في كتاب بعنوان “مدخل حروب الشبكات لفهم وإيضاح طبيعة المنافسة في العلاقات الدولية”، ذكرت مؤسسة “راند” الفكرية الأمريكية، أنه “في حروب الغد، ليس الفائز من يملك القنبلة، بل من يملك أفضل قصة”.
بمعنى آخر، فإن التفوق الإستراتيجي في العصر الحديث لا يتحقق من خلال التفوق في الأجهزة، بل من خلال نقل القوة المعيارية والقدرة على تشكيل المعتقدات الجماعية، وفي هذا الإطار، فإن ساحة المعركة الرئيسية هي ساحة العقول وشبكات الاتصال التي تعمل على إعادة بلورة معنى الشرعية، وتجعل ما نراه فيها صحيحًا ومقبولًا، حتى لو لم يكن كذلك، وليست الجغرافيا الإقليمية.
حرب السرديات في العلاقات الدولية
في مثل هذا الفضاء التنافسي والمعقد، تدور حرب السرديات على المستوى الدولي دون استخدام المرافق والمعدات العسكرية (القوة الصلبة)، بل من خلال تسخير قوة المعنى والذكاء (الذي يُعد مزيجًا من القوة الناعمة والقوة الصلبة)، ويتم تشكيله من خلال صنع المعنى، والتمثيل، والتأطير.
على هذا النحو، يمكن اعتبار حرب السرديات في العلاقات الدولية جزءًا من معركة أكبر تُسمى حرب المعلومات، فهي نوع من أنواع الحروب الجديدة التي تهدف إلى تغيير المواقف وطريقة تفكير وسلوك الجمهور المستهدف من خلال أدوات المعلومات.
وهناك تعريف آخر لحرب المعلومات، وهو أنها تهدف إلى تمكين عامة الناس ونخب المجتمع من خلال تغيير الأعراف والقيم والمعتقدات والمواقف والسلوكيات، وقد أدت هذه القضية إلى توتر العلاقة بين “إدارة الأزمات” وظهور حرب المعلومات في البيئة العملية.
إن غرض إدارة الأزمات هو الظهور بمظهر جيد في نظر الرأي العام، بينما يُجسَّد الطرف الآخر على أنه شيطان.
وقد دفعت هذه المسألة الأطرافَ المتنازعة إلى خلق روايات “سرديات” ومحاولة جعل رواياتهم تسود بشتى الطرق، حتى يتمكنوا من الفوز في هذا الميدان.
وفي مثل هذا البناء، نشهد نشوء مفهوم يُسمى “السرد المضاد”، وهو في الحقيقة عبارة عن سرد مختلف كليًا عن السرد السائد من جميع النواحي، ويسعى إلى استبدال السرد السائد بسرده من خلال تقديم قراءة بناءة وإظهار مشكلات السرد السائد.
لذا فإن السرد المضاد هو في الواقع أداة لإعادة تعريف حدود الشرعية وتحدي الهيمنة الخطابية التي تنتجها القوى المهيمنة ثم تعيد إنتاجها، وهكذا، فإن المنافسة الجيوسياسية حول صراع السرديات لا تقتصر على ساحة المواجهة العسكرية أو الاقتصادية، بل تستمر أيضًا في مجال المعرفة والدلالة.
الوضع الحالي والمتطلبات
تتمثل السرديات الرئيسية الأربع التي يطرحها المعارضون الدوليون ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية في:
1ــ انتشار الأسلحة النووية.
2ــ برنامج الصواريخ.
3ــ الدور الإقليمي.
4ــ قضية حقوق الإنسان.
فمن خلال دراسة وثائق إستراتيجية الأمن القومي الأمريكية منذ عام 1994م، يتضح أنه في جميع نسخ هذه الوثيقة، تكررت بشكل بارز اتهاماتٌ مثل دعم إيران للإرهاب، والسعي للحصول على أسلحة الدمار الشامل، وفي بعض الحالات انتهاكات حقوق الإنسان.
وهذا مثلًا يأتي تزامنًا مع مخطط الاتهامات المتعلقة بالانتشار النووي، بالرغم من أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية أكدت مرارًا وتكرارًا على الطبيعة السلمية لأنشطتها النووية وعلى الإشراف المستمر من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية على منشآتها، حتى إن وكالات الاستخبارات والأمن الأمريكية اعترفت بذلك في مراحلَ، كان آخرها قبل أيام قليلة من الهجوم الأخير على إيران في يونيو 2025.
وعلى الرغم من ذلك، تزعم الولايات المتحدة – في إطار خطابها الأمني – وحلفاؤها أن الجمع بين القوة النووية والقدرات الصاروخية الإيرانية من شأنه أن يهدد أمن الغرب وأمريكا وجيرانها الإقليميين إلى مستوى جديد أشد خطرًا من تهديد الإرهاب الدولي.
على هذا الأساس تزعم واشنطن أن تسليح إيران النووي لن يؤدي فقط إلى تعقيد معادلات الأمن في الشرق الأوسط، بل أيضًا سيعقِّد العلاقات بين القوى العظمى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين وحتى أوروبا.
وفي هذا السياق، ترى الولايات المتحدة أن لإيران النووية عاقبتين أمنيتين:
الأولى: هي التأثير غير المباشر على البيئة المحيطة، بما في ذلك جيران إيران والولايات المتحدة.
الثانية: هي التأثير المباشر على الأمن القومي للولايات المتحدة نفسها.
ولهذا السبب، سعت الولايات المتحدة – التي تركز على أمن حلفائها في غربي أسيا، وخاصة النظام الصهيوني – إلى إخراج الملف النووي الإيراني من المجال الفني للوكالة الدولية للطاقة الذرية وإحالته إلى مجلس الأمن، وهي الخطوة التي كان هدفها الرئيسي تأمين القضية وتوفير الظروف لمواجهة صعبة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وتتجلى المشكلة نفسها أيضًا في مجال حقوق الإنسان، حيث ينشأ الاختلاف الرئيسي بين إيران والغرب من الفروق المعرفية في القيم والأسس التفسيرية، إذ إن أصالة الفرد في حقوق الإنسان الغربية ترتكز بشكل أساسي على مدرسة الحقوق الطبيعية، التي تعتبر العقلانية البشرية مبدأً أساسيًا وتنفي أي سلطة، سواء كانت عرقية أو دينية أو ثقافية.
ــــــــــــــ
مقال بعنوان “روايت در روابط بين الملل” (بالعربية: السردية في العلاقات الدولية) للكاتب، سجاد عطا زاده بجريدة “آرمان امروز” الإصلاحية (بالعربية: الآمال الوطنية)، منشورة بتاريخ 16 مهر 1404 هــ. ش. الموافق 8 أكتوبر 2025م.
