تشهد الساحة الإقليمية في الآونة الأخيرة تصاعدًا في الهجمات السياسية ضد جماعة حزب الله اللبنانية، بعد أن طرحت بعض القوى الداخلية، برئاسة رئيس الوزراء نواف سلام ورئيس الجمهورية جوزيف عون، وبدعم من الولايات المتحدة وإسرائيل، قرارًا يقضي بإنهاء امتلاك حزب الله للسلاح خارج إطار الجيش اللبناني، بحيث تصبح القوة العسكرية حصرًا بيد المؤسسات الرسمية للدولة.
اقرأ أيضا:
ويستند هذا القرار، وفق ما يطرحه مؤيدوه، إلى ما يصفونه بـ”التطبيق الكامل” لاتفاق الطائف لعام 1989م، وقرارات مجلس الأمن، ولا سيما القرار 1559 الصادر عام 2004، الذي دعا إلى حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها.
وبالرغم من أن استثناء حزب الله حينها اعتبر ظرفيًا ومؤقتًا، فإن الحزب يرى أن شرعية سلاحه قائمة ما دام الاحتلال الإسرائيلي مستمرًا، ولهذا، قابلت الجماعة قرار نزع السلاح بالرفض، مؤكدة أن سلاحها شرعي بموجب اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، باعتباره أداة مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، خاصة مع استمرار احتلال مزارع شبعا وتكرار الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان.
الأبعاد الإستراتيجية لنزع سلاح حزب الله
تشير التطورات الإقليمية الأخيرة إلى أن الغاية من نزع سلاح حزب الله لا تقتصر على البعد السياسي فحسب، بل تأتي ضمن المساعي الأمريكية لتصفية وكلاء إيران الإقليميين، ويتزامن ذلك مع إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن الولايات المتحدة تخوض حربًا على ثماني جبهات، سبع منها ضد إيران ووكلائها.
ويرجح مراقبون دوليون أن تلجأ إسرائيل إلى الدفع بقوات مسلحة سورية، لتنفيذ هجوم على منطقة البقاع داخل الأراضي اللبنانية، بالتزامن مع خرق معاهدة وقف إطلاق النار واستئناف الهجمات الصاروخية على جنوبي لبنان، بحيث يهدف هذا التصعيد إلى جر حزب الله إلى مواجهة عسكرية مباشرة، وفتح جبهتي الجنوب والبقاع في آن واحد معا، بما يؤدي إلى استنزاف الحزب وتشتيت قدراته العسكرية.
اقرأ أيضا:
ويأتي هذا السيناريو في إطار إستراتيجية الحرب بالوكالة التي قد تعتمدها إسرائيل من خلال استغلال جماعات مسلحة غير نظامية لتنفيذ مهام ميدانية تخدم أهدافها، بما يقلل من كلفة التدخل العسكري المباشر، خصوصا وأن منطقة البقاع إحدى أهم معاقل نفوذ حزب الله، فيما يرى هؤلاء المراقبون أن الجماعات المسلحة قادرة على تشكيل تحديات جدية للمقاومة الإسلامية في لبنان هناك.
يعزز ما سبق أن الحدود الشرقية للبقاع لا تزال مفتوحة نسبيًا أمام التهريب، لاسيما في بلدات مثل قصر والقاع، ووفقًا لصحيفة جارديان البريطانية، فقد حاولت السلطات السورية الجديدة وقف شبكات التهريب بعد سقوط بشار الأسد، غير أن الاشتباكات المسلحة استمرت بينها وبين مجموعات موالية لحزب الله.
وقد شهدت الحدود أحداثًا خطيرة، أبرزها اشتباكات 16 مارس 2025م، بين قوات سورية وقبائل لبنانية، وهذا يعكس استمرار النزاعات حول مسارات تهريب السلاح، وهي المسارات التي يعتمد عليها الحزب عبر سوريا، من خلال وحدات لوجستية متخصصة مثل “الوحدة 4400″، التي تتولى تنسيق تسليم الأسلحة برًا وجوًا عبر مطار بيروت، بالتعاون مع فيلق القدس الإيراني.
هذا الواقع يُعد سببًا كافيًا يدفع إسرائيل لتفعيل واحد أو أكثر من السيناريوهين التاليين:
1ــ التحريض على مواجهة قد تبدأ بضربات جوية أو عمليات خاصة تستهدف مسارات التهريب.
2ــ استغلال تلك الضربات كغطاء لتحريك جماعات بالوكالة نحو مناطق نفوذ حزب الله.
وتحمل هذه الأجندة الغربية، تحديدًا، أربع نقاط إستراتيجية أساسية، وهي:
أولًا: تدرك الولايات المتحدة وإسرائيل أن حزب الله يمتلك قدرات تفوق بكثير قدرات الجيش اللبناني في مواجهة أي اعتداء إسرائيلي، سواء من حيث ترسانته الصاروخية، أو طائراته المسيرة، أو قواته البرية المدربة، القادرة على صياغة سيناريوهات تصعيدية ضد الاحتلال الإسرائيلية في حال أقدم على أي عملية عدوانية جديدة ضد لبنان.
من أجل ذلك، يعتزم صانع القرار الأمريكي والإسرائيلي تصعيد الحرب السياسية والنفسية ضد حزب الله، بالتوازي مع تمهيد الساحة لمواجهة محتملة بين جماعات سورية مسلحة وحزب الله في لبنان، وتزداد احتمالية هذه المواجهة إذا أخذنا في الاعتبار، وفق اعترافات إسرائيلية، أن حزب الله تمكن بعد وقف إطلاق النار مع الاحتلال من إعادة بناء قدراته واستعادة جاهزيته القتالية بنجاح.
ثانيًا: يسعى صانع القرار الغربي إلى تعزيز قاعدة معلوماته الاستخباراتية حول حزب الله في لبنان، ويرى في اندلاع مواجهة بين المسلحين السوريين وحزب الله فرصة ثمينة لرصد تحركات الحزب وتتبع تنقلات قواته ومعداته بدقة أكبر، ومن خلال هذه المؤامرة، سيتمكن من تحقيق مكاسب نوعية في حرب المعلومات، بما يضر بالمقاومة ويضعف قدرتها على المناورة.
اقرأ أيضا:
ومن المهم التأكيد على أن الحكومة السورية الراهنة تُعد عدوًا عقائديًا لحزب الله بسبب خلفيته المذهبية ودوره في دعم الدولة السورية على عهد بشار الأسد ضد الجماعات المسلحة منذ عام 2013، ولا سيما في معارك القصير والقلمون.
ثالثًا: إذا نجحت إسرائيل في دفع المسلحين السوريين إلى مواجهة مباشرة مع حزب الله، فسوف تتجنب أي مغامرة عسكرية مباشرة ضد لبنان، وبالطبع، هذا سيساعدها على دحض الرواية القائلة بأن سلاح المقاومة موجه فقط ضد الاحتلال الإسرائيلي لحماية أمن لبنان.
وإذا ما استمرت الجهود السياسية الداخلية لنزع سلاح المقاومة، ستسعى إسرائيل إلى إدارة حرب بالوكالة عبر سوريا ضد حزب الله لتحقيق مكاسبها بأقل كلفة مباشرة، ولكن هذا الإجراء قد يكون في مصلحة حزب الله لأن صده لأي هجوم مباشر أو غير مباشر على لبنان سيمنح روايته شرعية أكبر.
رابعًا: تعمل إسرائيل على ترسيخ رسالة مضللة ومشوهة لدى الرأي العام اللبناني، مفادها أن أمن لبنان مهدد فقط بسبب سلاح المقاومة، في محاولة لتصوير حزب الله، الذي يُعد أحد أعمدة الأمن الوطني، على أنه مصدر تهديد للاستقرار والأمان، وتستهدف هذه المعادلة رفع مستوى الضغوط السياسية والعسكرية على حزب الله، مع تعزيز الضغط الشعبي اللبناني ضده.
وقد أظهر اللبنانيون في أكثر من مناسبة دعمهم الواضح للمقاومة، ولا سيما خلال مراسم تشييع أمين عام حزب الله قبل السابق، حسن نصر الله، التي شهدت حضورًا شعبيًا واسعًا، أكد من خلالها المشاركون أن حزب الله متجذر بعمق في الأرض اللبنانية، وأن استهدافه بالمؤامرات ليس بالأمر السهل.
الموقف الإيراني في الصراع
كان الموقف الإيراني تصعيديًا بعد قرار نزع سلاح حزب الله، حيث صرح وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي بأن الخطوات المقبلة التي سينتهجها حزب الله بيده، ستسانده إيران فيها.
وبالتوازي مع ذلك، قال مستشار القائد الأعلى للثورة الإيرانية علي أكبر ولايتي إن طهران تعارض قرار نزع سلاح حزب الله، واصفًا هذا القرار بأنه “حلم بعيد المنال”، فيما وصف رئيس مجلس صيانة الدستور في إيران، آية الله أحمد جنتي، الحديث عن احتلال غزة بالكامل ونزع سلاح حزب الله بأنه “أوهام ساذجة”.
ولعل هذه التصريحات تكشف عن موقف رسمي واضح من إيران، يقوم على معارضة أي تدخل في سلاح حزب الله، واعتبار قرار نزع سلاحه مسألة أمن قومي إيراني من الدرجة الأولى.
في المقابل، قوبلت هذه المواقف الإيرانية برفض لبناني حازم، فقد عبر العديد من السياسيين والإعلاميين عن شجبهم لما وصفوه بالتدخل الإيراني في الشؤون الداخلية اللبنانية، وقد دفع هذا الرفض طهران إلى إرسال الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الجديد، علي لاريجاني، لزيارة لبنان في 13 أغسطس 2025م، جمع خلالها بين التفاوض مع القيادات اللبنانية من جهة، والتشديد على موقف بلاده الداعم للمقاومة من جهة أخرى.
اقرأ أيضا:
لكن، وبعد تصريحات رئيس وزراء لبنان نواف سلام خلال لقائه لاريجاني، التي أكد فيها أن التصريحات الأخيرة لبعض المسؤولين الإيرانيين مثل عباس عراقجي وعلي أكبر ولايتي “مرفوضة شكلاً ومضمونًا”، ألقى لاريجاني كلمة من داخل مرقد حسن نصر الله قال فيها: “إخوتي الأعزاء في حزب الله، قد يقابلكم البعض بالجفاء والحقد، لكن ذلك دليل على مكانتكم وأهميتكم”.
ويتضح من هذا التراشق الإعلامي أن التحركات الإيرانية تجاه لبنان تتسم بالعناد والمناورة في آن واحد، بما يشير إلى أن طهران لن تتراجع عن دعمها الكامل لمحور المقاومة، وأنها ماضية في إعادة تموضعها الإستراتيجي داخل هذا المحور، بهدف دفعه مجددًا إلى قلب المعادلة الإقليمية وتأمينه من أي مساعٍ غربية أو حتى خليجية لتفكيكه.
سيناريوهات التصعيد لمنع نزع سلاح المقاومة
على خلفية الموقف الإيراني الرافض، تتبنى الدوائر السياسية المغلقة في طهران عدة سيناريوهات مستقبلية خاصة معهد طهران الذي قال صراحة في مقالة بعنوان “حزب الله چه جوابی به خلع سلاح می دهد؟” ومعناها: “بماذا سيجيب حزب الله بشأن نزع السلاح؟”.
هذه السيناريوهات يغلب عليها الطابع التصعيدي والابتعاد عن الحلول المعتدلة في لبنان، من أبرزها:
1ــ إسقاط الحكومة عبر إعادة طرح الثقة بها، ووفقًا للدستور اللبناني، إذا لم تحصل الحكومة على ثلثي الأصوات مجددًا، تُعلّق مهامها مؤقتًا ولا تستطيع اتخاذ أي قرارات حتى موعد الانتخابات البرلمانية المقررة عام 2026م، ما يعني شللاً سياسيًا قد يمتد لفترة طويلة.
2ــ التصعيد في الشارع من خلال تفعيل الحشد الشعبي، على غرار ما حدث في 5 مارس 2005م، حيث يمكن لحزب الله وحركة أمل تنظيم مظاهرات واعتصامات وحشود جماهيرية ضخمة دعماً لسلاح المقاومة، وهو ما قد يدفع لبنان إلى دوامة من الاحتجاجات والصراعات السياسية والميدانية، ويزيد من تعقيد الأزمة ويهدد استقرار الحكومة.
3ــ السيناريو الأسوأ يتمثل في تكرار تجربة عام 2008م، حينما سعى رئيس الحكومة آنذاك فؤاد السنيورة إلى تعطيل مراكز اتصالات حزب الله وتغيير مدير مطار بيروت، ما أدى إلى اشتباكات مسلحة استمرت ثلاثة أيام، انتهت بسيطرة الحزب على بيروت وإجبار الحكومة على مغادرة العاصمة، ثم انعقاد حوارات في الدوحة لتشكيل حكومة وفاق وطني منحت المعارضة حق النقض، ومن المؤكد أن مثل هذا السيناريو يحمل مخاطر انهيار سياسي شامل.
في المجمل تبدو هذه الاحتمالات ليست بعيدة، خاصة في ظل احتمال توريط إسرائيل لبنان في حرب مع الجماعات المسلحة في سوريا، ما يجعل السيناريو الأخير هو الأخطر على مستقبل البلاد.
اقرأ أيضا:
ولهذا، يقترح بعض اللبنانيين المقربين من الرئيس جوزيف عون أن يتم نزع السلاح بشكل تدريجي وحذر، بحيث يسلم حزب الله الصواريخ والطائرات المسيرة، مع الاحتفاظ بالسلاح الخفيف لأغراض أمن الطائفة الشيعية، غير أن هذا المقترح قوبل برفض من فريق نواف سلام والمسيحيين المتشددين.
ويمكن القول إن هذا الطرح قد يكون جزءًا من مناورة سياسية لامتصاص الضغوط، دون نية حقيقية للتنفيذ، إلا أن المؤشرات تفيد بأن القيادة اللبنانية تتعرض لضغوط أمريكية تحول من دون الرجوع أي خطوات إلى الوراء.
خاتمة
تشي التطورات الأخيرة في لبنان بدور فاعل للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، التي تنسق خطواتها بشكل تدريجي، مستخدمة أدوات ضغط متعددة، بدءًا من ربط المساعدات الاقتصادية بالإصلاحات، وصولًا إلى التهديد بالعقوبات أو العزلة الدبلوماسية.
ويأتي ذلك في إطار مساعٍ لتفكيك محور إيران الإقليمي، وتعزيز عسكرة محيط نفوذها الجيوسياسي، وقد تدفع هذه الإستراتيجية لبنان نحو مشهد أشبه بـ”البلقنة” السياسية، أي تفكك الدولة عسكريًا واجتماعيًا، وانخراطها في صراعات داخلية معقدة تحكمها اعتبارات براجماتية وسياسية.
وفي المقابل، من المرجح أن تمضي إيران في خطواتها المستقبلية بضخ دعم كامل لأذرعها الإقليمية، وعلى رأسها حزب الله، بالتوازي مع تعزيز علاقاتها الأمنية والإستراتيجية مع روسيا والصين، في محاولة لاحتواء وإفشال المشروع الأمريكي في المنطقة.