قادَ جمالُ عبد الناصر، بشخصيته وأيديولوجيته الناصرية، الشرقَ الأوسط نحو الاستقلال، لكنَّ التحدياتِ الداخليةَ والخارجيةَ حالت دون تحقيق أحلامه، وفي هذا التحليل المتعمق، نقرأ قصة حياة شخصية ملهمة ومثير للجدل في آنٍ واحد.
توفى جمال عبد الناصر، أحد أبرز الشخصيات السياسية المؤثرة في القرن العشرين في العالم العربي، قبل خمسةٍ وخمسين عامًا. ونشأ في عائلةٍ ريفية من الطبقة المتوسطة، وأصبح رمزًا للكفاح ضد الاستعمار، والنضال من أجل القومية العربية والعدالة الاجتماعية.
إن سيرة جمال عبد الناصر الذاتية لا تقتصر على قصةِ صعودِ ضابطِ جيشٍ إلى سدّةِ الرئاسة، بل تقدم أيضًا تحليلًا لكيفية تشكل أيديولوجيةٍ سياسيةٍ أثّرت في السياسات الإقليمية والعالمية.
ولقد أُشيدَ بعبد الناصر كبطل من أبطالِ العالم الثالث، بفضل إنجازاته مثل: تأميمُ قناةِ السويس وتأسيسُ حركةِ عدمِ الانحياز، إلا أنّ نكسة عام 1967م، وعدم تحقيق الوحدة العربية، شكّلا جانبًا مظلمًا في مسيرته.
نُلقي هنا نظرةً على حياةِ وإرثِ أحدِ أكثر الشخصيات تأثيرًا في الشرق الأوسط المعاصر.
حياة عبد الناصر وشخصيته السياسية
وُلِد ناصر لعائلةٍ من جنوبي مصر. كان والده، عبد الناصر حسين موظفَ بريد، ووالدتُه فهيمة من عائلةٍ ريفية بصعيد المنيا. تنقّلت العائلة كثيرًا بسبب عمل والده، من الإسكندرية إلى أسيوط عام 1921م، ثم إلى قرية الخطاطبة عام 1923م.

التحق ناصر بمدرسةِ السكة الحديد الابتدائية، وفي عام 1924م سافر إلى عمه بالقاهرة لمواصلة تعليمه في مدرسةِ النحاسين، وكانت وفاةُ والدته عام 1926م، بعد ولادةِ أخيه الثالث، صدمةً قوية له، خاصةً أن والده تزوّج مرةً أخرى بعد فترة وجيزة.
هذه التجربة، إلى جانب تنقلاته المتكررة، عرضته لتفاوتٍ طبقيٍّ واضح في مصر، ما غرس فيه شعورًا بالاستياء تجاه النخبة الثرية.
في شبابه، عاد ناصر إلى الإسكندرية، ودرس في مدرستي العطارين ورأس التين، وخلال هذه الفترة، انخرط في النشاط السياسي وشارك في مظاهرات “جمعية الشباب المصرية”، ما أدى إلى اعتقاله فترةً وجيزة عام 1934م.
ساهمت قراءة عبد الناصر للقرآن الكريم وسير القادة الوطنيين مثل نابليون، وأتاتورك، وغاندي، ورواية “عودة الروح” لتوفيق الحكيم في تشكيل أيديولوجيته القومية، وقد أصبحت هذه الرواية فيما بعد مصدرَ إلهامٍ لثورة 1952م.
من منظور تحليلي، تُظهر حياةُ ناصر المبكرة أثرَ البيئة الاجتماعية في تشكيل القادة الثوريين؛ فقد نشأ في بيئةٍ متوسطةٍ جعلته يمنح الأولوية للعدالة الاجتماعية، على عكس قادةٍ من النخبة مثل فاروق، وقد أرست هذه الخلفيةُ أُسسَ الأيديولوجية الناصرية، وهي مزيجٌ من القومية والاشتراكية ومناهضة الاستعمار.
عبد الناصر وثورة 1952م
التحق ناصر بالكلية الحربية الملكية المصرية عام 1937م، لكنه رُفض في البداية بسبب نشاطه المعارض، ثم قُبل بمساعدةِ وسيط، وتخرّج في يوليو 1938م، ونُقل إلى منقباد بصعيد مصر برتبةِ ملازمٍ ثانٍ، وهناك التقى بضباطٍ مثل عبد الحكيم عامر وأنور السادات، اللذين عرفا بموقفهما المعارض لفساد النظام الملكي.

وفي عام 1941م سافر إلى الخرطوم بالسودان، وعاد إلى مصر في عام 1943م، وقد عزّزت حادثةُ قصر عابدين – حين هاجم البريطانيون قصرَ الملك فاروق – مشاعرَه المعاديةَ لبريطانيا، وخلال حرب 1948م العربية ــ الإسرائيلية، خدم ناصر كضابطَ أركانٍ في فلسطين، وأُصيب أثناء حصار الفلوجة، وجعلته مقاومة لوائه بطلاً قوميًا.
بعد الحرب، عاد إلى مصر وشكّل مجموعة “الضباط الأحرار” التي انتخبته زعيمًا لها عام 1949م، وفي غضون ذلك، شجعته الثورة السورية عام 1949م على القيام بثورة مماثلة ضد الملك فاروق.
وفي 23 يوليو 1952م، أطاح في حركة سلمية بالنظام الملكي، وتشكّل مجلسُ قيادة الثورة، برئاسة محمد نجيب ونائبه جمال عبد الناصر، ولكن لم تمثّل هذه الثورة نهايةَ الملكية المصرية فحسب، بل كانت أيضًا بدايةَ موجةٍ من الثورات القومية في العالم العربي، وكان ناصر مؤسسها.
وصول عبد الناصر إلى رئاسة الجمهورية
سرعان ما تحول التعاون بين ناصر ونجيب إلى خلافاتٍ بسبب قضايا مثل الإصلاح الزراعي وحظر الأحزاب السياسية، وفي فبراير 1954م، عزل عبد الناصر محمد نجيب ووضعه قيد الإقامة الجبرية، وأصبح رئيسًا لمجلس قيادة الثورة ورئيسًا للوزراء.
وقد أدّت محاولة اغتيال جمال عبد الناصر على يد أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في أكتوبر 1954م إلى حملةِ قمعٍ للمعارضة، ومنحته ذريعةً لتوسيع سلطاته.
وفي يناير 1956م، قدّم دستورًا جديدًا لمصر جعل إياها جمهوريةً عربيةً اشتراكيةً ذاتَ نظام الحزب الواحد، والإسلامُ دينُها الرسمي، وفي يونيو 1956م أصبح رئيسًا بنسبة 99.9% من الأصوات.
عبد الناصر والقومية العربية
يعتبر جمال عبد الناصر الشخصيةَ الرائدة الرئيسية في الساحة القومية العربية في القرن العشرين، ومنذ عام 1954م، حتى وفاته، برزت قوميته في سياق أزمات ما بعد الاستعمار.

شارك ناصر، وهو ضابط في الجيش المصري، في ثورة 1952م ضد الملك فاروق، وشكلت هذه الثورة، التي قادها الضباط الأحرار، نهاية النظام الملكي والنفوذ البريطاني، وكانت نقطة التحوّل الكبرى في مسيرته هي أزمة قناة السويس عام 1956م، بعد توليه السلطة، أمّم ناصر قناة السويس، ما أدى إلى العدوان الثلاثي من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل.
أدّى انسحابُ الغزاة تحت الضغط الدولي إلى جعل ناصر بطلًا مناهضًا للاستعمار، وزاد من شعبيته في العالم العربي، وقد حوّل هذا النصر فكرةَ القومية العربية من نظريةٍ مجرّدة إلى سياسةٍ عملية.
في عام 1958م، اقترحت سوريا التحالف مع مصر لمواجهة التهديدات الشيوعية والداخلية، فتأسست الجمهورية العربية المتحدة، لكنها لم تدم طويلًا بسبب الفوارق الاقتصادية والثقافية.
استندت مبادئُ عبد الناصر القومية العربية إلى الوحدة العربية، والاشتراكية، ومناهضة الاستعمار، إذ كان يؤمن بأنّ العرب أمةٌ واحدةٌ، تجمعهم لغةٌ وتاريخٌ وثقافةٌ مشتركة، وأنّ عليهم الاتحاد معاً في وجه النفوذ الأجنبي.
شملت الاشتراكية العربية، وهي مزيج من القومية والاصلاح الاجتماعي، تأميم الصناعة، والاصلاح الزراعي، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وروّج ناصر لهذه المبادئ حتى في سياسته الخارجية غير المنحازة، ولا سيما في مؤتمر باندونج عام 1955م، لمواجهة الثنائية القطبية في العالم.
وكانت معاداته للصهيونية أيضًا مبدأً أساسيًا، إذ رأى في إسرائيل رمزًا للاستعمار الغربي، ولابد من دعم الحركات الفلسطينية، وبالرغم من أن أيديولوجيته حرّرت العرب من التبعية للغرب، فإن توجهه الاشتراكي قرّبه فعليًا من الاتحاد السوفيتي.
تقييم سياسات عبد الناصر
مع التأكيد على كل ما سبق كانت عواقب القومية العربية التي تبناها الزعيم المصري جمال عبد الناصر على الشرق الأوسط ذات شقين مهمين أثرا بشدة في حاضر ومستقبل مصر والعالم العربي.

على المدى القصير، ألهمت ثوراته القومية حركاتٍ مماثلة في العراق عام 1958م، واليمن عام 1962، والجزائر، ما جعله زعيمًا حقيقيا للعالم العربي، لكنّ انهيارَ الجمهورية العربية المتحدة عام 1961م كشف ضعفَ الأيديولوجية الناصرية.
وقد شكّلت حرب الأيام الستة عام 1967م التي بدأت بإغلاق ناصر لمضيق تيران، هزيمةً عربيةً قاسيةً، أدت إلى تراجع القومية العربية، وزادت حدّة الحرب الباردة العربية، خاصةً بين مصر من جهة، والممالك المحافظة كالسعودية والأردن من جهةٍ أخرى.
على المدى البعيد، أدّى فشل المشروع القومي إلى صعود التيارات الإسلامية التي رأت أن التفوق على الغرب لا يتحقق إلا بالعودة إلى الإسلام والمجتمع الأصيل في عهد النبي، لا بالأيديولوجيات القومية أو الاشتراكية.
وبالرغم من أن ناصر لم يكن مرتبطًا بالحركات الإسلامية بل اصطدم بها، فإن فشل القومية العربية أفسح المجال للإسلاميين لتأكيد شرعيتهم.
وفاة جمال عبد الناصر
توفي جمال عبد الناصر بنوبةٍ قلبيةٍ في 28 سبتمبر عام 1970م عن عمرٍ ناهز 52 عامًا، وخرج ملايين المصريين إلى الشوارع لتشييع جنازته، وعم الحزن عليه أرجاء العالم العربي، ووصف جنازته بأنها الجنازة الأضخم في تاريخ العرب والشرق الأوسط.
ـــــــــــ
ترجمة مقالة بعنوان “ميراث ناصر؛ روياى عربى در جهان دو قطبى” (بالعربية: إرث ناصر: رؤية عربية في عالمٍ ثنائيِّ القطب)، منشورة بتاريخ ٦ مهر ١٤٠٤ هــ. ش. الموافق ٢٨ سبتمبر ٢٠٢٥م، في موقع فرارو الإخباري التحليلي.
