أعاد “سيرجي لافروف” مؤخراً إحياء الرواية المثيرة للجدل لـ”آلية العودة السريعة للعقوبات” (سناب باك) في مقابلة، وقال عن كيفية إدراجها في الاتفاق النووي: “بصراحة، إذا وافق شركاؤنا الإيرانيون على مثل هذه الصيغة، فقد كان ذلك فخاً قانونياً ولم يكن لدينا سبب للاعتراض”.
هذه الجملة القصيرة لم تقتصر على إزاحة الغبار عن أحد أكثر الأجزاء غموضاً في الاتفاق النووي، بل أحيت أيضا لغزا قديما، وهو الإجابة عن سؤال: مَن الذي صمَّم حقاً “آلية العودة السريعة للعقوبات”؟
يقول الروس إن آلية العودة السريعة (سناب باك) كانت فخا نصبه الغربيون لـ”محمد جواد ظريف”.
وأوضح “لافروف” أنه يتفهم سبب دعم “محمد جواد ظريف”، وزير الخارجية الإيراني آنذاك، لهذه الصيغة؛ لأن إيران كانت تعتقد أنها لن تنتهك التزاماتها أبداً، وبالتالي لا يوجد سبب للقلق من تفعيل “آلية العودة السريعة للعقوبات”.
لكن القصة، كما أظهر التاريخ، سارت في مسار آخر، وهو: لمَ تنتهك إيران الاتفاق؟! لكن الولايات المتحدة انسحبت منه، وتخلفت الدول الأوروبية، في صمت طويل، عن أداء دورها.
وتابع لافروف: “الأوروبيون، الذين كان من المفترض أن يسعوا للحفاظ على الاتفاق، بدأوا بدلاً من ذلك بإقناع إيران بالتراجع. وقالوا: لقد انسحب الأمريكيون، لا تنزعجوا، لِنقترح موضوعا آخر، استسلموا هنا’.
في النقطة التي أدلى فيها لافروف بهذه التصريحات، يبدو من المثير للاهتمام مراجعة رواية شخص آخر كان حاضراً في الغرف المغلقة بفندق كوبورغ في فيينا.
تتحدث ويندي شيرمان، في مذكراتها المُعنونة “الخوف يعني الفشل” عن الفخ القانوني ذاته، ولكن من زاوية مختلفة تماما.
تكتب شيرمان قائلة: “كان إدراج آلية العودة السريعة (سناب باك)، أو العودة التلقائية لعقوبات الأمم المتحدة، أحد الأجزاء الأخيرة والأكثر صعوبة في المفاوضات. لقد كان لافروف هو من كسر الجمود بطرح إبداعي.”
يقول الأمريكيون إن آلية العودة السريعة للعقوبات (سناب باك) أدرجت في الاتفاق النووي بناءً على اقتراح من “لافروف”، وزير الخارجية الروسي.
ووفقاً لرواية شيرمان: لم تكن دول مجموعة (1+5) تريد أن تسلك مجددا المسار المُرهِق لإصدار قرارات جديدة في مجلس الأمن، ولكن في الوقت نفسه كان عليها إيجاد طريقة للتعامل مع أي انتهاك إيراني محتمل. وفي الوقت ذاته، لم تكن روسيا تريد أن تفقد صلاحية حق النقض “الفيتو”.
كان الحل، على الطريقة الروسية، دقيقاً ومعقداً: إذا اعتقد أحد أعضاء المجموعة أن إيران قد انتهكت الاتفاق، يمكنه أن يطلب من مجلس الأمن طرح قرار للتصويت، وهو قرار كان يطلب ظاهرياً استمرار رفع العقوبات. وإذا استخدم أحد الأعضاء، كالولايات المتحدة مثلاً، حق النقض (الفيتو) ضد هذا القرار، فإن العقوبات ستعود تلقائياً. بعبارة أخرى، لم تُلغَ العقوبات أبداً، بل وُضِعت فقط في حالة تعليق؛ وهي معادلة أظهرت اليوم، بعد 10 سنوات من التوقيع على الاتفاق النووي، معناها المرير.
روايتان وتناقض واحد
الآن وبعد مرور سنوات على تلك المفاوضات الشاقة، يقول لافروف إنّ “آلية العودة السريعة للعقوبات” كانت من إبداع ظريف؛ بينما تؤكد شيرمان أن لافروف نفسه كان مهندسها.
يكتسب التناقض بين هاتين الروايتين معنى جديدا في ظل ظروف طارئة، حيث تم تفعيل “آلية العودة السريعة للعقوبات” مرة أخرى ضد إيران قبل أسابيع قليلة، وقام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، استنادًا إلى البند نفسه، بإحياء العقوبات السابقة.
هذه العقوبات التي يعتبرها عباس عراقجي، وزير الخارجية الإيراني (في حينها)، باطلة ويعتقد أن: «ادعاء أمريكا والدول الأوروبية الثلاث بعودة القرارات الملغاة هو ادعاء باطل ولا يترتب عليه أي أثر قانوني».
لكن ما عبّر عنه عراقجي بلغة قانونية، كان صدى في الرأي العام للسؤال القديم ذاته: هل وقعت إيران في فخ تصميم ذكي منذ البداية؟!
المادة 36.. القلب الخفي للاتفاق النووي
يجب البحث عن إجابة هذا التساؤل في المادة 36 من الاتفاق النووي، وهي مادة كانت في الظاهر مجرد آلية لحل الخلافات، لكنها تحولت عمليًا إلى مفتاح لعودة العقوبات.
تنص هذه المادة على أنه يحق لأي طرف من الأطراف، سواء إيران أو أعضاء مجموعة (5 + 1) إذا اعتقد أن الطرف المقابل لم يلتزم بتعهداته، أن يحيل الموضوع إلى اللجنة المشتركة، وفي حال عدم التوصل إلى اتفاق، تُرفع القضية إلى مستوى وزراء الخارجية، وفي النهاية يمكن لأي دولة أن ترفع الموضوع إلى مجلس الأمن.
وهناك، يكفي استخدام “فيتو”، واحد لكي يبدأ كل شيء من جديد في إشارة إلى “آلية العودة السريعة للعقوبات”.
بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق في عام 2018، انتظرت إيران لمدة عام، ثم، في مايو 2019م، وردًا على عدم التزام أوروبا، بدأت إيران بخمس خطوات لتقليل التزاماتها بموجب الاتفاق.
كانت كل واحدة من هذه الخطوات علامة على عودة طهران التدريجية إلى نقطة البداية ذاتها، وفي ذلك الوقت، أعلن المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران، أن هذه الإجراءات تتم في إطار الاتفاق النووي واستنادا إلى المادة 36 نفسها، لكن اليوم، يستخدم الغرب المادة ذاتها ضد إيران.
الطريق الملتوي لاتخاذ القرارات
تم التوقيع على الاتفاق النووي في فيينا في صيف 2015م، وبقيت الأجواء الحارة والمرهقة لتلك الأيام عالقة في ذاكرة الدبلوماسيين الإيرانيين والغربيين؛ أيام كانت فيها ساعات طويلة من المحادثات تنتهي أحيانًا بجملة واحدة.
عندما وُضعت الأقلام على الورق والتُقطت الصورة التاريخية، كان ظريف يبتسم، وكان كل من جون كيري، وشيرمان، ولافروف، وموجوريني ينظر إلى الآخر بنظرات ممزوجة بالرضا والتردد.
لم يكن أحد يعلم أن تلك البنود القانونية والجافة ظاهريًا ستتحول بعد سبع سنوات إلى نصل ذي حدين، وفي تلك الأيام، قلما التفت أحد إلى تعقيد الكلمات في الملاحق القانونية، ولكن الآن، تحدد تلك الكلمات نفسها مصير السياسة الخارجية للدول.
عودة الظلال
في الأشهر الأخيرة، ومع تفعيل “آلية العودة السريعة للعقوبات”، عادت القرارات التي سبقت الاتفاق النووي إلى الواجهة مرة أخرى، وفي الأمم المتحدة، يتحدث ممثلو الولايات المتحدة وأوروبا عن “ضرورة الرد على سلوك إيران”، في حين تطالب روسيا والصين، كما هو متوقع، بالحوار وضبط النفس.
في طهران، تتأرجح وسائل الإعلام بين روايتين: رواية لافروف عن “الفخ القانوني الغربي”، ورواية شيرمان عن “الخطة الروسية لـ”آلية العودة السريعة للعقوبات”، ويقول المحللون إن كلتا الروايتين تعبران عن جزء من الحقيقة.
كان الاتفاق النووي نتاج تسوية أراد الجميع من خلالها تحقيق مكاسب دون تكبد خسائر، وبالنسبة للغرب، كانت “آلية العودة السريعة للعقوبات” ضمانة بأن إيران لا يمكنها الخروج عن السيطرة، وبالنسبة لإيران، كانت ضمانًا بأن هناك مسارًا قانونيًا للرد في حال نكث الآخرون بالعهود، لكن التاريخ أظهر أن هذه المادة، مثل السيف ذي الحدين، ارتد على كلا الطرفين.
ما وراء الكواليس السرية لاتخاذ القرار
في غرف مفاوضات فيينا، كانت كل كلمة تولد بعد ساعات من الحوار، وكان الدبلوماسيون الإيرانيون يخشون من تقييد حقوق البلاد، بينما كان الممثلون الغربيون يسعون إلى آلية تمكّنهم من الرد في حال اندلاع أزمة، من دون الحاجة إلى إجماع عالمي.
وفي نهاية المطاف، أوجد مقترح لافروف، أو ربما الخطة المشتركة للفرق، توازناً هشاً بين هذين الهدفين، ولم يكن أحد يعلم كيف ستُفعَّل تلك الآلية ذاتها ضد إيران بعد عشر سنوات.
عندما انسحب دونالد ترامب من الاتفاق النووي بتوقيع أمر رئاسي في عام 2018، دخل العالم مرة أخرى عصراً جديداً من انعدام الثقة.
وقد دافع لاحقاً عن هذا القرار في الكنيست الإسرائيلي، واعتبره مصدر فخر له، كما قال بنيامين نتنياهو بجانبه بلهجة انتصارية: “أشكر ترامب على ثلاثة إجراءات: اغتيال قاسم سليماني، والانسحاب من الاتفاق النووي، ودعم عملية “مطرقة منتصف الليل”.
كانت عبارة “مطرقة منتصف الليل” إشارة إلى الغارات الجوية السرية ضد المنشآت النووية الإيرانية، وخلف هذه الكلمات، كان يلوح ظل حقيقة مريرة: الاتفاق الذي كان من المفترض أن يمهد الطريق للدبلوماسية تحوّل الآن إلى أداة لتبرير المواجهات العسكرية.
اتفاق وسط النار والأمل
كان الاتفاق النووي الإيراني في جوهره محاولة لإنهاء عقود من انعدام الثقة، لكن انعدام الثقة ذاته بقي كامناً في شكل بنود ضمن نصه، وهي خطوط مهدت الطريق لاحقاً للعودة إلى الأزمة، وفي أي اتفاق يُوقَّع بين أعداء قدامى، توجد دائماً بنود لا تُكتب على أساس الثقة بل على أساس الخوف والحذر.
بعد مرور 10 سنوات على توقيع الاتفاق، يقف العالم مرة أخرى أمام هذا التساؤل: هل الاتفاق النووي الإيراني لا يزال حيا، أم لم يتبق منه سوى ظله؟!
نهاية مفتوحة
اليوم، وبينما يتكرر ذكر “آلية العودة السريعة للعقوبات” في عناوين الأخبار، يندر أن يتذكر أحد أن هذا البند كان مُعداً في الأصل ليكون وسيلة لـ”حل الخلاف”، وليس إيذانا ببدء العقوبات مرة أخرى.
في غضون ذلك، تظل الروايات متناقضة: يتحدث لافروف عن “فخ غربي”، وتشير شيرمان إلى “مبادرة روسية”، بينما يصر عراقجي على “بطلان ادعاء عودة العقوبات”.
لكن لربما تكمن الحقيقة في منتصف هذه السطور، في مكان ما بين اليقين والشك، وبين الأمل والواقع. وربما هنا بالتحديد يجب أن نسأل: هل كان “الفخ القانوني” في الاتفاق النووي من صنع إيران أم الغرب أم روسيا؟!
قد يكون الجواب صعبا، لكن الاتفاق النووي لم يكن مجرد توافق بين الحكومات، بل كان مرآة لثقة الإنسان وانعدام ثقته. إنه اتفاق يمكن فيه حتى لبند قانوني واحد أن يغير مصير الأمم.
ــــــــــــــــــ
مقالة مترجمة عن الفارسية بجريدة “سازندگی” الإصلاحية (بالعربية: البناء) بعنوان “مخترع اسنپ بک” (بالعربية: مخترع آلية العودة السريعة للعقوبات) للكاتب أبو الفضل خدايي، بتاريخ: ۲۴ مهر ۱۴۰۴هـ. ش. الموافق الخميس 16 أكتوبر 2025م.
