جرت الانتخابات العراقية لهذا العام تحت ظروف دولية وإقليمية معقدة أوجدتها أحداث السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، وما تلتها من أحداث عصفت بالمنطقة، ولا سيما محور المقاومة الذي تلقّى ضربات قوية من قبل إسرائيل أضعفت نفوذ إيران في المنطقة.
وكانت أهم هذه الأحداث خروج سوريا من عباءتها بالكامل بعد سقوط نظام بشار الأسد عام 2024، والضربات القوية التي تعرض لها حزب الله في لبنان، وتشكيل حكومة لبنانية جديدة خارج تأثير النفوذ الإيراني، كما أن قبول حركة حماس بوقف إطلاق النار أدى إلى يصبح تأثيرها محدودًا على الأرض.
بهذا تكون إيران قد خسرت الكثير من قواعدها وأذرعها في المنطقة، يُضاف إلى ذلك الحرب التي شنّتها إسرائيل عليها في ١٣ يونيو من هذا العام، والتي قتلت الكثير من قادتها، وانتهت باستهداف المفاعلات النووية من قبل الولايات المتحدة.
يُضاف إليه إعادة فرض العقوبات الدولية عليها بعد تفعيل آلية “سناب باك” من قبل الدول الأوروبية المشاركة في الاتفاق النووي، وهو ما شكّل ثقلًا جديدًا على إيران، بعد أن فرضت الولايات المتحدة عقوبات على شخصيات وكيانات عراقية لها علاقات وثيقة مع إيران.
الانتخابات العراقية والنفوذ الإيراني
شكّلت الانتخابات العراقية 2025 بُعدًا جديدًا للنفوذ الإيراني من خلال محاولة إعادة ترتيب الأوراق والسيطرة على مجرياتها، وبشكل كبير يختلف عمّا جرى في السنوات الماضية، لأن العراق يعتبر بالنسبة لإيران خط الدفاع الأخير أمام أي استهداف قد تتعرض له من قبل إسرائيل أو الولايات المتحدة، وكذلك المنفذ الذي تستطيع إيران من خلاله التهرب من العقوبات الأمريكية عليها.
لذلك عملت منذ البداية على إعادة زجّ الفصائل المسلحة الموالية لها في الانتخابات البرلمانية بشكل مباشر وكبير، حيث جاءت حركة عصائب أهل الحق في مقدمة المشاركين في الانتخابات من خلال طرح مرشحين لها، وكذلك كتائب حزب الله، وكتائب سيد الشهداء، وكتائب جند الإمام، وكتائب الإمام علي، وحركة أنصار الله الأوفياء، ومنظمة بدر، وحركة بابليون، وكذلك حشد الشبك، وأخيرًا حركة النجباء التي لديها مجلس سياسي يتواصل مع الكيانات السياسية لكنها لم تطرح مرشحين في هذه الانتخابات.
ونشطت هذه الفصائل في برامجها السياسية في وسط وجنوب العراق، لكن بعضها شكّل قوائم انتخابية في بعض المناطق ذات الأغلبية السنية في محافظات صلاح الدين ونينوى وكركوك وديالى، مستغلّين نفوذهم وتواجدهم المسلح، وكذلك علاقاتهم مع بعض شيوخ العشائر في تلك المناطق.
إيران وتحديات الحكومة العراقية المقبلة
لعل ما سبق شكّل تحديًا جديدًا على طبيعة التكوين السياسي وشكل الحكومة المقبلة، كون هؤلاء سينفذون الأجندات التي ترعاها الفصائل المسلحة القريبة من إيران، مع تغييب إرادة سكانها من خلال الترهيب أو المال السياسي، ما يُنذر بخطر على الديموجرافيا السياسية لهذه المناطق، علمًا بأن أغلب هذه الفصائل تم إدراجها ضمن لائحة الإرهاب التي تصنّفها الخارجية الأمريكية.
يعني هذا أن الحكومة الجديدة التي ستنبثق عن البرلمان سيكون لإيران تأثير واضح في تشكيلها، مع عدم السماح للولايات المتحدة بالانفراد وفرض إرادتها على هندسة الوضع في العراق وفق الرؤى الأمريكية، ما يؤثر بشكل مباشر على إيران، وسيزيد من عزلتها في حال استطاعت الولايات المتحدة فرض إرادتها على السياسيين العراقيين.
وتتخوف إيران بشكل جدي من تراجع نفوذها في العراق إثر قيام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتعيين مبعوث خاص له إلى العراق قبيل الانتخابات بفترة قصيرة، وهذا لم يحدث مسبقًا منذ احتلال العراق وإسقاط النظام عام ٢٠٠٣.
إيران ومعادلة مجلس النواب العراقي
إن هذه الانتخابات لن تغيّر كثيرًا في المعادلة داخل مجلس النواب العراقي، وستبقى الكتل القريبة من إيران تسيطر على المشهد السياسي، وذلك بعد زجّ قادة الفصائل للمشاركة في هذه الانتخابات والتغلغل داخل المكونات الأخرى من خلال فرض مرشحين من الطوائف الأخرى.
استطاعت القوى السياسية القريبة من إيران أن تشكل حضورًا قويًا في النتائج، والحصول على أكثر من ثلث مقاعد مجلس النواب، وبهذا سيكون نفوذ إيران حاضرًا في تشكيلة الحكومة المقبلة، وسيؤثر بشكل مباشر على الأهداف والمصالح الأمريكية في العراق والمنطقة.
والدليل على هذا الاتجاه التحليلي ما ذكره رجل الدين الشيعي إياد جمال الدين في تغريدة له قال فيها: “إن القراءة السريعة للانتخابات العراقية هي فوز ساحق للقوى السياسية الموالية لإيران، وهزيمة ساحقة للقوى السياسية الموالية لأمريكا”، مضيفًا: “هذا هو الرد الشيعي العراقي على القصف الأمريكي لإيران. كلما زاد الضغط الأمريكي على إيران، ازداد تمسك شيعة العراق بإيران”.
وهذا يعني دخول العراق على خط المواجهة مع إسرائيل، ولا سيما أن الحرب بين إسرائيل وإيران توقفت في جولتها الأولى يوم 24 يونيو 2025 لكنها لم تنتهِ بعد، ويؤكد المراقبون والخبراء أن عودة إسرائيل إلى شن حملة جديدة على إيران هي مجرد مسألة وقت.
الخاتمة
من خلال نتائج الانتخابات في العراق للعام 2025 يُلاحظ أن هناك مؤشرات على صعوبة التوصل إلى توافقات سياسية قريبة تقود إلى تشكيل حكومة عراقية دون اتفاق إيراني – أمريكي، ولا سيما أن كثيرًا من الشخصيات العراقية المؤثرة في المشهد السياسي لها مصالح وأهداف تتناقض تمامًا مع الأجندات التي ترعاها الولايات المتحدة، وتميل إلى الأجندات الإيرانية بحكم التأثير الإيراني الذي يفوق التأثير الأمريكي بشكل كبير.
ولكن على الجميع ألا ينسى دول الجوار وتأثيرها في الحدّ من النفوذ الإيراني داخل العملية السياسية، ممثلة بتركيا والدول العربية القريبة من وجهة النظر الأمريكية في التعامل مع الملف العراقي، وخاصة أن تركيا لديها تأثير على بعض الساسة من مختلف المكونات وأوراق ضغط، لكنها لن تصل إلى مستوى النفوذ الإيراني، ومع ذلك فإن نفوذ هؤلاء مجتمعين سيحدّ كثيرًا من قدرة إيران على فرض حكومة موالية لها.