يعيش العالم منذ عقود أحدث موجات عصر العولمة، التي يفترض أن تتقارب فيها الدول برغم اختلاف جذورها وظروفها الاقتصادية والسياسية، ومن الغريب واللافت للنظر أن العصر الذي يكرس ظاهريًا هذا المناخ الداعي للتقارب يتجلى فيه مفهوم التعايش بين الدول كشعارات أكثر منه وعيًا وإدراكًا حقيقيًا بظروف الآخر.
فالانقسام الفكري والذهني الفعلي يظهر بين أبناء المنطقة الجغرافية الواحدة، وبرغم دعاوى التسامح، ففي جذور الثقافة بذور غير معلنة على الدوام لرفض الآخر لا شعوريًا قبل أن يكون سياسيًا أو اجتماعيًا.
جذور التنافس بين العرب والفرس
يكمن التساؤل في العوامل المحركة لذلك في عصر يفترض فيه أن الدول بحكم التطور والتكنولوجيا متقاربة أكثر من ذي قبل، ولعل الموقف الثقافي والوجداني بين العرب والفرس يعد بمثابة نموذج من ضمن نماذج عديدة.
ولكن لا غرابة في الموقف إذا ما التفتنا إلى حقيقة ثقافية يعلمها الجميع ويتعايشون معها، وهي أن العرب يعرفون عن الغرب من طرف واحد بدون تكافؤ حقيقي أكثر مما يعرفون عن بعضهم، وبالتالي لا يدركون الكثير عن أصحاب الحضارات والثقافات المختلفة حتى وإن اشتركوا معهم في الدين الإسلامي إلا أقَل القليل، والمثير للسخرية إذا ثارت الأحاديث في هذا السياق.
يمكن القول إن الجذور التاريخية للتنافس العربي ــ الفارسي تضرب بجذورها منذ العصور الأموية والعباسية، ومن يقرأ كتب التاريخ من منابعها الأصلية يجد ذلك في روايات تاريخ الإسلام، في مثال بارز لها رغم أنها لكاتب قبطي، وهو جرجي زيدان.
فالمتتبع لها، رغم أن القليل من يعرفها ويتذكرها، يجد أن التاريخ مهد للواقع الحالي، الذي لا نعرف فيه بوضوح عن إيران إلا الملف النووي الإيراني وموقفها من الولايات المتحدة وإسرائيل، ولكن ماذا عن الثقافة والتقاليد والعادات والتاريخ؟
العرب والفرس في العصر الحاضر
إذا نظرنا للعصر الحاضر نجد أنه، كما أن مفهوم التنوير والحضارة له سمات غربية بالأساس، فإن التعايش وإدراك الآخر تم صناعتهما لأغراض سياسية بحتة لمعرفة الغرب أساسًا وليس لتعميق الروابط بين أبناء المنطقة الواحدة العربية أو الإسلامية.
ولعل من اللافت للنظر ما ذكره الكاتب والمفكر الصادق سياسيًا وفكريًا في حالة من الحالات النادرة في فكرنا العربي المعاصر، وهو الراحل جلال أمين، عندما قال ما معناه: “إنه في عصر العولمة لا يعلم عن الدول العربية وأخبارها وتفاصيلها بالمعنى العام وليس السياسي فقط مثلما كان يطلع على ذلك وهو في مرحلة الصبا والشباب”، هذا بالرغم من أنه من المفترض أننا الآن أكثر وصولًا للمعرفة والمعلومات بالمقارنة بالماضي.
كذلك فإن العصر الحاضر، الذي يشهد السيول الجارفة للمعلومات المتاحة، هو، ولسخرية القدر، من أقوى المراحل التاريخية من حيث ضعف الثقافة العامة، مع بعض الاستثناءات الخاصة بالمهتمين بالشأن الثقافي، والذين ترتبط ظروف عملهم بضرورة الاطلاع والمعرفة.
معلومات متضاربة عن العرب والفرس
تحمل المعلومات الغزيرة في جذورها مفهوم التشتت الفكري، الذي يجعلك تدرك شيئًا من كل جانب دون عمق حقيقي، ولذلك نحن كمنطقة عربية وإسلامية نحمل معرفة ضحلة عن تاريخنا وتاريخ الآخر أيضًا من رواسب التعليم والإعلام وما وصلنا بالسماع.
كما أنن نشترك في معلومات عامة جميعًا مع تفاوت المستويات كاتجاه عام في التكوين المعرفي للمجتمع، دونما فكر حقيقي يؤثر على العقلية العربية ويدفعها إلى فهم الآخر إسلاميًا كان أو غربيًا، بالنظر إلى أن معرفتنا بالغرب أيضًا ليست متعمقة بالقدر الكافي إذا ما قمنا باستثناء الأحداث السياسية، التي تفرض ذاتها على مدار اليوم في وسائل الإعلام.
مثال بسيط على ذلك هو أن خلفيتنا الشعبية العامة عن العلاقات المصرية ــ الإيرانية، دونما تجميل للموقف، هي في الثورة الإيرانية وربطها بالتطرف والتشدد وقطع العلاقات مع مصر، علاوة على التفرقة الشعبية والحساسية تجاه كل ما هو شيعي لربطه بممارسات دينية معينة لا تعكس التوجه العام.
هذا بالإضافة طبعا إلى معرفة غير متعمقة بتاريخ العلاقات المصرية ــ الإيرانية، والتي لا تتعدى الاطلاع على الروابط بين الرئيس السادات وشاه إيران السابق، والمصاهرة المصرية ــ الإيرانية التي حدثت في العصر الملكي، والتي يتم تفسيرها على نحو سطحي، وإن كان يحمل ظلًا ضعيفًا من الحقيقة، على أنها مجرد زواج بطموح سياسي من الملك المصري للتوسع في العالم الإسلامي، ومشكلة إمبراطورة مصرية لم تستطع التأقلم مع الواقع الإيراني.
لكن ماذا عن الخلفية السياسية والثقافية آنذاك؟ وهل تنتشر على المستوى الشعبي كما تنتشر القصة في سياقها المبسط، والذي يشبه الحكايات الشعبية الخيالية؟!
ولعل هذا نموذج من النماذج التي تكرس الانفصال الفكري بين الثقافات داخل المجتمع الإسلامي، دونما فكر حقيقي يتعدى الأحداث الشكلية.
أثر الاستعمار على العرب والفرس
من ناحية أخرى، لا ننكر أثر الاستعمار في إضعاف الثقة بالذات على المستوى العام بين العرب وكل الدول الإسلامية، لدرجة أن الاهتمام بالجانب الغربي من العلاقات الدولية، على سبيل المثال، قد يفهم على نحو أكثر قبولًا وتقديرًا من الاهتمام بتاريخ وسياسة دول عربية وإسلامية.
كما أنه، باعتبارنا الطرف المتلقي، ترسخ في وعينا العام أن كل ما هو ضد التيار ينبغي الابتعاد عنه، وأن المختلف غريب، حتى ولو ثبت العكس.
ولا ننسى أن ظاهرة الضعف الثقافي والفكري العام، التي تم الإشارة إليها، تنتج ظواهر فكرية وسياسية تجعلنا مبتعدين بقدر كبير عن الآخر روحيا وفكريا قبل أن يكون سياسيًا، من حيث أن ضعف الثقافة، إذا ما اجتمع مع قلة الثقة بالذات والتأثر بالأطروحات الغربية في النظرة للآخر، يجعلنا في الوعي الجمعي الشعبي نصنع أوثانًا فكرية وسياسية نقدسها وكأنها دين جديد.
تقدير الذات عند العرب والفرس
من ضمن هذه الأوثان الإفراط في تقدير الذات الشعبي والثقافي، والعصبية الفكرية والسياسية التي تجعلنا لا نرى سوى أنفسنا فقط.
ووثن آخر هو الرواسب الفكرية التي تجمعت عبر الزمن ضد العرب في دول الخليج، مثلا، على اعتبار أنها مجرد دول ثرية، ولذلك يستغرب الوعي الجمعي دور البعض من هذه الدول سياسيًا في الوقت الحالي، على الرغم من أنه أصبح أمرا واقعا.
وكذلك التناقص الغريب في الفكر العربي والإسلامي بين الإعجاب بالولايات المتحدة والغرب، وفي نفس الوقت إدراك أنهم متغلغلون في جذور مشكلاتنا السياسية والثقافية والاقتصادية في آن واحد.
من ثم فإن الوعي العام مهيأ لرفض الآخر وتمجيد الذات مقابل الآخر، الذي لن يكون أفضل منا أبدًا، رغم أن هذا النوع من التحليل والفكر يعكس تدهورًا فكريًا من حيث تجاهل أن الدول تتغير في ظروفها وإمكاناتها، وليس معنى أن الآخر يتقدم من حيث الدور والمكانة أن هذا ينعكس بالسلب على الأدوار التاريخية لبعض الدول التقليدية.
فالساحة متاحة للجميع سياسيًا، والقوى من يثبت ذاته في حضور الأقوياء، ولكل بلد مميزاته وسلبياته كذلك.
موازين القوى الفكرية بين العرب والفرس
إن تغيير السلبيات التي تفصل الفكر العربي من داخله عن بعضه البعض وتفصل الفكر العربي عن الفكر الفارسي تحتاج لعقود من التغيير في العقلية العربية على مستوى التعليم والتربية ودور الإعلام، مع عدم توقع نتائج فارقة سريعة، في ظل أن موازين القوى السياسية والدولية تدفع في توجه غير محبذ للتقارب الفكري والاجتماعي بين الدول العربية والإسلامية.
فليس ذلك في الصالح العام للغرب والولايات المتحدة والمشروعات الصهيونية في الشرق الأوسط، التي تريد محيطًا متقاربًا في الظاهر مختلفًا في الباطن لتحقيق المزيد من سبل الاختراق السياسي والثقافي.
فكما أن التنوير على النمط الغربي مشكوك في صلاحيته لكافة الدول التي كان يتعين عليها أن تقدم مشروعًا حضاريًا مغايرًا، كذلك فإن شروط ومعايير معرفة الآخر على النمط الغربي تزيد من الهوة الحضارية الفعلية بين أبناء المنطقة الواحدة، وتعزز من العصبيات بمفهومها الواسع والشامل.
بحيث يكون التقارب في عصر العولمة بين الدول مثل كل شيء في حياتنا، إذا كثر الحديث عنه وإضفاء طابع المظاهر عليه سياسيًا ودبلوماسيًا، فإن ذلك يكرس غيابه الفعلي بصورة أكثر مما يظن الكثيرون.
خاتمة
ربما يكون من الملائم أن نستشهد في ختام المقال برؤية قديمة وجديدة في الوقت ذاته للكاتب والمفكر يوسف إدريس، وهي قوله بما معناه: إن الفكر قديمًا كان ينحصر في بعض الكتاب وذوي الرأي، ثم بظهور الكتاب والمطبعة والإعلام والتكنولوجيا اتسعت دائرة أصحاب الفكر في المجتمع، حتى أصبح رجال ونساء الشارع يفكرون مع المفكرين ويبدون الرأي مع أصحاب الرأي.
ومنذ أخذت هذه الوسائل تتسع وتشمل أعدادًا أكبر من الناس، بدأ أولاد أعمامنا اليهود ذوو الذكاء الرهيب، الذين تعمل به أي أقلية متضامنة في أي مجتمع، بدأوا يدرسون ثم يستأثرون تمامًا بصناعة الفكر، بحيث وصلنا إلى عصر الإنتاج الكبير للأفكار (mass production of thoughts) ويا لها من أفكار سياسية وفكرية في عصر المعرفة تجعلنا أكثر انفتاحًا على مفهوم التعصب والانغلاق ضد الآخر، وإن أنكرنا ذلك ظاهريًا، فهي الحقيقة المتوارية وراء المظاهر السياسية والاجتماعية الحالية في عالمنا العربي والإسلامي المعاصر، بحيث يصبح التقارب الفعلي بين الدول مثله مثل كافة المعنويات الإيجابية: نسمع عنها ولا نراها بوضوح.