يمكن اعتبار نمط صنع القرار لدى دونالد ترامب علامة على عدم الاستقرار وغياب القدرة على التنبؤ في السياسة الخارجية الأمريكية، أكثر من كونه فرصة سانحة لإيران، وهو وضع يُعد على المستوى الكلي تهديدا محتملا للأمن القومي الإيراني.
كانت أجهزة الاستخبارات الأمريكية أحد الأطراف الفاعلة داخل الحكومة الفيدرالية التي شعرت بالقلق من عودة ترامب إلى البيت الأبيض، فبحسب شبكة “سي إن إن”، يخشى جزء من مجتمع الاستخبارات الأمريكي من أن يشن ترامب، لأهداف سياسية، حربا ضد “الأعراف البيروقراطية”.
وبالرغم من أن ترامب قد خفف من هذه المخاوف بتعيينه جون راتكليف – الذي يتمتع بسجل مهني – رئيسا لوكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، إلا أن اختياره لكاش باتيل، وهو شخص يفتقر إلى الخبرة في هذا المجال، لرئاسة مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) يظهر أن المهنية والابتعاد عن التسييس في مجتمع الاستخبارات لا تزالان عرضة للخطر.
إن تأكيد ترامب على الولاء بدلا من الكفاءة، وتجاهله للتقارير الفنية، واتخاذه القرارات بناء على تكهناته الشخصية قد أضر بالعلاقات بين الرئيس وبين هذه المؤسسات، وعلاوة على ذلك، كان لهذا التجاهل ولا يزال مخاطر متعددة على إيران.
الصدام بين ترامب ومخابراته
دخل ترامب في صدام مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية منذ الأشهر الأولى لولايته الرئاسية الأولى، فخلال تحقيقات مكتب التحقيقات الفيدرالي حول التدخل الروسي في انتخابات عام 2016 وعلاقة حملة ترامب بروسيا، حاول ترامب إجبار جيمس كومي، مدير المكتب آنذاك الذي عُيّن في عهد باراك أوباما، على وقف التحقيقات، حتى إنه طلب من كومي “الولاء” خلال حفل عشاء خاص.
في النهاية، أدت متابعة جيمس كومي الحثيثة للقضية إلى عزله، وهنا يمكن القول إن قضية “التدخل الروسي” لعبت دورا كبيرا في نظرة دونالد ترامب السلبية تجاه أجهزة الاستخبارات الأمريكية.
ولقد كانت المواجهة مع مكتب التحقيقات الفيدرالي مرتبطة أكثر بمصالح ترامب الشخصية وتهديد بقائه السياسي، لكن المشكلة التي يواجهها مجتمع الاستخبارات مع ترامب تتجاوز هذا الأمر وتعود إلى طريقته في ممارسة السياسة.
ترامب يعتمد على غريزته لا على المخابرات
يعتمد الرئيس ترامب في الغالب على غريزته، وبالتالي لا يتخذ قراراته بناءً على تحليلات مستندة إلى الأدلة والحقائق، التي ترد إليه من أجهزة الاستخبارات، وسواء في ولايته الأولى أو الحالية، نُشرت تقارير عديدة تفيد بأن ترامب لا يرغب في حضور جلسات الإحاطة الأمنية.
ومن الطبيعي أن يكون لدى الرئيس رؤية كلية للعلاقات الدولية تستند إلى افتراضاته الشخصية، لكن أن يتصرف في الممارسة والتنفيذ بناء على المشاعر والغرائز، فهذا يمكن أن يكون خطيرا على السياسة الخارجية الأمريكية.
والأهم من ذلك، وكما كان الحال مع جيمس كومي، أن ترامب يولي أهمية للولاء أكثر من أي شيء آخر، ولقد أدرك راتكليف، بعد أن رأى ما حلّ برؤساء وكالة الاستخبارات المركزية السابقين في ولاية ترامب الأولى، أنه يجب عليه مواءمة سلوكه مع ترامب ورغباته.
ولهذا السبب، رحب بإيلون ماسك، وزير الكفاءة الحكومية السابق، وبحسب بعض التقارير، لم يعارض خططه كثيرا، وصرح جيمس كلابر، المدير السابق للاستخبارات الوطنية، في عام 2019 بعد اختيار راتكليف للمنصب نفسه، بأنه “من الواضح أن الرئيس يريد شخصا في هذا المنصب تكون أولويته الأولى هي الولاء لدونالد ترامب”.
التكنوقراط في مواجهة السياسيين
على الرغم من أن العمل الأمني والاستخباراتي يلعب دورا أساسيا في صنع القرار السياسي، إلا أنه لا ينبغي أن ننسى أنه في النهاية نشاط فني وتقني بطبيعته، فإذا أرادت وكالة استخباراتية تقديم تقييم للبيئة الأمنية، وتحركات الأطراف الأخرى، وقدراتها، فمن الضروري أن تعتمد بشكل كامل على الأدلة والبراهين الموضوعية والموثوقة.
هنا تنشأ المشكلة عندما يتعارض هذا التقييم الفني مع خطط وقرارات السياسيين، كما أن تجاهل صانعي القرار لهذه التقييمات يمكن أن يؤدي إلى كوارث كبرى، فعلى سبيل المثال: عندما صرح كبار مسؤولي الاستخبارات في إدارة بوش بأن الأدلة المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل في العراق غامضة وغير قابلة للإثبات، اعتبر أعضاء الإدارة هذا التقييم غير كاف وشنوا حرب العراق.
إن عدم اهتمام ترامب بالتقارير الفنية المتعلقة بإيران هو أمر ملموس للغاية، ففي إحدى المرات، ردا على تقرير تقييم التهديد الوطني لعام 2019، أعلن صراحة أن أفراد مجتمع الاستخبارات “سلبيون وساذجون” فيما يتعلق بالتهديد الإيراني.
ترامب واستخباراته وإيران
كانت علاقة ترامب متوترة مع جيم ماتيس، أول وزير دفاع في ولايته الأولى، لأن ماتيس رفض تقديم تقرير يفيد بأن إيران قد انتهكت التزاماتها بموجب الاتفاق النووي، وقد تمت إقالة ريكس تيلرسون، وزير الخارجية آنذاك، للسبب نفسه.
قد لا يلحق مثل هذا السلوك من جانب ترامب ضررا كبيرا بالولايات المتحدة فيما يتعلق بإيران، خاصة وأن إيران بعد فترة من الزمن تخلت تدريجيا بالفعل عن التزاماتها بموجب الاتفاق النووي ولم تتجه نحو صنع سلاح نووي؛ لكن تبني نهج مماثل تجاه دول مثل الصين وروسيا قد تكون له عواقب وخيمة على أمريكا.
فقد وصف ترامب مرارا تقارير وكالة الاستخبارات المركزية حول الهجمات السيبرانية الروسية على أمريكا أو دفع أموال للمقاتلين الأفغان لمهاجمة القوات الأمريكية بأنها خاطئة ومضللة، وقال إن وسائل الإعلام الأمريكية تمتنع عن الحديث عن الصين في هذا الموضوع وتتحدث فقط عن روسيا.
بعيدا عن تجاهل ترامب للتقارير الفنية للتكنوقراط، فإن هناك خطرا يواجه المنظمات الاستخباراتية يتمثل في تحولها إلى أدوات في أيدي السياسيين لاستهداف منافسيهم، فترامب، الذي يصور نفسه كضحية لتسييس المؤسسات الاستخباراتية والقضائية، أظهر مؤخرا أنه هو نفسه لديه النية للقيام بذلك.
فبعد اتهام جيمس كومي بتسريب معلومات سرية، شن ترامب هجمات متعددة عليه عبر شبكته الاجتماعية (Truth Social) وأشاد بكاش باتيل.
موظفو الاستخبارات وحملات ترامب الأيديولوجية
على الرغم من عدم ورود أي تقارير حتى الآن عن عمليات تطهير لموظفي الأجهزة الاستخباراتية على أساس الانقسامات الأيديولوجية بين اليسار واليمين، أو دعم أيديولوجية “الوعي” من عدمه، إلا أنه لا يمكن تجاهل احتمال أن تكون هذه المؤسسات هدفا لمثل هذه السياسة.
وبالنظر إلى إجراءات بيت هيغسيث، وزير الدفاع في الإدارة الحالية، يمكن استنتاج أن هذا الاحتمال ليس مستبعدا على الإطلاق فيما يتعلق بمجتمع الاستخبارات.
أعلن هيغسيث مرارا منذ البداية أن الموظفين الذين تم توظيفهم بناء على برامج التنوع والإنصاف والشمول (DEI) أو دعم مجتمع الميم (LGBTQ) لا مكان لهم في وزارة الدفاع الأمريكية.
ويمكن افتراض أن هذا الأمر قد ينطبق أيضا على موظفي وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي الذين اختار رؤساؤهم الولاء.
وقد قال مايك بومبيو، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية، بخصوص توظيف وتقييم موظفي الاستخبارات: “لا يمكننا تعريض أمننا القومي للخطر لمجرد إرضاء أجندة ليبرالية وواعية”.
التداعيات على إيران
إن تجاهل الرئيس الأمريكي للتحليلات والتقارير الفنية للأجهزة الاستخباراتية يمكن أن يعرض إيران لمخاطر كبيرة، على الرغم من إمكانية تصور بعض المزايا قصيرة المدى، وقد كان الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية في شهر يونيو 2025م، مثالا صارخا على ذلك.
قبل تنفيذ عملية “مطرقة منتصف الليل”، أعلنت تولسي جابارد، مديرة الاستخبارات الوطنية في الإدارة الحالية، أن إيران لم تتخذ حتى الآن أي إجراء لإنتاج سلاح نووي، وخلص تقرير تقييم التهديدات السنوي إلى نتيجة مماثلة.
ومع ذلك، عارض ترامب صراحة تقييم جابارد وقال إن إيران قريبة جدا من صنع سلاح نووي، وبعد ذلك، تم قصف المنشآت النووية الإيرانية.
وبعد انتهاء العملية، نشرت تقييمات مختلفة حول حجم الأضرار التي لحقت بالمنشآت، كان أولها تقرير وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية الذي أفاد بأن الهجمات لم تؤخر البرنامج النووي الإيراني سوى بضعة أشهر.
تناقض التقارير الاستخباراتية حول إيران
في غضون ما سبق أظهرت تقارير أخرى أنه تم تدمير موقع نووي واحد فقط بالكامل، ومع ذلك، هاجم ترامب جميع وسائل الإعلام التي نشرت مثل هذه التقارير، مؤكدا أنه تمكن من “محو” البرنامج النووي الإيراني بالكامل، وقد تزامن تأكيد ترامب مع تصريحات لجابارد وراتكليف أيدت ادعاءه.
إن تأييد جابارد لكلام ترامب بهذه الطريقة أظهر أنها أدركت كيف تحافظ على منصبها في إدارته، فبحسب مجلة “ذا أتلانتيك”، تم تهميش جابارد في إدارة ترامب بعد حديثها الأخير عن صنع سلاح نووي.
ربما لهذا السبب قررت أن تقرب نفسها من التيار الرئيسي الموالي لترامب، وبالطبع، يعد مصير جابارد مثالا جيدا على كيف يمكن لمسؤول استخباراتي أن يحدد مصيره من خلال تقديم تقييم فني قريب من وجهة نظر الرئيس، فمنذ الهجمات على المنشآت النووية الإيرانية، تضاءل حضور جابارد في إدارة ترامب بشكل كبير.
نهج ترامب في العامل مع إيران
أدى نهج ترامب أولا إلى الهجوم على المنشآت النووية، لكن تأكيده على “محو” البرنامج النووي يمنح إيران فرصة، وإن كانت قصيرة، لتبني سياسة الغموض النووي في بيئة آمنة، فهل يؤمن ترامب بما يقوله أم أنه يصرح به فقط للحفاظ على مصداقيته؟!
إن تجربة أربع سنوات ونصف من رئاسة ترامب وعلاقته السيئة مع الأجهزة الاستخباراتية ترجح الاحتمال الأول، وهذا يمكن أن يكون فرصة أخرى لإيران، فإذا كان ترامب يعتقد أنه تمكن من تدمير البرنامج النووي الإيراني، فمن المحتمل ألا يلجأ إلى مهاجمته مرة أخرى على المدى القصير.
ومع ذلك، لا ينبغي أن ننسى أن التجربة التي اكتسبتها إيران مع ترامب في هذا الصدد كانت سلبية في الغالب، وقراراته تجاه إيران في ولايته الأولى تؤكد ذلك جيدا.
فعندما يتضاءل دور التقييمات الفنية الاستخباراتية، ستؤثر الجماعات السياسية وأصحاب النفوذ الذين يحملون وجهات نظر معادية لإيران على قرارات ترامب.
خاتمة
يظهر تحليل نمط سلوك ترامب تجاه أجهزة الاستخبارات الأمريكية أنه، بصفته رئيسا، لا يعطي الأولوية للاعتماد على البيانات والتحليلات الفنية، بل للولاء السياسي وتصوراته الشخصية، وقد أدى هذا النهج إلى تجاهل تقارير الخبراء من الأجهزة الاستخباراتية أو قبولها فقط عندما تتوافق مع افتراضاته المسبقة.
وكانت النتيجة المباشرة لمثل هذا التعامل تجاه إيران هي الهجوم على منشآتها النووية، وفي الوقت نفسه، خلق مساحة قصيرة المدى لمواصلة سياسة الغموض النووي، ومن هنا، يمكن القول إن ابتعاد ترامب عن مجتمع الاستخبارات يحمل طابعا مزدوجا: فمن ناحية، يوفر فرصا تكتيكية لإيران، ومن ناحية أخرى، يحمل في طياته مخاطر إستراتيجية خطيرة على أمنها القومي.
ومع ذلك، تُظهر التجربة العملية لسياسات ترامب أن مثل هذه الفرص ليست مستدامة أو يمكن الاعتماد عليها، فعلى الرغم من أن تجاهله لتقييمات الخبراء قد خفف الضغوط على إيران في بعض الحالات أو خلق وقتا محدودا للمناورة الدبلوماسية، إلا أن قراراته الانفعالية وغير الموثقة أدت في النهاية إلى فرض تكاليف باهظة.
وبناء على ذلك، يمكن اعتبار نمط صنع القرار لدى ترامب علامة على عدم الاستقرار وغياب القدرة على التنبؤ في السياسة الخارجية الأمريكية، أكثر من كونه فرصة سانحة لإيران، وهو وضع يُعد على المستوى الكلي تهديدا فعليا للأمن القومي الإيراني.
ــــــــــــــــــ
مقالة مترجمة للكاتب: عرفان علمشاهي، في انديشكده تهران (بالعربية: معهد طهران)، بعنوان: “كم توجهي ترامپ به جامعه اطلاعاتی امریکا وپیامدها برای ایران”، (بالعربیة: تجاهل ترامب لمجتمع الاستخبارات الأمريكي وتداعياته على إيران). یوم ١٤ مهر ١٤٠٤ هـ. ش. الموافق ۱ أكتوبر 2025م.
