اعتدت في السنوات الأخيرة على تلقي دعوات من سفارات الدول المختلفة، ليس لحضور حفل عشاء والتقاط الصور أو غيرها من الأمور البروتوكولية؛ ولكن لعقد جلسات “عصف ذهني” مع الدبلوماسيين للإجابة عن أسئلتهم بخصوص التطورات الدولية والإقليمية، وهي جلسات دورية يسعى فيها الدبلوماسيون إلى التقاط ما يدور في أفق المنطقة من تغيرات وارتجاجات.
وفي خلال العامين الأخيرين، كانت سفارة الجمهورية الكورية (كوريا الجنوبية) من بين الجهات الأكثر إلحاحًا في دعوتي لإلقاء محاضرة أمام طاقمها السياسي حول ما تشهده منطقتنا، وبخاصة في ما يتعلق بالصراع الإيراني – الإسرائيلي، غير أنّني اعتذرت مرارًا، تحت وطأة ضيق الوقت وكثرة الالتزامات.
لكن ديسمبر 2024 حمل معه عاصفتين قلبتا المشهد الكوري والإقليمي رأسًا على عقب:
الأولى: في الثالث من ديسمبر 2024، وقد تمثلت في الانقلاب الذاتي الذي قاده الرئيس الكوري الجنوبي يون سُك-يول على الشرعية الدستورية، بحيث ألقى بنفسه وببلاده في قلب إعصار لم تخرج منه البلاد إلا بعد ذلك التاريخ بأشهر طوال.
الثانية: في الثامن من ديسمبر 2024م، وتمثلت في سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، بما حمله ذلك من تداعيات زلزالية على الخريطة العربية والإقليمية وعلى مجمل الدور الإيراني الذي بات متقلصا في غربي أسيا.
وأمام هذين الحدثين، لم يعد الاعتذار ممكنًا، فقد بدا لي أن لحظة التاريخ تدق على الأبواب، وأن السياسة طوت الجغرافيا من الشرق الكوري إلى الغرب السوري في قارة أسيا الكبيرة الشاسعة العصية على الفهم والتحليل، وأن تلبية الدعوة الكورية ضرورة، لا مجاملة.
ثم أعطيت للقسم السياسي في السفارة موعدا في السابع عشر من ديسمبر 2024م، وفي هذه الظهيرة الباردة من هذا الشتاء الذي لم يسبق له مثيل، توجهت إلى مبنى السفارة الكورية في حي الدقي، بوسط القاهرة، ووجدت في استقبالي السيد/ تشوي بيونغ سون، الوزير المفوض والقنصل العام، الذي تولى مهام السفير إذ كان في إجازة ببلاده في تلك الفترة.
وقد بدا الرجل دمثًا، مفعمًا بلياقة كورية مدهشة، تجمع بين حرارة الشرق وانضباط التقاليد الأسيوية العريقة.
وفي مطلع اللقاء، ذَكّرتُ مُضَيِّفي باتفاقي مع القسم السياسي على ألا يتجاوز الاجتماع ستين دقيقة، إذ كان في انتظاري موعد آخر، ثم انطلقت الأسئلة متسارعة، كأنها وابل من السهام الكورية وكأننا في حرب ليس مع الأحداث فحسب بل مع تدفق عقرب الثواني في ساعة حجرة القنصل التي اكتست جنباتها بالخشب الفنلندي البني الأنيق.
وحين حانت الدقيقة التاسعة والخمسون، ألقيت نظرة ذات معنى على ساعتي، فابتسم الرجل وطلب مني تمديد اللقاء ثلاثين دقيقة أخرى، فوافقت، وكان أن امتدت الجلسة إلى تسعين دقيقة كاملة، بدت وكأنها مباراة كروية مشحونة، مقسّمة على شوطين، أو كأنها مباراة تنس مصغرة ربح فيها من سأل بمجموع النقاط في أشواط كسر الإرسال الحاسمة.
وفي خلال تلك الساعة ونصفها، تلمّست شغفًا عميقًا لدى أعضاء البعثة الكورية بمتابعة تفاصيل المنطقة، من جغرافيا الممرات إلى جيوسياسية التحالفات، ومن مسارات الصراع الإيراني – الإسرائيلي إلى مآلات الارتجاج السوري، في صدمة ليلة السبت حين غادر بشار الأسد متوجها إلى روسيا تاركا بلاده وحيدة تواجه الغضب والمجهول.
وفي نهاية النقاش، باغتني تشوي بجملة طريفة، قال فيها إن حديثي بدا لهم أشبه بحديث “منصة تشات جي بي تي”: دقيق في المعلومات، ومنسجم في التحليل، ومرتب في التسلسل وكأنها إجابات إلكترونية من منصة غير بشرية تدربت على مثل هذا النحو من العمل والتحليل.
ثم انتهى اللقاء، وكان أن أهداني الرجل شعار الدولة الكورية، علامة تقدير رفيعة في الثقافة الدبلوماسية الأسيوية، ورافقني أعضاء البعثة الدبلوماسية إلى بهو السفارة حيث التقطنا صورة تذكارية، تجمّد فيها الزمن لحظة عابرة لكنها حُمِّلت بدلالات بالغة عن عمق العلاقات المصرية ــ الكورية الجنوبية وما تحمله كوريا من صداقة دافئة للشعب المصري ولعقوله ولقواه في كل المجالات.
وها أنا أستعيد تلك الدقائق التسعون فجر هذا الإثنين، الخامس والعشرين من أغسطس 2025، بينما أتابع أنباء نتائج القمة الكورية الجنوبية – اليابانية في طوكيو، قُبيل لقاء مرتقب بعد ساعات بين الرئيس الكوري الجنوبي لي جيه-ميونغ والرئيس الأمريكي دونالد ترامب في واشنطن.
وفي النهاية وإن كان من كلمات واجبة في هذا الصدد فإن لي ملاحظتان:
الأولى: أن تلك الجلسة التي جرت في شتاء 2024م، كانت أشبه بعدسة مكبّرة بالنسبة لي ولهم على حد سواء، ففي تسعين دقيقة بالدقي، انعكست صورة قارة بأكملها، بآمالها ومخاطرها، وبحتمية أن الحوار الصادق والمعرفة الدقيقة يظلان السلاح المواتي في مواجهة عواصف السياسة والجغرافيا والتاريخ.
والثانية: أنني شعرت بدفء استقبال طاقم السفارة بالكامل، وأشكرهم جزيلا على مودتهم وكرم ضيافتهم، وأخص بالشكر الأستاذة هيام حسن، التي تعد مكسبا حقيقيا لكل مكان تنتسب إليه، ولا يفوتني أن أشكر بقية السادة الدبلوماسيين أعضاء تلك السفارة الموقرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ