يعد الهجوم الذي شنته الطائرة الحربية الإسرائيلية على قادة حماس في العاصمة القطرية الدوحة حدثًا استثنائيًا في تاريخ العمليات العسكرية في الخليج العربي، حيث سبق لإسرائيل استهداف مواقع في العراق وإيران في مناسبات سابقة، لكن الهجوم على قطر يشكل حالة نادرة جدًا منذ استقلالها عام 1971م، أي قبل 54 عامًا.
ويمثل هذا الحدث نقطة فاصلة في التاريخ السياسي لقطر، قد تؤدي إلى تغييرات جوهرية على المستويات السياسية والإستراتيجية، إضافة إلى تأثيره العميق على سلوكيات الدول الإقليمية وإستراتيجياتها.
اقرأ أيضا:
وللحق تكشف استثنائية هذا الهجوم الأيديولوجية العدائية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، كما ظهر في ضوء الأحداث السابقة مثل استهداف قائد فيلق القدس قاسم سليماني في العراق في 3 يناير 2020، أو الهجمات الإسرائيلية الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية بدءا من 13 يونيو 2025م، وتظل هذه التحركات غير مفهومة إلا ضمن سياق فهم شخصية ترامب ونهجه السياسي في إدارة الصراعات الإقليمية.
تغير السلوك الحربي الإسرائيلي بعد طوفان الأقصى
يمثل لجوء إسرائيل إلى نموذج “الضربة على طاولة المفاوضات”، بينما كان قادة حماس يدرسون المقترح الأمريكي لوقف إطلاق النار، خرقًا واضحًا للإطار الدبلوماسي لتسوية الخلافات عبر التفاوض.
وقد سبق لإسرائيل وواشنطن استخدام هذا النمط في اغتيال عدد من قادة حزب الله، بما في ذلك السيد حسن نصر الله، وكذلك استهداف القائد العسكري لحركة حماس محمد السنوار، بالتزامن مع صفقات تبادل الأسرى، وترى دوائر صنع القرار الإيرانية ــ وفق ما نقله مركز طهران للدراسات ــ أن تكرار هذا الأسلوب يفرض ضرورة إعادة النظر بشكل جذري في مقاربة العمل التفاوضي.
اللافت للنظر، أنه قبل عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، كانت إسرائيل تدفع بسرعة نحو مشروع الإدماج الإقليمي عبر الاتفاقات الإبراهيمية مع الدول العربية، بدعم أمريكي، غير أن صدمة عملية الطوفان شكلت عبئًا معنويًا ثقيلاً عليها، بحيث لم تعد قادرة على التعايش مع النظام الذي أفضى إلى تحطيم هيبتها الأمنية والدفاعية. ولذلك وضعت تصفية حماس، أو على الأقل نزع سلاحها، هدفًا رئيسيًا لها.
اقرأ أيضا:
وخلال السنة الأولى من الحرب، فرضت إسرائيل حصارًا مكثفًا مع محاولات تفريغ بعض المناطق من السكان والمقاتلين، ما دفع أيضًا أعدادًا كبيرة من السكان للنزوح نحو الحدود المصرية، إلا أنها لم تتمكن عسكريًا من السيطرة على القطاع أو إجبار المقاومة الفلسطينية على الاستسلام.
وفي السنة الثانية، وسعت تركيزها نحو ما يُعرف بمحور المقاومة الداعم لغزة، بما في ذلك حزب الله وسوريا، وبعض الفصائل في العراق واليمن، وصولًا إلى إيران باعتبارها الداعم الأول للمحور، في محاولة لتغيير موازين القوى الإقليمية وتفكيك حركة حماس لإجبار الفلسطينيين على الاستسلام.
بالرغم من الضربات العسكرية والإجراءات التعسفية، لم تؤدِ إلى انهيار شامل في هذا المحور، وبالتالي لم يتغير موقف حماس بشكل ملموس. وبعد ما يقارب عامين من الحرب، لا تزال إسرائيل عالقة في غزة وعاجزة عن تحويل إنجازاتها العسكرية إلى مكاسب سياسية.
من هنا، تبنت إسرائيل سياسة اغتيال قادة حماس في دول مضيفة ــ حتى لو كانت حليفة ــ بهدف إرسال رسالة مفادها أن القادة السياسيين والعسكريين للحركة ليسوا آمنين في أي مكان؛ لذا، لم يكن غريبًا أن تستهدف دولة وسيطة لتنفيذ مهمة الاغتيال. وبلا شك يعتبر الهجوم الذي استهدف قطر، أول عملية من هذا النوع ضد إحدى دول الخليج العربي منذ تأسيس إسرائيل، ويعتبر تحولًا جذريًا في نمط السلوك الحربي الإسرائيلي وتوسعًا جغرافيًا للحرب إلى منطقة الخليج، وهو ما سيترك آثارًا عميقة على الإدراك النفسي وأنماط السلوك الإستراتيجي لدول المنطقة على المديين القريب والمتوسط.
الأبعاد السياسية للهجوم الإسرائيلي على الدوحة
على الرغم من وجود تفاهم غير معلن بين إسرائيل وقطر يقضي بعدم قيام تل أبيب بأي هجوم على الأراضي القطرية، إلا أن إسرائيل انتهكت هذا التفاهم، وهو ما سيؤدي إلى تغيير طبيعة العلاقة بين الطرفين ويُظهر تل أبيب أمام حلفائها على أنها خارقة للاتفاقات، حتى مع الدول الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية.
صحيح أن قطر لا تعترف بإسرائيل رسميًا، ولا توجد بينهما علاقات دبلوماسية أو سفارات، لكنها سمحت بتنسيق غير رسمي ومحدود مع إسرائيل، سواء من خلال تسهيل رحلات جوية مباشرة لنقل المشجعين الإسرائيليين أثناء بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022، أو تحويل أموال محدودة عبر تل أبيب إلى موظفي حكومة غزة. كما لعبت قطر دور الوسيط في العديد من الملفات بين إسرائيل وأطراف فلسطينية أو عربية أخرى، بما فيها حماس.
اللافت هنا أن القيادة الإيرانية ترى أن وجود مكتب لحماس في قطر لم يكن بالأساس لدعم الحركة، بل بدافع التنسيق مع الولايات المتحدة لتهيئة أرضية للمفاوضات مع إسرائيل، ومع ذلك، نفذت إسرائيل هجومها العسكري على قطر بينما كانت الدوحة تقوم بوساطة في مفاوضات غير مباشرة مع حماس، وهذا يعمق الصورة السلبية لإسرائيل في المنطقة ويجعلها أقرب إلى جماعات مسلحة متمردة منها إلى دولة.
اقرأ أيضا:
وعلى خلاف الافتراضات السابقة، يبرز احتمال امتداد الهجمات الإسرائيلية لتشمل دول إقليمية، ما يشير إلى تحول خطير في نطاق النزاع الإقليمي، علاوة على أن الهجوم يعيد النظر في فكرة أن وجود قواعد أمريكية على أراضي عربية لا يضمن حماية تلك الدول من أي انتهاك للسيادة. وفي المقابل، قد يقرب هذا الحدث قطر والدول العربية أكثر من إيران، ويضعف الفكرة السابقة القائلة بأن التحالف الأمريكي الإسرائيلي يدافع عن دول الخليج ضد إيران، ما يصب بلا ريب في مصلحة إيران والمعارضين للتطبيع مع إسرائيل، ويضر بجبهة الدول المؤيدة للتطبيع.
في السياق، رجّح موقع عصر إيران الإصلاحي في تحليل بعنوان “15 نکته درباره حمله اسرائیل به قطر / اسرائیل حمله می کند حتی به شما دوست عزیز” أي “15 ملاحظة حول الهجوم الإسرائيلي على قطر / وستهاجمك إسرائيل حتى أنت يا صديقي العزيز” احتمال خروج أو إخراج قادة حماس من قطر، ووقوع تغييرات كبيرة في علاقة الدوحة بواشنطن، مع استمرار الحذر في التعامل مع إسرائيل.
كما سلط هذا التحليل الضوء على إثارة شكوك الدول العربية بشأن جدوى التحالف مع واشنطن، لا سيما فيما يتعلق بقدرة الجيش الأمريكي على منع الهجمات، ولهذا، أصبح ممكنًا تصديق الرواية التي تقول إن حليفًا أمريكيًا (إسرائيل) قد يهاجم حليفًا آخر (قطر) بضوء أخضر أمريكي، ما قد يدفع دول الخليج نحو تقارب أكبر مع روسيا والصين، خصوصًا وأن الهجوم الإسرائيلي على قطر لا يقتصر على هذا البلد فحسب، بل يشكل تهديدًا شاملًا للدول الخمس الباقية الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، ويعيد تشكيل طبيعة العلاقة بينها وبين إسرائيل.
خاتمة
يمكن القول إذن إن إسرائيل، في سياق المشهد الغربي – الأسيوي رباعي المحاور (المقاومة، الدول الداعمة لها، إسرائيل، والمحافظ العربي)، تسعى بعد ضرباتها للمحور المقاوم إلى تركيز جهودها على الدول الداعمة له، بهدف استعراض سيطرتها وفرض نظام جديد يقوم على تفوقها المطلق.
ويستند هذا السلوك الإسرائيلي إلى رؤية سوسيولوجية للمجتمعات العربية. فقد أكدت المراكز البحثية الأمريكية والإسرائيلية – أبرزها معهد الديمقراطية الإسرائيلي (IDI) ومركز موشيه دايان لأبحاث الشرق الأوسط وإفريقيا في جامعة تل أبيب – أن نمط حياة هذه المجتمعات شهد تحولًا جذريًا، حيث انتقل اهتمامها من قضايا الهوية إلى هموم المعيشة والترفيه.
وبناءً على ذلك، أوصت هذه المراكز بسياسة أكثر صرامة تجاه الفلسطينيين والعرب، مع المضي قدمًا في مسارات التطبيع. ومن هنا تبرز المخاوف من احتمال توسيع إسرائيل نطاق الحرب ليشمل باقي دول المنطقة، كوسيلة لمنع أي تهديدات محتملة قد تعرقل سيناريوهات الاتفاقات الإبراهيمية، حتى لو تطلب ذلك استخدام القوة بشكل مباشر.