شكّلت القوى الكبرى عبر مراحل التاريخ المختلفة عاملًا محوريًا في تشكيل مسار الدول العربية والإسلامية سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا، باستثناء حقب تاريخية معينة تغيّرت فيها المعادلة من خلال الدور العربي والفتوحات الإسلامية، إلى آخره.
وفي ظل الأحداث السياسية الحالية، ما بين تسوية جارية للصراع في غزة واستمرار المواقف الغربية والأمريكية من الدور الإيراني في المنطقة، إلى تصاعد دور محور الاعتدال سياسيًا ودبلوماسيًا بالتوافق مع الغرب ورضا الولايات المتحدة الأمريكية بطبيعة الحال، يثور التساؤل في الواقع عن حقيقة ما نشهده:
هل هو استمرارية وتكرار لأدوار قديمة في ثوب جديد، أم أن السياسة دائمًا متجددة وفق كل عهد وطبيعة متغيراته؟!
بدايةً يمكن القول إنّ الغرب، سواء في صورته الاستعمارية الأوروبية القديمة أو في ثوبه الاستعماري الأحدث ممثلًا في الولايات المتحدة الأمريكية، قد أسّس وجوده وشرعيته على سلطوية العلاقة مع الشرق بوجه عام، والمتغير في ذلك هو أسلوب التفاعل:
قوة عسكرية، أو قوة ناعمة، أو مزيج بين الآليات المختلفة.
وبما أن القوة لا تكتمل إلا إذا تجلّت في صورتها بعيون الآخرين، نجد أن رواسب الحقبة الاستعمارية التي تعرّضت لها دول العالم الثالث نجحت في ترسيخ صورة الغرب بوصفه النموذج التنموي الأوحد والملجأ السياسي، مع أنه في الواقع يصنع المشكلات في الشرق الأوسط، ثم يسعى إلى حلّها.
ومن ثَمّ، كان الغرب دوماً يصنع التاريخ في الشرق الأوسط كالروائي الشعبي في أسوأ طبعاته، حين يصنع حبكة مشوّقة ثم يسعى إلى حلّها، مع أنها لم تكن لتوجد إلا من خلاله.
وفي ذلك السياق يتجلّى الموقف الغربي من إيران وحركات المقاومة في العالم الثالث، على اعتبارها حلقة من حلقات مسلسل الغرب المصنوع سلفًا في معامل السياسة الأمريكية، والذي ضمّ في أطرافه الشيوعية والإرهاب والترويج للانقلابات في العالم الثالث وغيرها من الآليات عبر التاريخ.
فإيران تمثل – بصرف النظر عن تقييم دوافعها الحقيقية ونظامها السياسي – الدولة النموذج لما يسمى بالخروج من الإطار السياسي الذي يتعيّن على الجميع السير فيه، ومن ثَمّ فهي مرفوضة من الغرب كنموذج، وفي الوقت ذاته تُستخدم وسيلة للتدخل في شؤون الشرق الأوسط.
وعليه فإن إيران، شاءت أم أبت، تلعب دورًا متعدد الأغراض.
ومع اختلاف التجربة، نجد أننا إذا ما نظرنا إلى الوراء لتأمل حركة التاريخ من خلال نماذج بارزة، ندرك أن الغرب لم يقبل يومًا النماذج المختلفة التي تقدّم أطروحة سياسية أو اقتصادية تنافس أو تغيّر الطريق الذي ينبغي على الجميع السير فيه.
وبالتالي، فقد الشرق نماذج لافتة – بصرف النظر عن تباين الحكم عليها من فرد لآخر – مثل محمد علي وجمال عبد الناصر كنماذج بارزة، لأنهما قدّما نموذجًا مغايرًا للحاكم الشرقي.
وبالطبع لا يمكن لدولة حديثة الآن أن تحاكي التجارب التاريخية، ولا نتوقع دورًا لإيران في المنطقة قد يقارب أمجاد التاريخ الغابر، ولكن لكل عصرٍ رجاله، والمختلف دومًا غريبٌ، في الدول والأفراد على حد سواء.
لذا يمكن القول إن النموذج الإيراني سياسيًا مرفوض لعدة عوامل من الولايات المتحدة والغرب، أبرزها:
ــ قيام السياسة الغربية على ترسيخ نمط “الاعتدال الدبلوماسي” في الشرق الأوسط، القائم بدورٍ ما لكنه بعيد عن إثارة المشكلات، فهو النموذج الوحيد المقبول.
ــ القوة العسكرية والنووية المتحالفة مع الأيديولوجية المغايرة للسائد تمثل ثقلًا واقعيًا لا شكليًا، ومن ثم تشكّل تهديدًا لمصالح الغرب.
ــ الدولة التي تفكّر في طرح فكرٍ سياسي مغاير، سواء استندت إلى دوافع قيمية أو برجماتية أو مزيج بينهما، تُعدّ مثالًا خطيرًا لا يمكن تركه بلا مشكلات تعترض طريقه، حتى لا يصبح قدوةً لغيره. ومن ثم تبقى الساحة السياسية دومًا ما بين “الاعتدال” الذي تطمئن له قلوب ذوي المصالح، وبين الدول المنقسمة داخليًا التي تسهم مع الغرب في تحقيق أهدافه المناهضة للنهضة الحقيقية.
ــ كما أن الغرب يحبّذ دومًا مبدأ “تحديث واجهة الفقر والمشكلات” من خلال التنمية الشكلية، لكنه يرفض نمط التنمية الذي قد يتجه نحو فكرٍ مغاير لحل المشكلات الفعلية في الشرق الأوسط سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا.
ــ وحيث إن حلّ الملفات السياسية يكون دومًا بيد القوى الكبرى، فإن النمط السياسي الذي يقبل بذلك يجب أن يقوم على اعتبارات الدبلوماسية والمواءمة، لا الأيديولوجيا بما تحمله من متاعب ومواقف بطولية لا يحتملها زماننا السياسي الجميل.
وبالتالي، فإن الدول الكبرى لن تسمح أبدًا لدولة شرق أوسطية بأن تقوم بدور “الإمام الناطق في الكتيبة الخرساء”، بل المطلوب هو مناخ سياسي يتناسب مع الدور الأمريكي الحالي في تسوية أزمة غزة – على سبيل المثال – وهو تطبيق واقعي لكل ما قيل سابقًا.
فالمشكلة من صنع إسرائيل، الابنة المدللة فعليًا للولايات المتحدة والغرب، وإن أعلنت الأولى وأنكرت الثانية أحيانًا، فهذا هو الواقع بلا رتوش من الكلمات المهدِّئة التي تُزيّف الحقيقة بلا داعٍ.
والأزمة نموذجٌ للرواية السياسية القائمة على “الإثارة السياسية” التي تُعدَّل مواقفها بين الحين والآخر حتى لا يملّ المشاهد.
كما أن الوعي بالأزمة في عمقها يدفعنا للتساؤل عن مصير المقاومة في حد ذاتها: هل سيكون ما يحدث جولة من جولات يعقبها تغيّر في المستقبل؟ وهل يمكن تصفية مقاومة شعب؟
إن المستقبل يحمل العديد من التكهنات، سواء بالنسبة للقضية الفلسطينية أو لمواجهة دولة ذات رؤية مغايرة، فالأحداث قد تتغير، وإن ظلّ المبدأ لدى الغرب واحدًا.
فالشرق عبر التاريخ يشبه أسطورة “بيجماليون” الذي صنع التمثال وعشقه، لكنه أراده على هواه، فالكمال الفني – في نظره – لا ينبغي أن تُلوّثه التعبيرات البشرية، وعلى هذا النهج لا ينبغي لأسطورة العلاقة بين الشرق والغرب أن تتغيّر، كي لا يتمرد الشرق على الغرب ويقول كلمة مختلفة تقلب موازين الأمور كما يجب أن تكون.
وقديمًا تساءل المفكر المصري والأديب توفيق الحكيم عن اهتمام الدول الكبرى بالمخترعات على حساب توفير الاحتياجات الأساسية للشعوب، معلقًا بأن التفاوت في مصلحة الغرب دومًا، فلو شاء لتغيّر الوضع إلى الأفضل في العالم، لكن لا بدّ أن يكون هناك “أسد” وقطيع أضعف، ليكتمل المشهد في أبعاده الأزلية في جوهرها.
وعندما كتب جورج أورويل رواية 1984م، وتخيّل وزارة تُسمى “وزارة الحقيقة” تقوم بتغيير التاريخ، لم يحلم أن يأتي الرئيس الأمريكي ترامب في عصرنا الحاضر ليحلم بالحصول على جائزة نوبل للسلام، ويكيّف القصة البوليسية التشويقية لتخدم مصالحه السياسية والاقتصادية على المدى المتوسط والطويل، دون خجلٍ من عملية “غسيل عقول الشعوب” التي لا تعرف التوقف ولا التأنّي في عالمنا المعاصر.
وأخيرًا، تحضر في ذهني مقولة قرأتها ذات يوم:
“سيتضاءل الشر كثيرًا في العالم، إذا كفّ الناس عن ستره برداء الخير”.