من ثوابت السياسة في إيران هو متابعة كل شاردة وواردة تحدث في مصر، وبالتالي عند وقوع حدث بضخامة افتتاح المتحف المصري الكبير، الذي تكلف نحو مليار دولار؛ فإن دولة بحجم إيران يجب أن تراقبه وتتابعه وتدلي بدولها فيه وذلك للأسباب التالية:
1ــ أن افتتاح المتحف بوصفه أضخم حدث أثري في تاريخ العالم، تجاوز كونه مجرد حدث أثري يضاف إلى سجل الإنجازات التاريخية المصرية، إلى كونه يمثل إعلانا حضاريا عن عودة مصر إلى مسرح التأثير العالمي، على نحو يربط الماضي العريق بالحاضر الإستراتيجي، بعد سنوات الفوضى في 2011 وما بعدها.
اقرأ أيضا:
2ــ بالنسبة لإيران، يعد هذا الحدث محل متابعة دقيقة تجمع بين التقدير الثقافي والمراقبة السياسية؛ لأن القاهرة ليست مجرد عاصمة عربية، بل تعد بوابة الشرق إلى المتوسط ومركزا إستراتيجيا في شبكات القوة الإقليمية، خاصة بعد نجاحها في إقرار اتفاق السلام بين إسرائيل وحركات المقاومة في غزة.
3ــ تنظر إيران إلى مصر كونها الند الحضاري لها في الإقليم والعالم، بل إن هناك أصواتا في إيران تقر بالتفوق النوعي والكمي الهائل للحضارة المصرية على الحضارة الفارسية في كل الوجوه.
4ــ كانت مصر إقليما تابعا للحكم الفارسي الخالص في بعض عصور ما قبل التاريخ، لدرجة أن الأسرة السابعة والعشرين التي حكمت مصر في منف (525–404 ق.م) كانت فارسية خالصة، غير أن مصر الآن ــ في الإدراك الإيراني ــ صاحبة التجمع الديموجرافي الأكبر وصاحبة الجيش الأضخم والأحدث والأكثر جاهزية في تلك المنطقة من العالم.
5ــ الحرص الإيراني في الظرف الراهن على توطيد العلاقات مع مصر وتعميق الروابط بين البلدين الكبرين تلك التي تنامت على نحو ظاهر في العامين الأخيرين، واستثمار فائض القدرة المصرية على تحويل دورها إلى مركز للثقل الدبلوماسي والسياسي والأمني في الإقليم.
لذا جاء تناول إيران لافتتاح المتحف خليطا من الاحترام للإنجاز المصري، والبحث عن إشارات دبلوماسية ضمنية قد تعبر عن توازنات جديدة في المشهد الإقليمي، بما يعكس وعيا متقدما بأن القوة تقاس بالموارد والتحالفات، جنبا إلى جنب مع قياسها بالعمق الحضاري وقدرة الدولة على استثمار إرثها التاريخي لتحقيق مصالحها الوطنية.
تحاول هذه المقالة تقديم قراءة في إدراك إيران لافتتاح المتحف المصري الكبير من خلال الأبعاد الحضارية والسياسية والإعلامية.
أولا: الفهم الإيراني للبعد الحضاري والثقافي المصري
اهتمت الأوساط الإعلامية الإيرانية بافتتاح المتحف المصري الكبير، ووصفت الصحف الإيرانية مثل “إيران ديلي” و”جام جم” هذا الحدث بأنه “أعظم مشروع ثقافي في الشرق الأوسط خلال القرن الحادي والعشرين”.
والأكثر من ذلك أن وكالة فارس ركزت على هذا الافتتاح باعتباره أحد أهم الأحداث الأثرية في التاريخ؛ إذ يشهد الافتتاح عرض الكنز الكامل للملك الأكثر شهرة على مر العصور، “توت عنخ آمون”، لأول مرة في التاريخ، وذكرت أنه مع افتتاح المتحف المصري الكبير، سيتم عرض المجموعة الكاملة لهذا الملك، بما في ذلك قناعه الذهبي الشهير، وعرشه الملكي، وأسلحته، وهو أمر غير مسبوق في التاريخ.
اقرأ أيضا:
وبالتالي يمكن القول إن كل هذه الأوصاف تتجاوز مجرد التقدير الإعلامي وتشكل إقرارا ضمنيا بالمكانة الثقافية لمصر، وتعكس إدراك طهران أن الحضارات القديمة، سواء المصرية أو الفارسية، ما تزال تنتج شرعية رمزية قادرة على إعادة صياغة موازين القوة الثقافية في زمن الصراعات الحديثة.
ومن منظور إيراني مجرد، يرمز هذا المتحف إلى نموذج للهوية التاريخية التي تسعى إيران إلى إبرازها، كقوة حضارية بديلة عن المركزية الغربية، وتأكيد أن الشرق العميق يمتلك مفاتيح التأثير الرمزي والثقافي.
عليه يصبح المتحف المصري الكبير أكثر من مجرد صرح أثري، ويتجاوز ذلك إلى كونه رسالة رمزية عن قدرة التاريخ المعنوية على توجيه الحاضر بقوته المادية، وعن أن الحضارات العريقة تستطيع إنتاج سرديات فكرية وثقافية تترك أثرا يتجاوز الحدود الجغرافية.
ثانيا: البعد السياسي والدبلوماسي للمتحف من وجهة نظر إيرانية
على الرغم من أهمية الحدث، لم تصدر وزارة الخارجية الإيرانية أي تصريحات رسمية مباشرة، وهو أمر يندرج ضمن سياسة الحياد البناء التي تنتهجها طهران في التعامل مع إنجازات القاهرة الحديثة.
غير أن وسائل الإعلام القريبة من الحكومة ركزت على تغطيات إيجابية، وهو سلوك حميد يعكس رغبة واضحة في تجنب التوترات، وإيصال رسالة ضمنية بأن إيران مستعدة للتعاون مع مصر في فضاءات ثقافية غير مؤدلجة أو مسيسة.
اقرأ أيضا:
ولعل هذا الصمت الإيجابي يبرهن عن ذكاء دبلوماسي لإيران، إذ يسمح لطهران بمراقبة تطور صورة مصر الدولية دون أن تبدو في مواجهة مع مشروع يعيد لمصر مركزيتها التاريخية، ويترك الباب مفتوحا أمام التعاون الثقافي مستقبليا من دون إثارة حساسيات أمنية أو سياسية، وهو ما قاله رضا صالحي أمیري، وزير التراث والثقافة والسياحة الإيرانية، بالحرف الواحد عندما زار القاهرة في يونيو 2025م.
بعبارة أخرى، فإن السياسة الإيرانية هنا تقوم على قاعدة “تطبيع الثقافة قبل السياسة”، حيث تسبق المبادرات الثقافية أي محاولة للتأثير الدبلوماسي التقليدي، بما يعزز من مصداقية إيران في إطار الحوار الحضاري الإقليمي الذي تبناه كل رئيس صعد إلى قمة السلطة في قصر الباستور بطهران.
ثالثا: البعد الإعلامي والرمزي لافتتاح المتحف من وجهة نظر إيران
من يتابع التغطية الإعلامية الإيرانية لحدث افتتاح المتحف المصري الكبير بتحليل وتمحيص يجد أن التلفزيون الإيراني الرسمي ركز على الجوانب الجمالية للمتاحف، خاصة عرض كنوز توت عنخ آمون للمرة الأولى كاملة، متجنبا التعليق على السياسة الخارجية لإيران تجاه مصر أو العلاقات بين البلدين.
ما يعني أن انتقاء واعيا للزاوية التي تبرز الفن والتاريخ بدلا من الانخراط في الاصطفافات السياسية، ويجعل الحدث نموذجا لما تطلق عليه طهران “القوة الناعمة الآمنة”، بمعنى أن إيران تحاول إبراز نجاح مصر في هذا الحدث كونه رصيد يضاف إلى سجلها الحضاري كونها أيضا دولة صاحبة تاريخ عريق وحضارة ضاربة في جذور الماضي.
اقرأ أيضا:
ولقد حاول الإعلام الإيراني الاستفادة من التجربة المصرية كنموذج موازي لما تقوم به إيران في الترويج لتراثها الفارسي والإسلامي من منظور إستراتيجي بحت، بحيث يصبح التراث أداة تعزيز للشرعية الثقافية في الخارج، ويستخدم كجسر لبناء صورة إقليمية ودولية إيجابية.
بالتالي، يتضح أن الإعلام ليس مجرد ناقل للحدث، بل جزء من إستراتيجية ذكية لاستثمار الثقافة كأداة نفوذ، تتيح لإيران تعزيز حضورها الرمزي في المنطقة من دون المواجهة المباشرة مع الآخر الغربي الذي يفد إلى الشرق ويقف منبهرا أمام منجزات الأجداد في هذا الجزء من العالم.
خاتمة
 في المجمل، يعكس تناول إيران لافتتاح المتحف المصري الكبير رؤية جديدة في التفكير الإقليمي تقوم على مفهوم “تطبيع الثقافة قبل السياسة”، أي توسيع مساحات التواصل الحضاري تمهيدا لإعادة بناء العلاقات الرسمية عند تغير الظروف.
اقرأ أيضا:
وبالتالي فإن هذا المتحف من منظور طهران، ليس مجرد صرح سياحي مصري، ولكنه علامة على أن الذاكرة التاريخية يمكن أن تتحول إلى جسر دبلوماسي إذا أحسن استثمارها، بمعنى أن القوة الحقيقية للأمم العريقة لا تقاس فقط بما تملكه من موارد أو تحالفات، بل بعمقها الحضاري وقدرتها على استخدام تراثها التاريخي كأداة تأثير في المشهد الإقليمي والدولي.
عليه أصبح المتحف المصري الكبير من وجهة نظر إيران رمزا حيا على قدرة الثقافة والتاريخ على تشكيل العلاقات الدولية، وعلى أن الإنجازات الحضارية يمكن أن تكون منصة لإعادة التوازن وإشاعة الاحترام المتبادل بين الأمم، وهو ما أكده الرئيس محمد خاتمي صاحب نظرية “حوار الحضارات”.
ـــــــــــــــ
🛑 للانضمام إلى النشرة البريدية للمنتدى على واتساب من خلال الرابط التالي:
https://chat.whatsapp.com/HRhAtd7IrydFFx6i1zSI7S
🛑 رابط قناة الدكتور محمد محسن أبو النور على تليجرام:
https://t.me/iran_with_egyptian_eyes
🛑 رابط الحساب الرسمي للدكتور محمد محسن أبو النور على فيسبوك:
https://www.facebook.com/mohammedmohsenaboelnour1