة لإنتاجها، حتى لو كان السعر الأولي أعلى.
إن هذا الضمان يقضي على أكبر خطر يواجه القطاع الخاص الإيراني، وهو افتقاره للسوق، ويخلق طابورًا من المستثمرين لدخول هذا المجال.
بالإضافة إلى ذلك، فإن صندوق الأسهم التحفيزية للنخبة هو إستراتيجية أخرى.
حيث تقوم شركات الأدوية الكبرى، بدعم من الحكومة، بتخصيص جزء من أسهمها لهذا الصندوق ليُمنح كمكافأة للنخب التي تحقق مشاريع وطنية إلى منتج، ويربط هذا النموذج مصالح النخبة طويلة الأجل بنجاح الصناعة المحلية، ويخلق حافزًا قويًا لمكافحة هجرة العقول.
ـــــــــــــــــــــ
مقابلة مترجمة مع الدكتور كيانوش جهانپور، الخبير الإيراني في قطاع الصحة والطب، والمتحدث الأسبق باسم منظمة الغذاء والدواء: بعنوان: “فرصت راهبردی ایران برای تبدیل شدن به قطب دارویی غرب آسیا” (بالعربية: فرصة إيران الإستراتيجية لتصبح مركزًا للصناعات الدوائية في غربي آسيا)، منشورة في موقع “شورای راهبردی روابط خارجی” (بالعربية: المجلس الإستراتيجي للعلاقات الخارجية) بتاريخ 17 آبان 1404 هـ.ش، الموافق 8 نوفمبر 2025م.
