يُعد استئناف العلاقات الدبلوماسية بين إيران ومصر، كقوتين تاريخيتين وجيوسياسيتين في الشرق الأوسط، نقطة تحول في إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية، إذ تتمتع هاتان الدولتان بتراث حضاري غني وموقع إستراتيجي، مما يمنحهما قدرات كبيرة للتأثير على الأمن والاقتصاد والاستقرار الإقليمي.
ولقد انقطعت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين منذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، بسبب توقيع مصر على معاهدة كامب ديفيد واستقبالها للشاه الإيراني السابق محمد رضا بهلوي، واستمر هذا الانقطاع لأكثر من أربعة عقود.
ومع ذلك، فإن التطورات الأخيرة، بما في ذلك اللقاءات رفيعة المستوى بين مسؤولي البلدين وتخفيف التوترات الإقليمية، خاصة بعد الاتفاق الإيراني – السعودي في عام 2023م، خلقت بيئة مواتية لاستئناف العلاقات.
في هذا المقال، نستعرض النتائج الإيجابية لهذا التقارب وتأثيره على الأمن الإقليمي.
السياق التاريخي والجيوسياسي
تتمتع إيران ومصر بتاريخ طويل من التفاعلات الثقافية والسياسية، حيث كانتا مركزين للحضارات القديمة في غربي أسيا وشمالي إفريقيا، وكانت العلاقات الدبلوماسية بينهما، حتى ما قبل الثورة الإسلامية في إيران، على مستوى عالٍ، لكن توقيع معاهدة كامب ديفيد واستقبال مصر للشاه الإيراني أديا إلى خفض مستوى العلاقات إلى مكاتب رعاية المصالح.
ولقد كانت العوامل الخارجية، مثل الضغوط الأمريكية ومخاوف دول الخليج، إلى جانب قضايا رمزية مثل تسمية شارع في طهران باسم خالد الإسلامبولي، عوائق رئيسية أمام تطبيع العلاقات، ومع ذلك، تُظهر التطورات الأخيرة، مثل تغيير اسم هذا الشارع إلى اسم السيد حسن نصر الله، إرادة إيران لإزالة العوائق الرمزية.
والحق أن مصر تعد بموقعها الإستراتيجي في البحر الأحمر وقناة السويس، وإيران، التي تسيطر على مضيق هرمز ولها نفوذ في الخليج وأسيا الوسطى والقوقاز، لاعبان رئيسيان في المعادلات الإقليمية، وتعزز الاشتراكات الثقافية، خاصة الاهتمام المشترك بآل بيت النبي (ص)، والروابط التاريخية مثل زواج الأميرة فوزية من محمد رضا بهلوي، الأسس الثقافية والاجتماعية للتعاون، إذ يمكن لاستئناف العلاقات بين البلدين أن يحول هذه الإمكانات المتوفرة إلى فرص عملية.
النتائج الإيجابية لإستئناف العلاقات
1ــ تعزيز الأمن الإقليمي وتخفيف التوترات: يواجه الشرق الأوسط تحديات أمنية متعددة، من بينها الصراعات في سوريا واليمن ولبنان وقطاع غزة. وإيران ومصر، كقوتين إسلاميتين، يمكن أن تسهما معًا في تخفيف التوترات الإقليمية.
ويمكن أن يعزز هذا التقارب الحوار بين الأديان ويدعم الوحدة الإسلامية، ما يؤدي إلى تقليل الصراعات الطائفية في مناطق مثل العراق ولبنان، وتُظهر التحليلات المنشورة في وسائل إعلام مثل «الجزيرة» أن تعاون إيران ومصر يمكن أن يشكل قوة موازنة ضد التدخلات الخارجية.
يعزز هذا التعاون السيادة الإقليمية عبر تقليل مستوى التبعية للغرب ويساهم في إنشاء هيكلية أمنية محلية، ووفقًا لجعفر قنادباشي، خبير الشؤون الإقليمية، يمكن أن يكون تقارب إيران ومصر رمزًا لوحدة أبناء العالم الإسلامي على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، مما يترك آثارًا إيجابية على قضايا العالم الإسلامي برمته.
2ــ تعزيز الاستقرار الإقليمي من خلال التنسيق في الملفات الرئيسية: تتشارك إيران ومصر في مصالح مشتركة نسبيًا إزاء ملفات إقليمية مثل قضية فلسطين وغزة. وتلعب مصر دورًا محوريًا في تسهيل دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، بينما تدعم إيران فصائل المقاومة الفلسطينية.
ويمكن أن يحسن استئناف العلاقات التنسيق بين البلدين ويساهم في تخفيف التوترات في غزة. على سبيل المثال، لقاء رئيسي إيران ومصر في نوفمبر 2023 في الرياض، ومحادثتهما الهاتفية في ديسمبر 2023، يعكسان إرادة مشتركة للتعاون في هذا المجال.
ولقد أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال هذا اللقاء أن مصر تأثرت أكثر من غيرها من تداعيات أزمة فلسطين وتسعى إلى علاقات عميقة مع إيران.
علاوة على ذلك، يمكن أن يساهم التعاون في أزمات مثل السودان، حيث يدعم كلا البلدين القوات المسلحة السودانية، في تعزيز الاستقرار الإقليمي، وأفادت تقارير صحفية من بينها تقرير منشور في جريدة «العربي الجديد» أن التنسيق الأمني والاستخباراتي بين إيران ومصر خلال العام ونصف العام الماضيين وصل إلى مستويات غير مسبوقة، وساهم في تقدم الجيش السوداني ضد قوات الدعم السريع.
3ــ مواجهة التدخلات الخارجية: تُعد التدخلات الخارجية، خاصة من الولايات المتحدة وإسرائيل، أحد العوامل الرئيسية لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط. ويمكن أن يؤدي تقارب إيران ومصر إلى تشكيل جبهة موحدة للحد من هذه التدخلات.
على سبيل المثال، دفع الهجمات على الملاحة في البحر الأحمر، التي أدت إلى انخفاض إيرادات قناة السويس، وهو ما جعل مصر تفتح باب التعاون مع إيران لتأمين هذا الممر الحيوي. وأكد بدر عبد العاطي، وزير الخارجية المصري، خلال لقائه مع عباس عراقجي في يونيو 2025، على أهمية الحفاظ على حرية الملاحة في البحر الأحمر.
تُظهر التحليلات المنشورة في «Responsible Statecraft» أن مصر، من خلال التوسط في المفاوضات النووية الإيرانية، تسعى للعب دور نشط في تخفيف التوترات الإقليمية، ولا يساعد هذا الدور في تقليل الضغوط الخارجية على إيران فحسب، بل يعزز أيضًا مكانة مصر كلاعب مستقل في المنطقة.
إن تراجع النفوذ العالمي للولايات المتحدة وانخفاض مصداقية الغرب دفعا الدول إلى تبني سياسة خارجية مستقلة، ما جعل إيران شريكًا محتملاً لمصر.
4ــ الفرص الاقتصادية والتجارية: توفر مصر، بتعدادها السكاني الذي يتجاوز 100 مليون نسمة وموقعها الإستراتيجي كبوابة لإفريقيا، سوقًا جذابًة لإيران.
وفي المقابل، يمكن لإيران، بمواردها النفطية والغازية الهائلة وتقنياتها المتقدمة في مجالات الصيدلة والبتروكيماويات والصناعات العسكرية، أن تساهم في تلبية احتياجات مصر في هذا الصدد، وتؤكد صحيفة «المصري اليوم» أن مصر يمكن أن تستفيد من إيران كبوابة للوصول إلى أسواق أسيا الوسطى، بينما تستفيد إيران من موقع مصر للوصول إلى إفريقيا. وتشمل مجالات التعاون الاستثمار المشترك في بنك التنمية الإسلامية، وشركات النسيج والشحن البحري، والسياحة الدينية. تُقدر مصادر مصرية أن تطبيع العلاقات يمكن أن يجذب سنويًا 5 ملايين سائح إيراني، ما سيعزز الاقتصاد المصري بشكل كبير. كما يمكن أن يؤدي خفض الرسوم الجمركية والاتفاقيات التجارية إلى تطوير الإنتاج المشترك وزيادة التجارة الثنائية.
5ــ تعزيز الدبلوماسية الإقليمية وتقليص نفوذ إسرائيل: يمكن أن يؤدي تقارب إيران ومصر إلى إضعاف مكانة إسرائيل في المنطقة. وتُشير تقارير منشورة في موقع «عربي بوست» إلى أن إسرائيل والولايات المتحدة تشعران بالقلق من هذا التقارب، لأنه يعطل حساباتهما الإقليمية.
ويمكن أن يزيد التعاون بين إيران ومصر في ملفات مثل فلسطين وغزة من الضغط على إسرائيل، ويدعم حل الدولتين، ما يسهم في تحقيق حقوق الفلسطينيين. ولعل زيارة عباس عراقجي إلى القاهرة وتأكيده على دخول العلاقات مرحلة جديدة تعكس هذه الديناميكية.
علاوة على ذلك، يمكن أن يساهم دور الأزهر في تعزيز الحوار الإسلامي – الإسلامي، بقيادة فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، في تخفيف التوترات الدينية وتعزيز الوحدة الإسلامية. ولعل هذه المبادرة، بدعم من المؤسسات المصرية، تُظهر تحولًا في نهج القاهرة تجاه إيران.
الخلاصة
إن استئناف العلاقات بين إيران ومصر يوفر فرصة تاريخية لتعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي، وتخفيف التوترات الطائفية، ومواجهة التدخلات الخارجية، وتطوير التعاون الاقتصادي والثقافي. يعتمد هذا التقارب على المشتركات الحضارية والجيوسياسية، ويمكن أن يؤدي إلى تقليص نفوذ إسرائيل والولايات المتحدة في المنطقة.
وعلى الرغم من التحديات مثل الضغوط الخارجية والخلافات الهيكلية، فإن التطورات الأخيرة، بما في ذلك اللقاءات رفيعة المستوى والوساطات الإقليمية، تُظهر عزمًا جادًا من الطرفين لإعادة بناء العلاقات، كما أن إدارة هذه العملية بحكمة يمكن أن تحول إيران ومصر إلى محور قوي يعيد تشكيل النظام الإقليمي، ما يعزز الأمن والتنمية لصالح شعوب الشرق الأوسط.
ـــــــــــــــــــــــ
محمدرضا مرادي، باحث في الشؤون الدولية، ومتخصص في السياسة الخارجية الإيرانية