تجدد اشتعال المواجهة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، فقد ردّت بكين على التعريفات الجمركية الجديدة وتهديدات ترامب بفرض قيود جديدة على صادرات العناصر الأرضية النادرة، وهو إجراء أحدث صدمة في الأسواق العالمية.
تسعى الصين، مستفيدة من مواردها الحيوية، إلى خلق أداة ضغط جيو – اقتصادية فعالة ضد واشنطن، من دون أن تغلق باب المفاوضات بالكامل، والنتيجة هي عودة إلى حرب تجارية قد تزعزع استقرار مستقبل الاقتصاد العالمي مرة أخرى.
الرد على التعريفات الجمركية
وفي واحد من أكثر أحداث هذا العام إثارةً للدهشة، قرر عدد قليل من الدول الرد بالمثل على التعريفات الجمركية التي فرضها دونالد ترامب، وفضّلت معظم الحكومات جانب التهدئة للرئيس الأمريكي وتجنب المزيد من التوتر، بدلاً من الدخول في مواجهة مكلفة مع واشنطن.
ووفقا لما نشرته مجلة “ذي إيكونوميست” البريطانية (بالعربية: الاقتصادي) كانت الصين استثناءً من هذه القاعدة، فمنذ البداية، تبنت بكين سياسة “الضربة بالضربة” ولم تترك تهديدات ترامب دون رد؛ حتى توصل الطرفان في الربيع الماضي إلى هدنة مؤقتة في اللحظات الأخيرة.
لكن هذه الهدنة لم تدم طويلا، وها هي ألسنة لهيب الحرب التجارية بين القوتين الاقتصاديتين العظميين في العالم تستعر من جديد.
في التاسع من أكتوبر، أعلنت الصين عن مجموعة جديدة من القيود على صادرات العناصر الأرضية النادرة؛ وهي مواد تلعب دوراً حيوياً في إنتاج المعدات الإلكترونية المتقدمة، من الهواتف الذكية إلى المنظومات العسكرية.
رداً على ذلك، أعلن ترامب أيضا عن فرض تعريفات إضافية بنسبة 100% على الواردات من الصين، ووضع ضوابط أكثر صرامة على تصدير “أي برمجيات حيوية وحساسة”.
وهو ما أدى إلى حدوث صدمة في الأسواق العالمية، إذ اطلق التوتر الجديد بين بكين وواشنطن موجة جديدة من هبوط الأسهم.
الإجراءات الانتقامية بين الصين وأمريكا
أدى انتشار أخبار الإجراءات الانتقامية الجديدة بين بكين وواشنطن إلى التهاب أجواء الأسواق المالية بسرعة، وهوت مؤشرات الأسهم العالمية.
هذا الانخفاض المفاجئ أنهى مسارا تصاعديا استمر عدة أشهر، والذي كان قد تشكّل بفعل الحماس الناجم عن التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي، ومع ذلك، لا تزال هناك نافذة أمل لعودة القوتين الاقتصاديتين من حافة الهاوية.
فقد تم تأجيل قرار ترامب بتنفيذ التعريفات الجديدة حتى الأول من نوفمبر، وهو موعد يسبق بشهر واحد بالضبط التنفيذ الكامل لقيود التصدير الصينية، ووصف الرئيس الأمريكي هذا التأخير بأنه جزء من “تكتيكه التفاوضي” لإتاحة الفرصة، على حد قوله، للحوار واحتمال التوصل إلى اتفاق جديد.
وفي توضيحه لقراره، قال ترامب: “لهذا السبب حددت التاريخ في الأول من نوفمبر، لنرى ما سيحدث”.
الصين وأمريكا تتجاوزان خلافاتهما
في شهر يونيو، بدا أن البلدين قد تجاوزا خلافهما حول صادرات العناصر الأرضية النادرة، فبعد مفاوضات في لندن، وعدت الصين بتحرير تدفق صادرات المعادن الحيوية، وسحبت الولايات المتحدة تهديدها بتقييد صادرات محركات الطائرات النفاثة وبرمجيات تصميم الرقائق الحساسة.
في ذلك الوقت، كانت الآمال كبيرة في أن يتمكن ترامب والرئيس الصيني شي جين بينج من تخفيف التوترات في قمتهما المقبلة في كوريا الجنوبية وإبقاء مسار الحوار مفتوحا، لكن هذا التفاؤل لم يدم طويلاً.
إن الدافع الأول لبكين في إجراءاتها الأخيرة هو الاستعداد الإستراتيجي، بحيث توصل القادة الصينيون منذ سنوات إلى نتيجة مفادها أن العناصر الأرضية النادرة يمكن أن تعمل كأداة للضغط والقوة الجيو – اقتصادية في عصر الحروب الاقتصادية والتكنولوجية.
والآن، ومع وضع اللوائح الجديدة، تقوم الصين بمأسسة هذه الأداة في إطار قانوني لتتمكن من تحقيق أقصى استفادة منها في حال نشوب أزمة.
وتكتسب اللوائح الجديدة معناها بوضوح ضمن هذا الإطار، فقد أصبح نطاق ضوابط بكين على صادرات العناصر الأرضية النادرة الآن أوسع بكثير من القيود السابقة، ووفقاً لهذه اللوائح، لا يقتصر شرط الحصول على ترخيص على الصادرات المباشرة للمعادن فحسب، بل يشمل أيضاً أي منتج يحتوي حتى على كميات ضئيلة من العناصر النادرة المنتجة في الصين، سواء تم تصنيع هذا المنتج بواسطة شركة أجنبية أو تم طرحه في سوق أجنبية.
وقد امتد نطاق هذه القيود ليشمل حتى السلع التي لا تحتوي أصلاً على عناصر نادرة صينية، ولكنها أنتجت باستخدام تقنيات استخراج أو صهر أو تصنيع مغناطيسي مملوكة للصين.
الصين تسيطر على جزء من سلاسل التوريد العالمية
وبالاعتماد على قوانينها الداخلية، تفرض الصين سيطرتها عمليا على جزء من سلاسل التوريد العالمية.
ويمكن للصين في أوقات الاستقرار والهدوء تسهيل عملية إصدار التراخيص لتجنب أي اضطراب في تدفق التجارة العالمية والإنتاج الدولي، ولكن إذا تدهورت الأجواء في العلاقات مع واشنطن أو القوى الاقتصادية الأخرى، يمكن لهذه الآلية نفسها أن تتحول إلى أداة للضغط الموجه.
في مثل هذه الظروف، ستكون بكين قادرة على إبطاء عملية إصدار التراخيص، وإطالة أمد المراجعات، وزيادة مستوى الرقابة، لتعطيل إمدادات المواد الحيوية بشكل متعمد.
وتفرض لوائح الصين الجديدة بشأن العناصر الأرضية النادرة، سواء في أوقات السلم أو الأزمات، أعباء تنظيمية والتزامات جديدة على عاتق الشركات العاملة في سلسلة التوريد العالمية للتكنولوجيا.
ومع ذلك، للوهلة الأولى، لا يبدو أن هدف بكين من إقرار هذه القوانين هو التصعيد الفوري للتوترات، بل هو الإعداد الهيكلي لمواجهة الأزمات المحتملة في المستقبل.
على مستوى أعمق، يمكن اعتبار هذا الإجراء تكتيكا دبلوماسيا محسوبا، ويبدو أن الصين تحاول استخدام نفوذها الاقتصادي، وخاصة العناصر الأرضية النادرة، لممارسة ضغط إضافي على دونالد ترامب.
ومن المحتمل أن تأمل بكين في دمج أداة الضغط هذه مع مجموعة من الحوافز الاقتصادية: من وعود بشراء فول الصويا على نطاق واسع من أمريكا إلى الاستثمار في الصناعات التحويلية في البلاد، ويمكن لمثل هذا النهج أن يهيئ أجواء الحوار بطريقة تضع ترامب في موقف تفاوضي هش.
في هذا الإطار، ترى الصين القمة المرتقبة فرصة ذهبية لإجبار الرئيس الأمريكي، بمزيج من التهديد والمكافأة، على التراجع عن جزء من التعريفات الحالية على السلع الصينية، وكذلك لإبداء مزيد من التساهل في الرقابة على صادرات التقنيات المتقدمة، وخاصة الرقائق الإلكترونية.
لوائح الصين الجديدة انتقام قانوني من واشنطن
التفسير الثالث للوائح الصينية الجديدة هو أنها لا تهدف إلى تصعيد مخطط للتوترات، بل هي إجراء انتقامي ورد فعل نابع من غضب سياسي، وعلى الأرجح، هذا القرار هو رد مباشر على الإجراء الأخير الذي اتخذته واشنطن في أواخر الشهر الماضي، وهو إجراء تم تقديمه في شكل قانون يُعرف بـ”قانون الـ50%”.
بموجب هذا القانون، أعلن المسؤولون الأمريكيون أن أي قيود تجارية تُفرض على شركة أجنبية ستسري أيضاً على الشركات التابعة لها، شريطة أن تمتلك الشركة الأم ما لا يقل عن 50% من ملكية الشركة التابعة.
من وجهة نظر واشنطن، كان هذا الإجراء مجرد تعديل قانوني لسد ثغرة كانت الشركات تستغلها من خلال هياكل ملكية معقدة، لكن من منظور بكين، كانت القصة مختلفة تماماً، فالصين، التي طالما كانت شديدة الحساسية تجاه سياسات أمريكا التقييدية في مجالي التكنولوجيا والتجارة، اعتبرت هذا القانون انتهاكاً لروح المحادثات الأخيرة بين البلدين، التي كان من المفترض أن تمهد الطريق لخفض التوتر.
بغض النظر عن الدافع وراء لوائح الصين الجديدة بشأن الرقابة على صادرات العناصر الأرضية النادرة، سواء كان استعدادا لأزمة، أو تكتيكا للضغط، أو رد فعل غاضب، من الواضح أن الهدف الرئيسي لبكين لم يكن استفزاز دونالد ترامب بشكل مباشر.
فقد هدد الرئيس الأمريكي بأنه قد يلغي لقاءه المقبل مع شي جين بينج، وهو احتمال إذا تحقق، يمكن أن يفسد كل حسابات بكين الدبلوماسية ويغلق مسار الحوار.
في غضون ذلك، يُعد ضعف الصين التكنولوجي عاملاً يقيّد يد بكين في اتخاذ قرارات متطرفة.
فصناعة أشباه الموصلات في البلاد لا تزال في مراحل الاعتماد على التقنيات الأجنبية، وعلى المدى القصير، ستواجه تحديا خطيرا بدون برامج تصميم الرقائق الأمريكية.
هدية سانتا كلوز غير المقصودة للصين
لا شك أن القادة الصينيين ليسوا سعداء باحتمال فرض تعريفات أمريكية أشد، لكنهم ربما يعتقدون أن التعريفات التي تصل نسبتها إلى ثلاثة أرقام ستضر في النهاية بالاقتصاد الأمريكي أكثر مما تضر بالاقتصاد الصيني.
وحتى اليوم، لم تؤدِ تعريفات إدارة ترامب الحالية إلى ركود تضخمي في الاقتصاد الأمريكي الضخم، فقد حاولت العديد من الشركات الأمريكية امتصاص التكاليف وتجنب تحميلها مباشرة على المستهلك، لتحييد أثر التعريفات، ولكن مع تطبيق تعريفات بنسبة 100% أو أكثر، لن يكون ذلك ممكنا.
في مثل هذه الظروف، لا مفر من موجة من ارتفاع الأسعار، وإذا بقيت المهلة المحددة حتى الأول من نوفمبر، فسيحدث هذا الارتفاع عشية موسم التسوق لعيد الميلاد، وبتعبير ساخر، إذا تحقق هذا السيناريو، فقد يصبح “سانتا كلوز” حليفاً غير مقصود للصين؛ لأن الضغط التضخمي في الأسواق الأمريكية يمكن أن يثير الرأي العام ضد سياسة ترامب التعريفية، ويخدم في النهاية مواقف بكين في المفاوضات المستقبلية.
على الرغم من تصاعد التوترات، يبدو أن القوتين العظميين لا ترغبان في استمرار الصراع التجاري، ومع ذلك، فإن مسار التراجع صعب ومكلف لكلا الطرفين.
في بكين، قد يكون المسؤولون مستعدين لتقديم ضمانات بشأن كيفية تنفيذ نظام التراخيص الجديد لاستعادة ثقة الأسواق العالمية، لكن من غير المرجح أن تصل الحكومة الصينية إلى حد إلغاء أو تعليق لوائحها الجديدة تحت ضغط خارجي.
في المقابل، لا يريد دونالد ترامب أن يظهر بمظهر الضعيف أو من يقدم التنازلات، فهو يقدم الحرب التجارية مع الصين لجمهوره المحلي كرمز للقوة و”إعطاء الأولوية لمصالح أمريكا”.
استياء داخل أمريكا من سياسات ترامب
ومع ذلك، تُسمع أصوات استياء داخل إدارته، فبعض الشخصيات البراجماتية مثل وزير الخزانة سكوت بيسنت والممثل التجاري جيمسون جرير غير راضين عن التطورات الأخيرة؛ لأنهم يرون أن شهوراً من الجهود والمحادثات مع الجانب الصيني قد ذهبت سدى.
كان وزير الخزانة الأمريكي، سكوت بيسنت، قد قال بعد أول لقاء له مع المسؤولين الصينيين في جنيف إن جزءاً كبيراً من تصعيد التوترات التجارية في الماضي كان يمكن تجنبه لو أن البلدين أقاما قنوات اتصال مباشرة بينهما في وقت أبكر وبشكل أكثر انتظاماً.
وأكد أن المحادثات المستمرة يمكن أن تمنع القرارات المتسرعة وردود الفعل الانتقامية، لكن تطورات الأيام الأخيرة كشفت حقيقة أخرى، وهي أنه حتى مع وجود الحوار، يظل خطر الصراع وسوء التقدير قائماً بين القوتين العظميين.
خاتمة
عليه فإن بنية العلاقات بين بكين وواشنطن متشابكة وفي الوقت نفسه تفتقر إلى الثقة، وهذا الترابط الاقتصادي يجعل الانفصال الكامل شبه مستحيل، بينما انعدام الثقة العميق يغلق الطريق أمام تسوية دائمة.
ــــــــــــــــــ
ترجمة مقالة تحليلية من موقع “فرارو” بعنوان “آیا آتشبس تجاری آمریکا و چین به پایان رسیده است؟ هدیه بابانوئل به چینیها” (بالعربية: هل انتهت الهدنة التجارية بين الولايات المتحدة والصين؟ هدية “سانتا كلوز” للصينيين) بتاريخ ٢١ مهر ١٤٠٤ هـ. ش. الموافق ١٣ أكتوبر ٢٠٢٥م.
