قبل عدة أسابيع، ومع تصاعد الضغوط الأوروبية والأمريكية وتفعيل الترويكا آلية سناب باك لإعادة فرض عقوبات مجلس الأمن على إيران، قدمت إسرائيل لسوريا مقترحًا مفصلًا لاتفاق أمني جديد، يشمل خريطة تمتد من جنوب غربي دمشق حتى الحدود مع إسرائيل. وفي المقابل، أفادت وسائل إعلام إسرائيلية بوجود فجوات كبيرة بين مواقف سوريا وإسرائيل تجاه الاتفاق، ولم يتم تجاوزها رغم جهود الوساطة الأمريكية واجتماعات وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، مع وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني.
إعادة هندسة اتفاقية فك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل
يهدف الاتفاق الأمني الجاري التفاوض عليه إلى استبدال اتفاق “فك الاشتباك” الذي تم التوقيع بوساطة أمريكية عام 1974 بين سوريا وإسرائيل، حيث أصبح هذا الاتفاق غير ذي صلة بعد انهيار نظام الأسد واحتلال إسرائيل للمنطقة العازلة على الجانب السوري من الحدود، كما يستند المقترح الإسرائيلي إلى اتفاقية السلام التي أبرمتها إسرائيل مع مصر عام 1979.
ويعتمد المقترح على تقسيم المنطقة إلى ثلاثة نطاقات بدرجات مختلفة من التسليح والوجود السوري، كما حدث في سيناء بعد كامب ديفيد، وهي:
أ- مناطق منزوعة السلاح قرب الحدود.
ب- مناطق خفيفة التسلح خلفها.
ج- مناطق يسمح فيها بتواجد سوري محدود.
والواضح أن هذا التقسيم يفرض معايير مختلفة لقوة ونوع القوات داخل كل نطاق، في المقابل، يُتيح لإسرائيل حدودًا مرنة لتقييد الوجود العسكري السوري أحادي الجانب، مثل حظر الدبابات والأنظمة الجوية بالقرب من حدودها، بالإضافة إلى منع الطيران السوري فوق الشريط الممتد بين دمشق والحدود، أو تبني آليات رقابة جوية تسمح لإسرائيل بممرات جوية أو القدرة على توجيه ضربات في حالات محددة. كل ذلك سيُسهل استهداف خطوط الإمداد الإيراني ويُعيد توازن الردع الجوي.
بالرجوع إلى اتفاقية فك الاشتباك لعام 1974، فقد كان هدفها تثبيت خطوط وقف إطلاق النار على جبهة الجولان، وإقامة منطقة عازلة تحت إشراف قوات الأمم المتحدة، مع تقليل احتمالات اندلاع مواجهة مباشرة بين الجيشين السوري والإسرائيلي، إلا أن المقترح الإسرائيلي الحالي يسعى إلى توسيع وتطوير آليات “فك الاشتباك” وإعادة هندسة الخريطة الأمنية لسوريا، لتتجاوز الحد الفاصل في الجولان وتشمل مناطق أقرب إلى العاصمة دمشق.
أما الاختلاف الجوهري بين الاتفاقين هو أن اتفاق 1974 كان محدود النطاق ومحصورًا بالجولان، بينما المقترح الحالي، إذا تم تنفيذه، سيكون سقفًا أمنيًا جديدًا يمنح إسرائيل اليد العليا جنوب دمشق، ويتيح لها الاقتراب أكثر من طرق الإمداد الإيرانية، مع تقليص قدرة دمشق على التحكم العسكري المباشر في الجنوب، وفتح نافذة لاستبدال الدفاع العسكري بالشرطة المحلية القابلة للتأثير الخارجي.
بمعنى آخر، يبدو أن إسرائيل تستهدف صراحةً منع ترسخ النفوذ الإيراني في الجنوب السوري وقطع طرق الإمداد إلى حزب الله، سواء عبر حظر تجهيزات معينة أو رقابة استخباراتية جوية وبرية.
الخيارات السورية للتعاون الأمني مع إسرائيل
تعتبر خيارات سوريا في هذا الاتفاق الأمني محدودة جدًا، وتحتمل عدة سيناريوهات، وهي:
أولًا: الرفض الكلي أو القبول الجزئي للاتفاق، لأنه في حال رفضت سوريا البنود الجوهرية أو قبلت جزئيًا بالاتفاق الأمني، قد تقوم إسرائيل بخطوات أحادية، ما قد يخلق اشتباكات محلية. يقابل ذلك محاولات إيرانية للتصعيد عبر الصواريخ أو وكلائها مثل حزب الله أو ميليشيات عراقية، وهو ما قد يحول المنطقة إلى جبهة احتكاك مفتوح.
ثانيًا: التوصل إلى اتفاق شامل، وإذا تم التوصل إليه بشروط تبادل واحتواء إقليمي، أي صفقة برعاية أمريكية وروسية تتضمن مساعدات لإعادة إعمار سوريا مقابل الالتزام بعدم تمركز قوات إيرانية أو تشكيل قواعد عسكرية إيرانية في الجنوب، فإن ذلك سيعتبر إنجازًا دبلوماسيًا كبيرًا يمنع خطوط الإمداد التقليدية لإيران عبر سوريا. مع ذلك، سيتطلب نجاح هذا السيناريو رقابة دولية صارمة واستقرارًا داخليًا طويل الأمد.
ثالثًا: تموضع إيراني أعمق ودعم سوريا لطهران، ويعتمد هذا الخيار على نجاح إيران في خلق شراكة إستراتيجية مع الحكومة السورية، ما يؤدي إلى وقوف سوريا إلى جانب إيران وروسيا، بل وسماحها بتموضع إيراني أعمق في المناطق الحدودية والجنوبية. في هذه الحالة، ستضطر إسرائيل إلى الاعتماد على ضربات جوية دورية وعمليات استخباراتية متقدمة، مع وجود مخاطرة عامة بتدهور الوضع الإقليمي.
وبالتالي، فإن احتمالية نجاح الاتفاق الأمني بين دمشق وتل أبيب يعتمد على وجود روسيا وإيران كفاعلين مؤثرين، أي أن أي حل يجب أن يأخذ مصالحهم بعين الاعتبار، وإلا فإنه سينهار. أما إذا اعتمدت إسرائيل على الجماعات المحلية لخلق نفوذ مؤقت، فسيكون قصير المدى وسوف يخاطر بغياب الشرعية طويلة الأمد، بالإضافة إلى تأجيج الصراعات القبلية والطائفية.
تداعيات الاتفاق الأمني الإسرائيلي على التموضع الإيراني
لا يعتبر الاقتراح الإسرائيلي الأخير لمد مناطق منزوعة السلاح ومنع الطيران من جنوب غرب دمشق حتى الحدود الإسرائيلية مطلبًا حدوديًا تقليديًا، بل هو محاولة لخلق مساحة عمق إستراتيجي تمنع وجودًا عسكريًا إيرانيًا أو نقل أسلحة من إيران عبر سوريا إلى لبنان، مع فتح إمكانات استخباراتية ولوجستية، وإتاحة إمكانية توجيه ضربات عبر ممرات جوية أقل تعرضًا للرقابة السورية التقليدية.
علاوة على ذلك، وفي حال الموافقة على الاتفاق الأمني مع سوريا، سيترتب عليه الاقتراب الاستراتيجي من إيران، إذ إن فرض مناطق لا وجود فيها للقوات السورية، وتخضع لقوات أمن داخلي فقط، سيتيح لإسرائيل رصد وإيقاف خطوط الإمداد وسكك نقل الأسلحة المحتملة من إيران عبر دمشق إلى الجنوب أو لبنان، وهذا بلا شك يقطع الطرق التقليدية للتموضع الإيراني.
أما وجود ممرات جوية تحت إشراف إسرائيلي فوق الامتداد من دمشق إلى الحدود، فسيخلق إمكانية لإسرائيل من أجل السيطرة الجوية الفعلية على الأجواء فوق ممرات نقل قد تستخدمها إيران لحركة طائرات شحن أو طائرات بدون طيار. والنصوص التي ذُكرت في الاقتراح تتضمن هذا البند صراحةً.
بالإضافة إلى ذلك، فإن إنشاء إسرائيل لممرات استخباراتية واستغلال ميليشيات محلية، من خلال دعم أو دفع أجور لفصائل مثل بعض مجموعات الدروز أو ميليشيات سورية، سيمكنها من الحصول على وحدات بشرية متعاونة داخل الجنوب السوري، وهذا يعزز الرصد البري، ويقلل القدرة الإيرانية على تثبيت بنى تحتية سرية.
أما بالنسبة لحق المرور الجوي، فقد أشارت بعض وكالات الأنباء، أبرزها “أكسيوس”، إلى بنود تسمح لإسرائيل بوجود ممر جوي أو قدرة على توجيه ضربات عبر أجواء سوريا في حالات معينة، وهو ما يمنحها عمليًا إمكانية استهداف شبكات الإمداد المتصلة بإيران دون المرور عبر لبنان أو البحر. ويُعد هذا البند ذو حساسية عالية وقد يؤدي إلى تصعيد سريع.
مجمل الحديث أن الاتفاقيات الأمنية ستمنح شرعية دولية لوجود قوى ثالثة في الجنوب، سواء كانت بوساطة أمريكية أو روسية، كما ستستعين هذه الاتفاقيات بضغوط اقتصادية وسياسية لحرمان إيران من البنى التحتية أو الحد من وصولها بشكل محدود. بالإضافة إلى ذلك، ستجعل أي تحركات إيرانية داخل سوريا تُعتبر انتهاكًا للاتفاق.
سيناريوهات الرد الإيراني على الاتفاق الأمني الإسرائيلي
في حال ضاقت الطرق التقليدية عبر سوريا، ستبحث طهران عن بدائل أقل انكشافًا. وقد أفاد معهد واشنطن بأن إيران اعتادت تحويل شحنات عبر طرق بحرية وبرية معقدة عندما تتعرض طرقها التقليدية للخطر، وقد تستغرق أسابيع إلى أشهر لإعادة تنظيم السلاسل اللوجستية وإيجاد طرق ملتوية. ومع ذلك، ستواجه هذه البدائل ارتفاعًا في تكاليف النقل وتعريض الشحنات الأكبر للضبط أو الاعتراض، إلا أن احتمالية تنفيذها تبقى أكبر من احتمال حدوث تصعيد عسكري مباشر.
في المقابل، قد تعوض إيران أي قصور لوجستي عبر تعزيز حضور حزب الله في لبنان، أو عبر توظيف قواعد إقليمية عراقية – ميليشيات موالية وإدارات لوجستية – لتمرير معدات وقطع غيار نحو سوريا أو لبنان. ويكشف هذا – بشكل غير مباشر – أن إسرائيل وأمريكا سبقَتا إيران بخطوة حينما حرضتا حكومة جوزيف عون على نزع سلاح حزب الله وتجريده من قدراته العسكرية، على الأقل لتقليصها كشرط لقطع الطريق أمام بدائل إيران، وهو ما قوبل برد إيراني اعتبر تداخلًا في الشؤون الداخلية للبنان.
وتدرك إيران بلا ريب منطق إسرائيل في نزع السلاح ليس فقط ضد حزب الله كقضية محلية، بل كخطوة استباقية لحرمان إيران من وكلائها الفعّالين على الأرض. ولهذا، تضع إيران خيارين بديلين:
1- رد متدرج عبر وكلائها، من خلال شن هجمات محدودة لردع إسرائيل أو لإظهار قدرتها على الرد دون الدخول في حرب شاملة، مع مخاطرة تصعيد إقليمي محتملة، وتبقى احتماليته ضعيفة خصوصًا وأن إيران تسعى عادة للحفاظ على حدود الرد المتحكم من أجل تفادي المواجهة المباشرة مع إسرائيل أو التحشيد الأمريكي.
2- شن هجمات سيبرانية على البنى التحتية الإسرائيلية، لتشويش أنظمة الرقابة الجوية وتعطيل السلاسل اللوجستية والاستخباراتية، مع الترويج لمسار سياسي مضاد عبر روسيا وتركيا ومصر، للضغط على دمشق أو الجهات الضامنة لتخفيف شروط الاتفاق أو تعطيله.
وهذا يعني أن إيران ستعتمد أولًا على المسارات الأقل كلفة سياسية، مثل دعم حزب الله وتوسيع المسارات العراقية والبحرية، مع اعتماد تكتيكات سيبرانية ودبلوماسية لتقليل أي مواجهة مباشرة. ويعتمد نجاح سياسة إسرائيل في نزع سلاح حزب الله والتطويق الأمني على جنوب سوريا بالتساوي على قدرة واشنطن وموسكو في إدارة التوازنات السياسية في بيروت ودمشق؛ وإلا فإن الخطة قد تدفع المنطقة نحو موجة تصعيد متدرج، وأكثرها احتمالًا صراعات عبر وكلاء وهجمات سيبرانية متبادلة.
خاتمة
يعمل الاقتراح الإسرائيلي على خلق عمق جغرافي وجوي واستخباراتي لقطع طرق وصول إيران إلى لبنان. ونجاح هذا الاقتراح يعتمد على قبول دمشق تحت الضغوط الأمريكية والروسية، وقدرة إسرائيل على ممارسة ضغط محدود دون اندلاع مواجهة شاملة، مع مراعاة بدائل إيران الإستراتيجية.
ومع ذلك، لا يمكن تحليل الخطوات الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا بمعزل عن استراتيجية الضغط الأقصى على إيران. فقد أظهرت ردود فعل طهران تجاه تفعيل آلية سناب باك وتوجهها نحو الصين وروسيا ومصر محاولتها لتأمين مسارات بديلة لتجاوز العقوبات الأممية أحادية القرار الغربي. أما نجاح الوساطة المصرية في تقريب طهران من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وردود فعل الترويكا الأوروبية المنزعجة من هذا التقارب، إلى جانب العمليات الإسرائيلية في الاجتياح البري لغزة والضغط على سوريا لفرض السيطرة الأمنية، فتكشف المؤشرات أن النوايا الغربية تهدف إلى تقويض نفوذ إيران وفرض قيود صارمة على مشروعها النووي والإقليمي واستبداله بنفوذ إسرائيلي موسع في المنطقة.