تواجه مصادر المياه الجوفية في إيران ضغوطًا غير مسبوقة في تاريخها الطويل نتيجة انخفاض معدلات الأمطار وزيادة الاستهلاك المفرط خلال العقود الأخيرة، وقد أدى الاستغلال المفرط للآبار، سواء في القطاع الزراعي أو الصناعي، إلى انخفاض مستوى المياه الجوفية عامًا بعد عام، ما أدى إلى تعرض النظم البيئية الطبيعية في البلاد لأزمة حقيقية.
معلومات مهمة حول أزمة المياه في إيران
وفقًا لتقرير وزارة الطاقة، تفقد إيران سنويًا أكثر من خمسة مليارات متر مكعب من احتياطياتها غير المتجددة، وهو رقم يعكس بمفرده استهلاكًا يفوق قدرة الموارد المائية الطبيعية على التجدد في البلاد.
وأكد “عيسى بزرگزاده”، المتحدث باسم قطاع المياه في البلاد، خلال تقديمه لإحصاءات مقلقة حول حالة السهول المائية، على حتمية وقوع ظاهرة هبوط الأرض في حال استمرار سوء إدارة الموارد المائية، وقال: “من بين ٦٠٩ سهول في البلاد تحتوي على الموارد الحيوية للمياه الجوفية، هناك جزء كبير يواجه حالة حرجة؛ إذ تم تصنيف ٤٢٧ سهلاً منها في وضع ممنوع أو في حالة حرجة”.
تشير هذه الإحصاءات إلى أن الجزء الأكبر من المناطق المائية الجوفية في البلاد على وشك الانقراض أو يشهد تدهورًا سريعًا، وأكد المتحدث على العلاقة المباشرة بين انخفاض مستويات المياه الجوفية وهبوط الأرض، موضحًا أن أكثر من ٣٥٠ سهلاً يواجه ظاهرة الهبوط الأرضي.
ويعكس هذا الانتشار أن المشكلة ليست محلية أو إقليمية، بل تشكل تحديًا وطنيًا هيكليًا يهدد جميع المناطق التي تعتمد على الموارد المائية الجوفية.
وقد حذّر المتحدث باسم قطاع المياه أيضًا من استمرار الاستغلال المفرط للموارد الجوفية واستمرار أنماط الاستهلاك الخاطئة، مؤكّدًا أنه إذا لم يتم إصلاح إدارة الموارد المائية، فإن هبوط الأرض في إيران سيتحوّل إلى أزمة لا يمكن معالجتها.
أزمة المياه الجوفية في إيران
تحدث هذا الظاهرة في وقت تقع فيه البلاد من الناحية المناخية في المنطقة الجافة وشبه الجافة من العالم، حيث يقل معدل الهطول السنوي للأمطار عن ثلث المتوسط العالمي؛ وبناءً عليه، فإن أي سحب مفرط من الموارد الجوفية يؤدي عمليًا إلى استنزاف الطبقات المائية وهبوط تدريجي للأرض، وهي ظاهرة يمكن ملاحظتها بوضوح الآن في أكثر من ٣٥٠ سهلًا في إيران.
ومن منظور جيولوجي، يحدث هبوط الأرض عندما تُضغط كتل الطمي والرمل في أعماق التربة نتيجة خروج المياه من مسامها، ولا يمكن للفراغ الناتج في الطبقات السفلية أن يُعاد ترميمه، وهذه الظاهرة لا رجعة فيها؛ أي أن كل سنتيمتر من الهبوط يعني فقدانًا دائمًا لجزء من القدرة الطبيعية على تخزين المياه في البلاد.
في المناطق الوسطى، مثل سهول “ورامين وكاشان ويزد ونايين وقزوين”، وصلت معدلات الهبوط في بعض النقاط إلى أكثر من ٢٥ سنتيمترًا سنويًا، وهو من أعلى المعدلات في العالم، هذا التدهور لا يهدد فقط البنية التحتية الحضرية والريفية مثل شبكات المياه، وطرق السكك الحديدية، والجسور، والمباني، بل يحمل أيضًا خطرًا داهمًا لانهيار كامل للطبقات المائية.
في الحقيقة الأمر إن هبوط الأرض يشبه وكأن الأرض قد أصابها مرضا مزمنًا، فهو يتطور ببطء لكنه يترك آثارًا عميقة ولا يمكن تعويضها على صعيد الأمن الوطني والاقتصاد والبيئة.
تُسهم الصناعات الكبرى، مثل الحديد والصلب، والأسمنت، والبلاط والسيراميك، والتي تقع معظمها في المناطق الجافة والوسطى من البلاد، بشكل ملحوظ في الاستغلال المباشر للآبار، سبب تركيزها هذا على الموارد الجوفية يرجع إلى عدم توفر الموارد السطحية وانخفاض تكلفة السحب من الآبار العميقة.
ووفقًا لبيانات وزارة الصناعة والمناجم والتجارة ومنظمة حماية البيئة، فإن العديد من هذه المنشآت تعمل في مناطق تم إعلان سهولها مناطق محظورة، أي أن مستوى السحب من الطبقات الجوفية يفوق الحدود المسموح به.
في الوقت نفسه، لا يزال القطاع الزراعي أكبر مستهلك للمياه في البلاد، حيث يستهلك أكثر من ٨٥٪ من إجمالي السحب السنوي. وفي ظل هذه الظروف، أدى التنافس بين الزراعة والصناعة في الحصول على الموارد المائية المحدودة إلى زيادة الضغط على الطبقات الجوفية.
وقد أدى هذا الضغط إلى جفاف الآبار تدريجيًا، وزيادة عمق الحفر، وارتفاع تكاليف الضخ، وصولًا إلى هبوط الأرض وهجرة السكان تدريجيًا من المناطق الحرجة.
الإدارة غير الفعّالة لأزمة المياه في إيران
يرى الخبراء أن سوء إدارة المياه، وغياب نظام فعّال لإعادة تدوير مياه الصرف الصناعي، وضعف الرقابة على الآبار غير المرخصة، هي من الأسباب الرئيسية لتفاقم الأزمة، إذ إن نحو نصف آبار البلاد لا تحمل ترخيصًا قانونيًا، ويتم سحب عشرات المليارات من الأمتار المكعبة من المياه سنويًا عبر هذه الآبار.
في حين أن العديد من الدول قد خفّضت اعتماد صناعاتها على الموارد الجوفية باستخدام تقنيات حديثة لمعالجة مياه الصرف الصناعي وإعادة استخدامها ضمن دورة الإنتاج، إلا أن إيران لا تزال في مراحلها الأولية في تطبيق مثل هذه السياسات.
وللسيطرة على الأزمة، من الضروري إعادة النظر في نمط تخصيص المياه في القطاع الصناعي وتطبيق نظام تسعير حقيقي للمياه، كما يجب إلزام الصناعات باستخدام أنظمة إعادة التدوير والتحلية، وإلا فإن استمرار الوضع الراهن سيؤدي إلى تسارع عمليات التصحر في البلاد وتهديد البنية التحتية للحياة في العديد من المناطق.
توقع خريف جاف في إيران
أشار عيسى بزرگزاده، المتحدث باسم قطاع المياه في البلاد، إلى أن خريف هذا العام سيكون مصحوبًا بالجفاف ونقص المياه، قائلاً: “حاليًا، لا تتجاوز نسبة امتلاء سدود محافظة طهران ١٣٪، وبشكل متوسط، تبلغ نسبة امتلاء سدود البلاد حوالي ٣٤٪”.
وتشير هذه الأرقام بوضوح إلى أن الجزء الأكبر من قدرة تخزين المياه في البلاد في وضع حرج، وأن الاعتماد على هطول الأمطار المحتملة في الخريف ليس أمرًا واقعيًا.
وأضاف أن “أكثر من ٨٠٪ من مساحة إيران تواجه نقصًا حادًا في المياه”، مؤكدًا أن التخطيط الحالي لا يعتمد على أي هطول فعّال في الخريف، وأن المحافظات الشمالية فقط قد تشهد تحسنًا نسبيًا في الظروف.
نقص حاد في الموارد المائية بإيران
أشار مجيد عباسبور، الباحث والخبير البيئي، في حديثه مع جريدة جامجم إلى التراجع الملحوظ في الموارد المائية في البلاد، قائلاً: “في الماضي، كان حجم المياه الجاري في البلاد نحو ٤٠٠ مليار متر مكعب سنويًا، لكن وفقًا لأحدث الإحصاءات، أصبح هذا الرقم حاليًا حوالي ٣١٠ مليارات متر مكعب”.
وبطبيعة الحال، فإن هذا الانخفاض يشير إلى نقصٍ حاد في الموارد المائية، وللأسف، زاد عمق الآبار في بعض المناطق، ما يدل على أن الطبقات الجوفية قد تراجعت بشدة وأن توازنها الطبيعي قد اختل.
وأضاف: “جزء من هذا الاستهلاك يعود إلى الصناعات، للأسف؛ ففي بلادنا لا يتم تقدير قيمة المياه الصناعية، ويقوم العديد من المصانع، بالسحب مباشرة من الآبار العميقة بدلًا من استخدام مياه الصرف أو المياه المعاد تدويرها. أما في العالم اليوم، فقد اتجهت الدول إلى استخدام أنظمة معالجة مياه الصرف الصناعي لإعادة استخدام المياه نفسها في الاستهلاك الأقل أهمية، ومن الضروري في إيران أيضًا إنشاء مثل هذه النُظم على المستوى الوطني، بحيث تُلزم المصانع بإعادة تدوير المياه”.
استخدام الموارد البديلة للمياه في إيران
أشار عباسبور إلى ضرورة الاستفادة من الموارد البديلة للمياه، قائلاً: “في بعض الصناعات، مثل “شركة فولاد مباركه والصناعات في شرق البلاد”، يتم استخدام مياه الخليج العربي وخليج عمان، ويمكن أن يكون هذا الأسلوب فعّالًا لبعض الصناعات، لكن لا ينبغي الاعتقاد بأن نقل المياه من البحر إلى جميع مناطق البلاد ممكن، فالتكلفة العالية للنقل والمعالجة تجعل هذا الخيار غير عملي للعديد من الصناعات، وبالتالي يجب التركيز على تعديل نمط الاستهلاك وإعادة تدوير مياه الصرف.
وأوضح الخبير: “في مناطق مثل أذربيجان وشمالي غرب إيران، حيث توجد صناعات الأسمنت والمناجم، يتم استهلاك المياه بما يتجاوز القدرة الطبيعية للطبقات الجوفية، وفي هذه المناطق، حصة مياه “بحيرة أرومية” معرضة للخطر هذا إلى جانب التهديد بوقوع هبوطٍ أرضي، فإذا لم يتم تطبيق إدارة سليمة، سنواجه جفافًا كاملًا للبحيرات وهجرة واسعة للسكان، لذا يجب على الحكومة وقطاع الصناعة التعاون لإنشاء نظام مستدام لإدارة المياه، لأن المستقبل البيئي للبلاد مرتبط بالقرارات التي نتخذها اليوم.
كما أن إيران خلال العقدين الماضيين تحولت من دولة تتمتع باحتياطيات مائية جوفية موثوقة إلى بلد يضم ٤٢٧ سهلًا محظورًا، وأنهارت فيه الأنهار وأضبح امتلاء السدود شبه منخفض، وتقلصت الموارد المتجددة بشكلٍ حاد، حتى وصل الأمر إلى هبوط الأرض، مما يدل على أن أزمة المياه في إيران دخلت مرحلة حرجة ومتعددة الأبعاد.
وأكد أن أزمة هبوط الأرض ليست مقتصرة على السهول الزراعية والمناطق الإنتاجية فقط، بل إن المدن الكبرى، لا سيما العاصمة، معرضة للخطر بشكل مباشر، فمدينة طهران، على الرغم من موقعها فوق تراكيب جيولوجية حساسة، واستهلاكها المرتفع للمياه الجوفية في الماضي والحاضر، فهي عرضة بشدة لهبوط الأرض.
وأوضح أن إدارة أزمة هبوط الأرض تتطلب إصلاحات جوهرية في تخصيص واستهلاك المياه، حيث يتمثل الإجراء الأول في السيطرة القصوى على السحب غير القانوني وبما أن ٤٢٧ سهلًا في حالة حرجة، فإن تشديد الرقابة وإغلاق الآبار غير المرخصة أمر حيوي، ويشمل الإجراء التالي استبدال المحاصيل عالية الاستهلاك بالمحاصيل قليلة الاستهلاك، واستخدام طرق ري حديثة، ووقف الاستخدامات غير الضرورية للمياه.
ــــــــــــــــــــــــ
تقرير مترجم من جريدة “جام جم”، كتبته: زهرا رجايى، بعنوان “آب در چاه رقابت” (بالعربية: الماء في بئر المنافسة أي (منافسة بلا جدوى)، بتاريخ: 27 مهر 1404 هـ. ش. الموافق 19 أكتوبر 2025م.
