لا يمكن اعتبار أن الأزمة الحالية في أوروبا أزمة اقتصادية فحسب، بل هي أزمة نظامٍ بالأساس، أي إنّ أوروبا عالقة بين نظامين عالميين: الأول هو النظام النيوليبرالي الأمريكي، القائم على تحرير التجارة، والتمويل، وهيمنة الدولار، والثاني هو النظام الصيني الصاعد، الذي تلعب فيه الدولة والحزب الشيوعي دور المنظِّم الكليّ للسوق.
أوروبا بين سندان أمريكا ومطرقة الصين
في الأسبوع الذي التقى فيه، شي جين بينج ودونالد ترامب في بكين، وتشاورا حول إعادة تنظيم علاقاتهما الاقتصادية والأمنية وذلك بعد عامين من الصمت السياسي بينهما، كان الرؤساء الأوروبيون في بروكسل منشغلين بـجدالٍ متكرر، وهو: كيف يمكن تحقيق توازنٍ بين المحاور الثلاثة وهي:
1ــ الاعتماد الاقتصادي على الصين.
2ــ التحالف الأمني مع الولايات المتحدة.
3ــ حلم الاستقلال الإستراتيجي.
قد يبدو هذا السؤال في ظاهره سؤالًا فنيًا ودبلوماسيًا، لكنه في الحقيقة يعبر عن أزمة أعمق تستهدف جوهر السياسة الخارجية الأوروبية.
وهي نفس الأزمة التي يشير إليها علم الاقتصاد السياسي الدولي باسم “الاعتماد المتبادل غير المتكافئ”، وهي حالةٌ تكون فيها أوروبا معتمدةً من أجل بقائها على فاعلين آخرين هم الذين يضعون قواعد اللعبة.
فخلال العقدين الأخيرين، تحوّلت الصين من كونها مصنع العالم إلى المهندس الجديد للنظام الاقتصادي العالمي، فأصبحت الشركات الأوروبية ــ بدءًا من شركات صناعة السيارات إلى الطاقة الخضراء ــ تعتمد على السوق الصينية، في حين أن بكين، من خلال سياساتها الصناعية الواسعة التي تشمل الدعم الحكومي والتحكم في سلاسل التوريد، قامت فعليًا بإعادة كتابة قواعد المنافسة لصالحها.
من وجهة نظر الاقتصاد السياسي، يمكن وصف علاقة أوروبا بالصين بأنها تجسيدٌ لما يُعرف بـ “النظام الرأسمالي المزدوج”.
فعلى جانبٍ، هناك الرأسمالية النيوليبرالية الأوروبية القائمة على الشفافية والسوق الحرة والحدّ من تدخل الدولة، وعلى الجانب الآخر، الرأسمالية الحكومية الصينية التي تقوم على التخطيط المركزي والملكية العامة والتحكم في التكنولوجيا العالمية.
لقد تجاهل الاتحاد الأوروبي هذا التباين لسنوات طويلة، وكان يُشير إلى الصين باعتبارها “شريكًا اقتصاديًا إستراتيجيا”، لكنّ التقارير الرسمية في بروكسل تصف الصين اليوم بأنها ليست مجرد شريك، بل منافسٌ منهجيّ، وهي عبارةٌ تُظهر بوضوح أن اللعبة تحوّلت من التعاون إلى المنافسة الحقيقية.
أوروبا على هامش المحادثات الكبرى
إنّ اللقاء الأخير بين دونالد ترامب وشي جين بينج حمل رسالةً سياسية واضحة: لقد عاد العالم الثنائي القطب، ولكن من دون أي مركزيةٍ لأوروبا.
وقد تناول هذا اللقاء، الذي عُقد بعد أشهرٍ من التوترات في مجالي التجارة والتكنولوجيا، محاور أساسية مثل الرسوم الجمركية، والوصول إلى تكنولوجيا أشباه الموصلات، وتنظيم العلاقات العسكرية في المحيط الهادئ، وهي قضايا يدرك الطرفان أنها ستحدد مستقبل النظام العالمي.
وفي الوقت الذي كانت فيه واشنطن وبكين تتفاوضان حول تقسيم مناطق النفوذ الاقتصادي، كانت أوروبا تكتفي بالمراقبة.
ولعل هامشية أوروبا في هذا المشهد ليست رمزية فحسب، بل تُجسّد تراجع الوزن الاقتصادي والسياسي الحقيقي للقارة العجوز داخل هيكل القوة العالمية.
لقد كان الاتحاد الأوروبي يومًا ما يدّعي امتلاك “قوة معيارية”، أما اليوم فهو يتحوّل تدريجيًا إلى “قوة قابلة للتكيّف”، أي فاعلٍ لم يعُد يضع القواعد بعد الآن، بل يُجبر على التكيّف مع القواعد التي يكتبها الآخرون.
وفي إطار النظرية العالمية للاقتصاد السياسي، تُعَدّ أوروبا نموذجًا لما يُعرف بــ”الاعتماد المتبادل غير المتكافئ”؛ إذ تعتمد أوروبا على الصين في مجالات التصدير والتكنولوجيا الحديثة والمواد الخام، لكنها لا تمتلك أدوات مماثلة تمكّنها من ممارسة ضغطٍ فعال مقابل ذلك.
إذا أوقفت الصين تصدير البطاريات أو المعادن النادرة، فإن صناعة السيارات الألمانية والفرنسية ستتوقف خلال أسابيع قليلة، بينما لو فرضت أوروبا قيودًا على تصدير السيارات الفاخرة، فإنّ الصين ببساطة ستكتفي بالاعتماد على إنتاجها المحلي.
هذا الاختلال في التوازن جعل السياسة الصناعية الأوروبية تميل إلى أن تكون ردّ فعلٍ أكثر من كونها تملك زمام الأمور، فالمبادرات مثل الحزم الخضراء، والرسوم الحمائية المحدودة، وسياسة تقليل المخاطر التي طُرحت منذ عام 2023م، تبدو في ظاهرها خطواتٍ ابتكارية، لكنها في الحقيقة اعترافٌ بالضعف البنيوي لأوروبا في توجيه علاقات القوة.
ومن منظور عالِمي الاقتصاد السياسي، (خاصة أطروحات سوزان سترينج وروبرت كوكس على سبيل المثال)، فإن أزمة أوروبا الحالية ليست أزمةً اقتصاديةً فحسب، بل أزمةُ نظامٍ عالمي.
فأوروبا عالقة بين نظامين عالميين:
ــ الأول: النظام النيوليبرالي الأمريكي، القائم على تحرير التجارة والتمويل وهيمنة الدولار.
ــ الثاني: النظام الصيني الصاعد، الذي تقوم فيه الدولة والحزب الشيوعي بدور المنظِّم الكلي للسوق.
وفي ظلّ هذا الوضع الوسيط والضعف البنيوي، لا يمتلك الاتحاد الأوروبي القدرة على التحرر من المظلّة الأمنية الأمريكية، ولا الجرأة على الدخول في شراكةٍ حقيقية مع الصين.
ولهذا تحوّلت السياسة الخارجية الأوروبية عمليًا إلى مجموعة من البيانات الأخلاقية من شعار “الاستقلال الإستراتيجي” إلى مفهوم “النظام القائم على القواعد”، لكنها شعارات تفتقر إلى القوة التنفيذية في الواقع العملي للاقتصاد العالمي.
والمفارقة هنا أن أوروبا ما زالت ترى نفسها قوةً قائمة على القيم، غير أنّ القيم لا تكون فعّالة ما دامت لا تكلّف ثمنًا.
فعندما تُصدر بروكسل بياناتٍ عن حقوق الإنسان في الصين، تكون الشركات الألمانية في شنجهاي منهمكةً في توسيع مصانعها؛ وحين تتحدث عن السيادة الرقمية، تكون 60% من بنيتها التكنولوجية معتمدة على مكوّناتٍ مصنوعة في الصين.
وهذا التناقض ليس أخلاقيًا فحسب، بل بنيويًا أيضا.
فالنظام الاقتصادي الأوروبي في مرحلة ما بعد الصناعة يقوم على سلاسل التوريد العالمية وتقسيم العمل الدولي؛ وكسر هذه السلاسل يعني انهيار جزءٍ من الرفاهية الأوروبية.
في الوقت الذي تنتقد فيه أوروبا الصين بسبب سياساتها الصناعية الحكومية وتلاعبها بالسوق، فإنها تستمد الإلهام من هذه السياسات نفسها.
لتوضيح ما سبق يمكن القول إن برامج مثل «صناعة 2030» في ألمانيا ومبادرة السيادة التكنولوجية الأوروبية ليست سوى استجابات للنموذج الصيني، غير أن الفارق الجوهري يكمن في القدرة على التنفيذ، فبينما تمتلك الصين نظامًا مركزيًا واستثماراتٍ حكومية ضخمة تُمكّنها من السيطرة على سلسلة متكاملة من الإنتاج والبحث والتصدير، يظلّ الاتحاد الأوروبي موزعًا بين دولٍ ذات مصالح متضاربة.
وتُظهر دراسات الاقتصاد السياسي الدولي أن القوة الاقتصادية في عالم اليوم لا تنبع من السوق الحرة، بل من التكامل بين الدولة والصناعة، وهو النموذج الذي تُجيده الصين، في حين ما تزال أوروبا تتردد في الاعتراف الصريح به.
التهميش الإستراتيجي في عالمٍ متعدد الأقطاب
إنّ النظام العالمي يمرّ بمرحلة تحوّلٍ نحو هيكلٍ متعدد الأقطاب، غير أنّ أوروبا ــ بخلاف الصين وأمريكا ــ غير مستعدةٍ لهذا التحوّل.
فالصين، من خلال مبادرة الحزام والطريق، استطاعت أن تجذب إفريقيا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط إلى مدار نفوذها، بينما قامت أمريكا بإعادة بناء نفوذها عبر تحالفاتها الاقتصادية والأمنية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، أمّا أوروبا، فقد ظلّت منشغلة بـصراعاتها الداخلية والخلافات بين الدول الأعضاء.
بل إنّ السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي باتت في معظم الأحيان تابعةً لقرارات واشنطن أكثر من كونها نتاجًا لإرادةٍ أوروبيةٍ جماعية.
فعلى سبيل المثال: خلال أزمة أوكرانيا، تحرك الاتحاد الأوروبي عمليًا ضمن المحور الأمريكي، الأمر الذي جعل بكين تنظر إليه على أنه لم يعد فاعلًا مستقلاً.
ومن هذا المنطلق، بدأت الصين في إدارة محادثاتها الإستراتيجية مباشرةً مع واشنطن، وهو ما جسّده اللقاء الأخير بين شي جين بينج وترامب.
وبالنسبة إلى أمريكا، تبقى أوروبا حليفًا إستراتيجيًا ثانويًا، أما بالنسبة إلى الصين، فهي سوق ضخمة، ولكنها تفتقر إلى قدرةٍ مستقلةٍ على اتخاذ القرار.
وفي إطار نظرية الاقتصاد السياسي الهيمني، تمثل هذه الحالة نوعًا من الاعتماد الثلاثي، حيث تعتمد أوروبا على:
ــ الولايات المتحدة في الأمن.
ــ الصين في التكنولوجيا.
ــ السوق العالمية في النمو الاقتصادي.
وذلك كله من دون أن تملك السيطرة على أيٍّ من هذه المجالات الثلاثة.
وبعبارةٍ أخرى، أصبحت أوروبا في النظام العالمي الراهن مستهلكةً للقوة، لا منتجةً لها.
من وجهة نظر الاقتصاد السياسي الدولي، تقف أوروبا على عتبة فقدان قدرتها البنيوية؛ تلك القوة التي كانت تستمدها سابقًا من قدرتها على وضع المعايير وقواعد التجارة والأنظمة الدولية، لكنّها اليوم تتآكل أمام النُظم الشرقية البديلة.
إنّ الصين تُنشئ في الوقت الراهن نظامًا اقتصاديًا جديدًا، استبدلت فيه مفاهيم المنافسة العادلة بالقدرة الحكومية والتخطيط التكنولوجي المركزي.
وإذا عجزت أوروبا عن التكيّف مع واقع هذا النظام الجديد ــ لا عبر الخطاب الأخلاقي، بل من خلال إعادة بناء صناعتها وتوحيد سياستها الصناعية وتحقيق استقلالٍ حقيقي في صنع القرار ــ فإنها ستتحول إلى مجرّد ذكرى لقوةٍ كانت ذات يومٍ مؤثرة في التاريخ.
وفي الخاتمة يمكن القول إن أوروبا كانت قارة كبرى ترى نفسها مركزا لهذا العالم، وقد أصبحت اليوم مجرد متفرّجٍ على محادثات الآخرين.
ــــــــــــ
مقال نُشر في صحيفة “جوان” الأصولية (بالعربية: الشبان)، للكاتبة والباحثة، رويا نژادزندیه، بعنوان: “اروپا حاشیهنشین نظم جهانی میشود” (بالعربية: أوروبا تتحول إلى طرفٍ هامشي في النظام العالمي) بتاريخ: 17 آبان 1404هـ. ش. الموافق 8 نوفمبر 2025م.
