أفاد مسؤولون روس وتقارير دولية بأن إسرائيل سعت، عبر قنوات دبلوماسية، بما في ذلك التواصل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى إيصال رسالة إلى طهران مفادها أن “تل أبيب” لا تسعى إلى التصعيد أو العودة إلى الحرب.
وقد أثار بوتين نفسه هذه القضية وتحدث عن جهوده لإنهاء الصراع.
الخداع الإستراتيجي الإسرائيلي ضد إيران
لطالما كانت مسألة الخداع الإستراتيجي في الحروب والعلاقات الدولية موضوعًا محوريًا في نظريات الأمن والإستراتيجيات العليا، ويعرف الخداع الإستراتيجي بأنه تنظيم الرسائل والمبادرات الشكلية، وإرسال المعلومات، والقيام بأساليب نفسية بطريقة تدفع الطرف الآخر إلى تبني رد فعل زائف أو تقليل استعداده، أو الاعتقاد بوجود ما ليس موجودا.
قد يشمل هذا الخداع إعلان وقف إطلاق النار، أو التفاوض، أو تبادل الأسرى، أو إرسال رسائل توحي بانتهاء الحرب بينما يظل الطرف المخادع مستعدًا لمواصلتها.
وبالنسبة إلى الأدلة المتاحة، فإن احتمال التصعيد ما زال قائمًا بدرجة كبيرة، كما أن رسالة إسرائيل إلى بوتين حول انتهاء الحرب تُعد شكلًا من أشكال الخداع الإستراتيجي.
رسالة إسرائيل إلى إيران عبر بوتين
وفقًا للمصادر، فإن الرسالة التي وجهتها إسرائيل إلى إيران عبر بوتين بشأن عدم رغبتها في الحرب لم تكن رسالة دبلوماسية رسمية وواضحة، بل نُقلت في إطار محادثات غير رسمية واتصالات أمنية.
ويرى معظم المحللين في وسائل الإعلام الإيرانية، وحتى في بعض وسائل الإعلام الأجنبية، أن هذا الإجراء يُعد نوعًا من الخداع الإستراتيجي هدفه تهدئة الأجواء في المنطقة، وخفض جاهزية قوى المقاومة، وكسب الوقت لصالح إسرائيل على الصعيدين الداخلي والدولي، ولا سيما في علاقاتها مع الولايات المتحدة.
وقد نقلت روسيا الرسالة رسميًا، لكنها دعت في الوقت نفسه إلى إنهاء الصراع، وعادةً ما تكون المواقف الروسية الرسمية حذرة ومشروطة؛ فقد تحدث بوتين والدبلوماسيون الروس عن ضرورة إنهاء الأعمال العدائية، لكنهم لم يقدموا دعمًا مطلقًا لإسرائيل، بل دعوا إلى إيجاد حلول سياسية متوازنة.
دلالات رسالة إسرائيل إلى إيران
تعني هذه السياسة الحذرة أن روسيا قبلت دور المرسل، لكنها لم تعتمد بالكامل على الرسالة الإسرائيلية، وتشير التصريحات الرسمية الإيرانية إلى أن طهران تلقت الرسالة؛ لكنها تعاملت معها بحذر وتشكيك.
صرّح مسؤولون، مثل عباس عراقجي، ضمنيًا بأن الرسالة غير دقيقة، مؤكدين استمرار الحذر ومراقبة الواقع الميداني، إذ تعتمد إيران على السلوك الفعلي ورصد التحركات العسكرية والإجراءات الإسرائيلية، لا على الأقوال المنقولة.
وبالنظر إلى أنماط الخداع الإستراتيجي والأدلة الإعلامية والتحليلية والسلوك الحذر للأطراف المتعارضة، يبدو أن سيناريو الخداع التكتيكي من قبل إسرائيل معقول ومرجّح نسبيًا.
المواجهة بين إسرائيل ومحور المقاومة
ذكرت مصادر إسرائيلية داخلية وبعض المحللين المستقلين أن عمليات شكلية قد استُخدمت مؤخرًا لتقليل الوعي العام، فبعد تصاعد الصراعات بين إسرائيل ومحور المقاومة، واجهت تل أبيب عدة تحديات في وقت واحد، منها:
- ضغط الرأي العام العالمي، خاصة في أوروبا وأمريكا، بعد جرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة.
- أزمة داخل حكومة نتنياهو واستياء شديد في الرأي العام المحلي.
- تحذيرات روسية وصينية من خطر توسع رقعة الحرب في الشرق الأوسط.
- تهديد إيران بالرد في حال وقوع غزو إسرائيلي مباشر لأراضيها.
ولذلك تسعى إسرائيل إلى كسب الوقت للتغلب على هذه القضايا، وإعادة بناء قدراتها العسكرية، بعد أن شاركت نسبة كبيرة من قوتها الجوية والدفاعية في عمليات واسعة النطاق في غزة وعلى الحدود اللبنانية خلال الأشهر الأخيرة.
كما أن إرسال رسالة “عدم الرغبة في الحرب” إلى إيران يمنح إسرائيل فرصة لإعادة بناء دفاعاتها في الشمال ضد حزب الله، وفي الجنوب ضد حماس، ولزيادة استعداد قوات الاحتياط.
سياسة التوقف التكتيكي لإسرائيل
في الواقع، تُعد هذه الرسالة نوعًا من التوقف التكتيكي حتى يتمكن جيش الاحتلال الإسرائيلي من التعافي إثر الإرهاق النفسي البالغ الذي يعاني منه، وحتى يتمكن نتنياهو من إصلاح حكومته المهترئة.
عليه، فإن إرسال رسالة من إسرائيل إلى روسيا مفادها أنها لا تنوي توسيع الحرب وهو أمر يبدو في ظاهره خطوة دبلوماسية مهدئة؛ لكنه في جوهره شكل من أشكال الحرب النفسية والخداع الإستراتيجي.
ووفقًا لبعض المحللين الروس واللبنانيين، قد تكون هذه الرسالة اختبارًا لرد الفعل الإيراني، إذ تسعى إسرائيل إلى معرفة ما إذا كانت إيران ستخفض حالة التأهب إذا تلقت إشارة بانتهاء الحرب، لتتمكن من تنفيذ هجوم مفاجئ لاحقًا.
إسرائيل تحاول تصحيح صورتها
تحاول إسرائيل أن تُظهر للعالم صورة الدولة المسؤولة المحبة للسلام، لتقنع الإدارة الأمريكية وصناع القرار في العاصمة واشنطن بأنها قادرة على مواصلة عملياتها العسكرية من دون تكاليف سياسية أخرى.
هذا السلوك يشبه تمامًا سياسات إسرائيل المضللة خلال حرب لبنان عام 1982، عندما بدأت “عملية السلام بالجليل” بشعار إنهاء التوتر، لكنها انتهت بحرب واسعة النطاق على كامل الأراضي اللبنانية.
حاليًا، تبدو إسرائيل في حالة تأهب قصوى من حيث القوة الدفاعية والجوية، وتسعى على المدى القصير إلى خفض التوتر السياسي وكسب الوقت، بينما تتموضع إيران أيضًا في حالة تأهب قصوى إذ تعمل على تعزيز قدراتها الدفاعية والصاروخية.
حزب الله والمواجهة الشاملة مع إسرائيل
لا يزال حزب الله يمتلك قدرة كبيرة على شن هجمات صاروخية، وتنفذ إسرائيل بانتظام عمليات استباقية لتقويض إعادة الإعمار في لبنان.
يسمح هذا الوضع لإسرائيل بكسب الوقت والمساحة التكتيكية باستخدام العمليات الاستخباراتية والرسائل الدبلوماسية مثل تلك التي وجهتها إلى بوتين، ومع ذلك، يبقى احتمال ردٍّ إيراني محدود أو غير متكافئ قائمًا.
ويبدو أن الهدف المحتمل للرسالة الإسرائيلية هو الحد من التدخل الروسي، واستغلال الوضع السياسي الدولي، والحفاظ على عنصر المفاجأة في العمليات العسكرية، بحيث تشمل عناصر هذا الخداع ما يلي:
- إرسال رسائل متناقضة ومتغيرة تُعلن الرغبة في السلام ثم تُستأنف العمليات العسكرية.
- تقديم ضمانات شكلية، مثل حماية مصالح أطراف ثالثة كالمنشآت الروسية.
- استخدام وسيط خارجي مثل بوتين لحمل رسائل تبدو سلمية.
- التضليل الإعلامي وإخفاء النوايا الحقيقية عبر حملات استخباراتية واستعدادات عسكرية سرية.
إن تزامن رسائل السلام مع استمرار التحركات العسكرية، ووجود تقارير بحثية حول العمليات النفسية، والرد الإيراني الحذر، كلها تشير بقوة إلى أن احتمال التضليل التكتيكي والإعلامي الإسرائيلي كبير جدًا، أي إن رسالة السلام كانت جزءًا من عملية إدراكية هدفها تقليل رد الفعل الفوري وكسب الوقت.
ومع ذلك، فإن هذا الاستنتاج ليس دليلًا مسرّبًا ولا نفيًا قاطعًا، بل استنتاج قائم على أنماط سلوكية وأدلة وتحليل منطقي، وفيما يتعلق بالحرب بين إسرائيل وإيران، أكدت بعض التقارير والتحليلات احتمال لجوء إسرائيل إلى التضليل.
أدلة خداع إسرائيل لإيران عبر بوتين
هناك أدلة كافية تظهر أن رسالة إسرائيل لبوتين بعدم الهجوم على إيران لم تكن سوى خدعة، ويتبين ذلك فيما يلي:
- أفادت وسائل الإعلام أنه قبل عملية الأسد الصاعد 13 يونيو 2025م، حاولت إسرائيل خداع إيران من خلال عمليات لا تشير إلى احتمالية الهجوم.
- نشرت إسرائيل معلومات في وسائل الإعلام تشير إلى وجود خلاف مع الولايات المتحدة حول كيفية التعامل مع إيران في المفاوضات النووية، حتى تزعم إيران أن الولايات المتحدة كانت تضغط على إسرائيل وأن إسرائيل كانت في موقف ضعيف.
- أشارت بعض التقارير إلى أن الزيارات الدبلوماسية الظاهرة والرسائل الإعلامية وجذب الرأي العام إلى إطلاق سراح السجناء ومفاوضات السلام كانت كلها جزءًا من التستر الإعلامي لإخفاء نية العملية.
- كما صرح بعض المحللين أن إسرائيل، بالاعتماد على الخداع الإعلامي، كانت قادرة على الحفاظ على عنصر المفاجأة وتنفيذ غارات جوية شديدة وسريعة دون سابق إنذار.
لذلك يبدو أن إسرائيل استخدمت الخداع الإستراتيجي في هذه الحالة، ووفقًا لهذه المصادر، فإن الرسالة التي وجهتها إسرائيل إلى إيران عبر بوتين بشأن عدم رغبتها في خوض الحرب لم تكن رسالة دبلوماسية واضحة، بل نُقلت على مستوى المحادثات غير الرسمية.
الإيرانيون كشفوا خداع إسرائيل الإستراتيجي
يرى معظم المحللين في وسائل الإعلام الإيرانية وحتى بعض وسائل الإعلام الأجنبية أن هذا الإجراء هو نوع من أنواع الخداع الإستراتيجي، والهدف منه هو تهدئة الأجواء في المنطقة وخفض استعدادات قوى المقاومة وكسب الوقت لإسرائيل على الصعيد الداخلي أو في علاقاتها مع الولايات المتحدة.
فلماذا ترغب إسرائيل في إرسال مثل هذا الخداع إلى روسيا وإلى الأطراف الإقليمية عمومًا؟
هناك عدة أسباب نذكر منها:
- الحد من التدخل الروسي، إذ كانت الرسالة تشير إلى بوتين بأن الحرب قد انتهت أو أن إسرائيل تسعى إلى حل سياسي، ما قد يردع روسيا عن التدخل أو دعم إيران بشكل أكبر.
- منع التدخل الروسي المباشر المحتمل أو الرد العسكري ضد إسرائيل، من خلال الإيحاء بأن إسرائيل لا تسعى إلى تعميق الصراع، فإن روسيا أقل تشجيعًا على الدخول في مواجهة مباشرة.
- اكتساب الشرعية ودور الوساطة، فإن رسالة وقف إطلاق النار أو السلام قد تدفع روسيا إلى التدخل كوسيط بانطباع أن إسرائيل تسعى للبحث عن حل دبلوماسي.
- الحد من الرد الفعل الإقليمي والدولي، إذ إن إسرائيل بدت مصممة على إنهاء الحرب، فقد تمارس بعض الدول ضغوطًا أقل عليها أو تمتنع عن الرد القاسي.
مخاطر الخداع الإستراتيجي الإسرائيلي
لكن هذا الخداع يؤدي إلى مخاطر متعددة للطرف المخادع، منها ما يلي:
- كشف الخداع والإضرار بالسمعة، إذا أدركت روسيا أو إيران أن السلام المزعوم مجرد غطاء، وسوف يؤدي ذلك إلى تدمير الثقة السياسية تمامًا ولن تكون الرسائل اللاحقة ذات مصداقية.
- تزايد العداء وتصعيد الحرب، وقد يؤدي الخداع إلى تفاقم المعاملة بالمثل؛ سيرد العدو بغضب على العدوان وستتسع رقعة الحرب.
- عواقب على العلاقات مع دول ثالثة، إذا أدركت روسيا أو الصين أو الدول التي تلعب دور الوسيط أن الخداع قيد التنفيذ، فقد تتبنى سلوكًا حذرًا في تعاملاتها مع إسرائيل.
خاتمة
إن تزامن رسائل السلام مع استمرار بعض التحركات العسكرية، ووجود تقارير حول عملية التشويه والرد الإيراني الحذر، كلها عوامل تشير بقوة إلى احتمال كبير للتضليل الإعلامي الإسرائيلي، أي إن رسالة السلام كانت جزءًا من عملية تشويه لتضليل رد الفعل الفوري وكسب الوقت، لكن هذا الاستنتاج ليس دليلاً مسربًا ولا نفيًا قاطعًا، بل هو استنتاج مبني على أدلة.
ــــــــــــــــــ
مقال بعنوان: “فريب استراتژيك اسراييل در پيام به پوتين مبنى بر پايان جنگ”، (بالعربية: الخداع الإستراتيجي لإسرائيل في رسالتها بشأن إنهاء الحرب) للكاتب أسد الله غلام پور، منشور على موقع تابناك الإخباري، يوم ۲۱ مهر ۱۴۰۴ هـ. ش. الموافق 13 أكتوبر عام 2025م.
