تبدو التصريحات الأخيرة لأحد خطباء الجمعة المعروفين في الدولة حول أن “إنتاج المحتوى في وسائل التواصل الاجتماعي لا يجب أن يكون حرًا” وأن “حرية وسائل التواصل الاجتماعي أسوأ من حرية السارقين والقاتلين”، في ظاهرها بمثابة رد فعل ثقافي على وضع المجتمع اليوم، لكن من العمق تظهر الفجوة المتشكلة بين منطق الحوكمة التقليدي ووجود عالم الشبكات في إيران اليوم.
ولفهم هذه الفجوة لا بد من وجود نهج بإمكانه أن يوضح القوة، والتحكم، وتداول المعنى، والمقاومة الاجتماعية في العالم الجديد، وهو التحليل “الجذموري”.
“الجذمور” من أصل الكلمة اليونانية Rhizoma بمعني “جذر- كتلة” تقال على جذع النبات الذي ينمو تحت الأرض بصورة أفقية ويصبح له جذور وبراعم، بحيث لا يتوقف نمو الجذر النباتي الجذموري أبدًا، وحتى بعد قطعه يستمر في النمو.
عليه يمكن القول إن النهج الجذموري ينبثق من فلسفة العالمين الفرنسيين جيل دولوز، وفيليكس جوتاري، بحيث يكون في مقابل نموذج “الشجرة” المتفرعة إلى التفكير (بالمؤشرات المركزية الرئيسة، والتدرج، والتحكم)، نموذج “الجذمور” بحيث يعتمد على ميزات كالشبكة الأفقية، وتعددية المركزية، والجريان، والمنظمة لذاتها.
في العقود الأخيرة، أوضح منظرو الإعلام والعلوم السياسية أن القوة في عصر الرقمنة، وليس في المركز، بل تتدفق في وسط روابط شبكة ما، ومن هنا، تحول التحليل الجذموري إلى أداة فعالة لفهم الحركات الاجتماعية الشبكية، واضطراب الرأي العام، وانهيار المرجعيات الرسمية، وتغير القوة الناعمة، والاحتجاجات الجارية.
وكان الكاتب قد أكد في مقالة له من قبل في جريدة “آرمان امروز” (بالعربية: الآمال اليوم) يوم ١٢ آبان ١٤٠٤هـ. ش. الموافق ٣ نوفمبر ٢٠٢٥م على ضرورة الاستفادة من هذا النهج لتحليل التغيرات الإعلامية والاجتماعية في إيران.
وفي مثل هذا الإطار، فإن الكلام المطروح بشأن “منع حرية إنتاج المحتوى” نوع من الإصرار على الحفاظ على منطق الشجرة الحاكمة، ذاك المنطق المؤمن بأن الرواية لا بد أن تنتقل من مركز الإنتاج إلى المجتمع، والتحكم المركزي هو شرط الحفاظ على النظام.
لكن الأرضية الاجتماعية لإيران اليوم غير منسجمة مع هذا النمط، إذ إن ملايين المستخدمين منتجون للمضامين في الوقت ذاته، بحيث تتحرك الروايات من مسارات غير خطية لا حصر لها، والسيطرة المتمركزة بشكل عملي غير ممكنة، ودون ضغط، كما أن المسارات الوحيدة الأحدث، والأكثر تحت الأرض، وما لا يمكن تنبؤه، كل ذلك سيعمل على تنشيط إنتاج المحتوى.
هذا الوضع بالضبط الذي أكد عليه دولوز وجوتاري في وصف الجذمور.
من الزاوية نفسها، يمكن رؤية إحدى النماذج البارزة للتوجه التدريجي لأقسام من الحكم إلى جذمور المجتمع الإيراني في تراجع الحكومة الرابعة عشرة عن “لائحة مواجهة المحتوى المخالف للواقع”.
كانت تلك اللائحة تسعى إلى أن المرجعية الرسمية تُمركز تحديد “نسخة موافقة للواقع” في يد الحكومة، لكن ردود الفعل المجتمعية المتوسعة، والخبيرة، والإعلامية أظهرت أنه في ميدان جذمور إيران، لا يمكن لأي قوة أن تكون المرجع الوحيد لتحديد الحقيقة.
إن التراجع عن هذا الطرح كان عمليًا نوعًا من قبول هذا الواقع إذ إن إدارة المجتمع اليوم ممكنة فقط بالمشاركة، والشفافية، والحوار، والسعي من أجل وصف الحقيقة الرسمية فقط يزيد الفجوة بين الحكومة والمجتمع.
وفي مثل هذه الوسائل، فإن تشبيه حرية المحتوى بحرية “السارق والقاتل” نتيجة للمسافة المفهومة نفسها.
إن الشبكات الاجتماعية اليوم من المكان نفسه تبث التعليم، وإيجاد الهوية، والإشعارات، والمشاركة المجتمعية، والتوظيف، وخلق السرد وحتى المعنى السياسي للإيرانيين فيها.
كما أن القيود الشديدة لهذه الوسائل، عبارة عن قيود للحياة الاجتماعية بشكل عملي، وليس مواجهة انعدام الأمن.
ولقد أوضحت تجربة الأعوام الأخيرة أن كل موجة من وضع القيود فقط أدت إلى تعزيز ذكاء الشبكة، وتقوية وسائل الإعلام الموازية، وإضعاف ثقة الجمهور.
وبالتالي فإن الأزمة الحقيقية في المجتمع الإيراني ليست “الإفراط في حرية المحتوى”، بل الأزمة تكمن في عدم تطابق بُنية الحُكم مع “المنطق الجَذموري للمجتمع”.
ففي العالم الجديد، انتقلت السلطة من السيطرة إلى الارتباط، ومن الرقابة إلى المشاركة، ومن المركزية إلى الشبكة.
وما دام الحُكم لا يعترف بهذا الانتقال، فإنّ الفجوة بين الدولة والمجتمع ستزداد اتساعًا يومًا بعد يوم.
كما أنّ إدارة الفضاء الافتراضي تتطلّب فهم الأرضية الشبكية؛ تلك الأرضية التي لا يمكن إدارتها بالأوامر، بل بفهم منطقها الجَذموري.
ــــــــــــــــــــــــ
مقالة بعنوان “کنترل فضای مجازی در میدان ریزومی ایران” (بالعربية: التحكم في وسائل التواصل الاجتماعي في ميدان جذمور إيران). بقلم: الدكتور علي ميرزا محمدي كاتب صحفي ومحلل في شؤون إيران الاجتماعية، منشورة في جريدة اعتماد الإصلاحية (بالعربية: الثقة) بتاريخ ٢٥ آبان ۱۴۰۴هـ. ش. الموافق ١٦ نوفمبر ٢٠٢٥م.
